فيالإنتماء والتواصل والوحدة
ملاحظة:
هذه المقالة هي الفصل الثاني من دراسة متكاملة تحت عنوان “في الوحدة والتداعي” نشر الفصل الأول منها تحت عنوان “وعي الهوية العربية: منظور تاريخي”.
الفصل الثاني
فيالإنتماء
والتواصل والوحدة
مــدخـل
تسببت الهزائم والتداعيات التي منيت بها الأمة العربية، منذ نكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967م في إلقاء ظلال كثيفة على الفكرة القومية، جعلت القوى المعادية لها تتجاسر في طرح تساؤلات وشكوك تتجاوزها، لتصل حد التساؤل عن هدف الوحدة العربية ذاته، مشككة في جدواه وإمكانية تحققه. وفي هذا الاتجاه طرحت مواقف، وحدثت محاولات لبعث هويات مندثرة، تكون بديلا عن الهوية العربية، وجرت محاولة فصل الإسلام عن البيئة التي انبثق منها، والترويج لانقطاع في الثقافة والزمان والمكان.
يسلط هذا الفصل الضوء بشكل سريع، على بعض القضايا التي احتدم حولها الجدل، منطلقا من التسليم بأن فهم الدور الحضاري الذي لعبه العرب في تاريخهم، يقتضي في أولوياته فهم البيئة التي انبثقت منها النهضة العربية الحضارية، التي هي جزيرة العرب بشكل عام، والمجتمع المكي بشكل خاص، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت وتفاعلت فيها. كما يقتضي فهم علاقة هذه البيئة بالمناطق المحيطة بها، العراق ومصر وبلاد الشام، ووعي التسرب العربي الثقافي والقومي الذي حدث فيها قبل الإسلام، وساهم بشكل سريع ومذهل في تعريبها، وما نتج عن ذلك من تلازم بين العروبة والإسلام.
ولأن التاريخ سلسلة متعاقبة متواصلة لا تنقطع من الأحداث، قوانينها التقدم والإنحناء والمرحلية، ولكل مرحلة بصمة تمنحها خصوصيتها، فإن الإلتزام بقضية النهضة العربية ومستقبلها ينبغي أن ينطلق من وعي طبيعة المرحلة التي هيأت للإنتقال لعصرنا الراهن ومنحته سماته، من خلال التعرض للظروف التي حكمت مجرى النضال الوطني التحرري العربي في العصر الحديث، وبشكل خاص التلازم والوحدة في ذلك النضال، وتداخل المبادئ والأفكار التي رفعتها الحركة الوطنية العربية.
ومع أن شعارات الحركة الوطنية العربية، في كثير من حالاتها، تجاوزت المطالب الإقليمية، وتبنت قضايا قومية عكست تضامن العرب وتلاحم مواقفهم، بلغت حد التطوع في القنال والمشاركة في مواجهة جيوش الإحتلال، فإن الظروف التاريخية التي مرت بها الأقطار العربية، كل على حدة، حكمت مستوى ونوعية المواجهة ضد الإستعمار بين قطر وآخر.
وقد سهلت تلك الظروف للقوى الإستعمارية الإلتفاف على الحركة الشعبية في الوطن العربي، وتعميق واقع التجزئة، مما أدى إلى تعطيل مشروع النهضة وقيام دويلات صغيرة لا تمتلك قدرة الدفاع عن سيادتها، وتحقيق التنمية لشعوبها. وقد ترك ذلك الواقع بصمات حادة على مستقبل النضال العربي، وساهم في الإنتكاسات المروعة التي شهدتها قضية الوحدة.
إن إعادة الروح للعمل القومي تقتضي، فيما تقتضيه تسليط الضوء على عوامل القوة والضعف في التجربة القومية، وأن يعاد لهدف الوحدة مكانه. فالانكسارات في أمة، تملك عمق التاريخ، ليست سببا للتراجع عن أهدافها العظيمة، ما دام طريق العرب للنهوض غير ممكن خارج إطار الأمن القومي الجماعي وتحقيق الوحدة العربية.
مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام
اعتاد المؤرخون المسلمون، عند تناولهم لأوضاع الجزيرة العربية في الحقبة التي سبقت بزوغ الإسلام وصم مجتمعها بالجهل، وأنه كان غارقا في الظلمة والتخلف. ويجري التركيز عادة على العصبية وقوانين القبيلة، والممارسات الخاطئة التي سادت استثناء عند بعض القبائل، كوأد البنات. وضخم الحديث عن ممارسة بعض العادات والثقافات التي حرمها الإسلام، كشرب الخمر ولعب الميسر بما يوحي بانتشارها في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، في حين كانت مقتصرة على المجتمع المكي، باعتباره مجتمعا تجاريا ونقطة تلاق لقوافل التجارة من وإلى اليمن والشام.
وكان دافع المؤرخين في ذلك ابراز الصورة المشرقة، والدور الذي لعبه الدين الحنيف في إنقاذ المجتمع والإرتقاء به، ونقله من الوثنية وعبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد. وقد تصورو أن ذلك يضيف دورا أكثر سموا لتاريخه، وكأن صورة الإسلام المجيدة ودوره الخالد لا يكتملان إلا بالتقليل من شأن الحضارة والحط من منظومة القيم والطريقة التي أديرت بها السلطة في المجتمع قبل بزوغ فجره.
وتناسوا في غمرة حماسهم، أن حالة الرقي والتحضر، والتنظيم الرائع الذي أديرت به مختلف جوانب الحياة في المدينة المقدسة هي رصيد للرسالة وليست عبئا عليها، كونها تعكس البيئة المتميزة والخصب الإخلاقي والثراء الروحي وأهمية المكان الذي انطلقت منه. والرسول الأعظم يشير إلى ذلك في جملة من أقواله، حيث يقول: “الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام” و “إنما بعثت لكي أتمم مكارم الأخلاق”. ولم تكن صدفة أن تنطلق الدعوة من مكة المكرمة، التي عرفت بمكانتها الدينية والأدبية والتجارية والإقتصادية في سائر أرجاء جزيرة العرب.
والواقع أن هناك أكثر من مشكلة رئيسية تواجه الموقف التاريخي التقليدي من تلك المرحلة، تتعلق ابتداء بتحديد المفاهيم. فكلمة العصر ذاتها عند غالبية المؤرخين المسلمين غير دقيقة، لأنها لم تعبر عن محتوى زماني أو مكاني محددين. فهناك خلط وعدم اتفاق على بداية تلك الفترة، كما أن هناك ضبابية في تحديد المكان. هل يشمل مكة المكرمة التي انبثقت منها رسالة الإسلام، أو قبائل وعشائر محددة بعينها، أم أنه يتعلق بعموم مناطق الجزيرة العربية. أما المشكلة الأخرى فتتعلق بالتفسير غير الدقيق لمفهوم الجاهلية الذي شاع في مجمل كتب التاريخ والأدب العربيين, وهو تفسير وصم المجتمع بالفوضى والسفه، في حين تشير القراءات إلى أن المجتمع المكي كان محكوما بأعراف وتقاليد متطورة جعلت منه كيانا متماسكا.
ونميل إلى الإعتقاد أن المؤرخين اعتمدوا ظاهر النص في تفسيرهم للآيات القرآنية الكريمة وبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي وسمت العصر الذي سبق ظهور الإسلام بالجاهلية، في تدليلهم على الواقع المتردي الذي كانت تعيشه الجزيرة العربية بشكل عام، والمجتمع المكي بشكل خاص. وهكذا جرى التحقيب والتأريخ لأدب جاهلي، وتاريخ جاهلي، وعصر جاهلي، وأيام جاهلية، وهكذا..
ويبدو أن مفرد “جاهلي” استخدم في الصدر الأول للإسلام بمعنى المتعصب. وقد أشارت إلى ذلك بوضوح مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة:
(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية). سورة الفتح، الآية 26.
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور). سورة آل عمران، الآية 154.
(وان احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك..) (.. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). سورة المائدة، الآيات 49-50.
( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى..). سورة الأحزاب، الآية 33.
وفي الحديث الشريف، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري يا للمهاجرين، وقال الأنصاري يا للأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم” وغضب لذلك غضبا شديدا) أخرجه البخاري.[1] وكذلك ما رواه الترمذي وغيره عن النبي قال: (إن الله قد أذهب عنكم غيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء).[2]
ويقول عمروا بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن الواضح أن استخدام مفرد جاهلي، كما ورد في الآيات القرآنية والحديث الشريف، وفعل يجهلن في معلقة عمروا بن كلثوم يشير إلى العصبية والفخر والإعتداد. وهي صفات قبلية متعارف عليها حتى وقتنا الحاضر. والمعنى كما تشير إليه النصوص بعيد كل البعد عن الفهم اللغوي السائد لكلمة الجاهلية الذي يعني السفه وقلة العقل وعدم الإدراك.
والرجوع إلى التاريخ يؤكد، بما لا يقبل جدلا، أن هذه المنطقة شهدت قيام إمارات وممالك نمت وترعرعت في بيئة مجاورة للحضارات القديمة التي قامت في وادي النيل وما بين النهرين، والهلال الخصيب وعلى أرض اليمن. وكان أهلها على اتصال مباشر بتلك الحضارات، يأخذون منها ويتفاعلون معها.
وكانت الجزيرة العربية، بشكل عام تموج بالحركة وطرق القوافل. ففي جزئها الجنوبي يقع اليمن الذي ساعدته متاخمته للمحيط الهندي والبحر الأحمر على إقامة علائق متعددة مع مناطق العالم الأخرى, كما ساعد نزول الأمطار وخصوبة الأرض على قيام حضارة مستقرة ومدن عامرة به. وكان سكانه من بني حمير ذوي فطنة، هداهم تفكيرهم وذكاؤهم إلى حسن الإستفادة من الأمطار حتى لا تتسرب إلى البحر فوق الأرض المنحدرة من ناحيته، فقاموا ببناء سد مأرب.[3]
كما اشتهرت مدينة يثرب، التي عرفت بالمدينة المنورة فيما بعد، بمئات من الحدائق وغياض النخل والضياع، مما جعلها تبدو بالمقارنة مع مكة وكأنها جنة عدن من حيث جوها وخصوبة أرضها. وكانت ممرا للقوافل التجارية المتجهة من اليمن ومكة إلى بلاد الشام. يؤكد ذلك، قيام المعركة الأولى التي خاضها المسلمون عند وادي بدر الذي لا يبعد أكثر من عشرين ميلا جنوبي مدينة يثرب، حيث اعترضوا قافلة قريش التجارية التي كان يقودها أبو سفيان أثناء اتجاهها إلى مكة قادمة من الشام، ونشبت أول معركة في تاريخ الإسلام انتهت بانتصار المسلمين، وكان لها الأثر البعيد على مجرى الأحداث اللاحقة.[4]
أما منطقة البحرين، فقد عرفت الإستقرار والتحضر بفعل خصوبة أرضها ووفرة المياه فيها، وبفعل موقعها على شواطئ الخليج العربي، الذي يربطها عن طريق البحر بمناطق العالم الأخرى. كما اشتهرت بأسواقها: هجر ومشقر ودارين، التي عكست مستوى التقدم التجاري والزراعي الذي وصلت إليه البلاد. وكان الحطم بن هند البكري من بين أشهر رجالها الذين برعوا في التجارة مع مكة، والحيرة في العراق. وهو بمثابة أبي سفيان في مكة حيث كان يقود قوافل التجارة الأحسائية. وتميزت هذه المنطقة عن بقية مناطق الجزيرة العربية بوجود تيارات فكرية دينية عديدة كالمسيحية واليهودية والزرادشتية.
وتتضح الصورة أكثر عن مستوى الرقي الإقتصادي وكثافة السكان بهذه المنطقة، في تلك الحقبة التاريخية من خلال النظر إلى مقدار الخراج الذي فرضه النبي محمد. ويقال إن البحرين أول ولاية فرض عليها الخراج في الإسلام، وأن واليها أبا العلاء الحضرمي، جلب الخراج إلى النبي في السنة السابعة للهجرة، وقدره مائة وخمسون ألف دينار. ويعتبر ذلك مبلغا هائلا قياسا إلى ذلك العصر، فلم يصل له مبلغ كهذا لاقبل ولا بعد. ويدلل ذلك على ثقل البلاد البشري، إذ أن الجزية لا تؤخذ إلا على كل محتلم ذكر أو أنثى وقدرها دينار، وفي عهد خلافة أبي بكر الصديق وصل لبيت المال أموال هائلة من هذه المنطقة.[5]
وإذا رجعنا إلى مكة، مهد البداية في نهضة العرب، نجد أنه كان هناك تنظيم عملي رائع للعلاقة بين مختلف أبناء قبائلها وعشائرها. فقد كانت أهم الوظائف في مجتمعها، كالحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء موزعة بين قادة عشائر تلك المدينة بشكل يعكس توازن القوى، وينال قبول الجميع، ويحقق الوحدة والتلاحم في البناء الأعلى للمجتمع. وقد شبه بـعض المؤرخين نظام الحكم في مكة بجمهوريتي البندقية وقرطاجة، حيث يسيطر رأس المال على الحكم فيهما.[6]
فمن عشيرة هاشم، تولى العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أحد أثرياء مكة وعم الرسول، السقاية التي تعني اسقاء الحجيج بالماء والنبيذ واطعامهم الثريد. وقد عرفت أم القرى بشحة مياهها، فهي كما يقول القرآن الكريم (واد غير ذي زرع)، ونظرا لأهميته، جرت تنظيم عملية توزيعه وفرض الجباية عليه. وكان العباس مرجعا مهما في الخلافات التي تحدث في المجتمع. وقد فاوض أبرهة، عن الجانب المكي عند هجوم الأخير عليها.[7]
ومن بني نوفل، الحارث بن عامر، ويعد واحدا من أغنياء مكة، وكان مسؤولا عن الرفادة، وهي تنظيم المؤن وإطعام الحجيج والإشراف على شؤونه، ويتم ذلك من خلال ضرائب تجبى من المكيين.[8]
ومن بني عبد الدار، عثمان بن طلحة، وهو رجل واسع الثراء، تولى سدانة الكعبة، وعقد الندوة، وهي المكان الذي يجتمع فيه الملأ من قريش عندما يتشاورون في أمر من الأمور الهامة.[9]
ومن بني زمعة، يزيد بن زمعة بن الأسود من بني أسد، أحد وجهاء مكة وأغنيائها. وكان مستشارا لمكة، يرجع إليه الملأ من قريش عندما يتخذون قرارا، فإذا أوصى به نفذ، وإن لم يوافق عليه أصدر قرارا آخر، يصبح نافذ المفعول على الجميع.[10]
ومن بني تيم، أبو بكر الصديق مسؤولا عن الأعناق، وهي الديات والمغارم. فإذا قتل فرد وقرر له على قاتله وافقت قريش، وعملت على تنفيذ قراره. والمعروف في صدر الإسلام، أنه اعتق عددا من العبيد، الذين أسلموا في الأيام الأولى للدعوة الإسلامية، وتحملوا عذاب وأذى أسيادهم من أمثال بلال بن رباح مؤذن الرسول. وهذا دليل على ما كان يملكه أبو بكر من ثروة ومال.[11]
ومن أمية، أبو سفيان بن حرب زعيم أمية، التي تنازعت السلطة مع الهاشميين، ويدير شؤون الدولة عند وقوع الحرب، وكانت لديه العقاب، راية قريش. فإذا وقعت حرب أخرجها والتفت حوله قريش، إلا إذا رأت أن تختار رجلا آخر بديلا عنه. فهو إذن القائد العام ورئيس الدولة عنذ نشوب الحرب. وقد بقي يتولى هذه المهمة حتى فتح مكة. وقد تزعم الحرب ضد المسلمين في كل المعارك التي نشبت بينهم وبين قريش، ووضح ذلك بشكل جلي في بدر وأحد. كما كان إعلان النبي محمد أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، بمثابة اعلان استسلام مكة المكرمة لقوات المسلمين دون قتال.[12]
ومن بني مخزوم، خالد بن الوليد القائد العربي المشهور، وكان ميسور الحال. ومهمته ضرب القبة عند نشوب الحرب، فتجتمع عندها عدة الحرب والخيل. ثم يمضي في ترتيب الجيش.[13]
أما عمر بن الخطاب من بني عدي، فتولى السفارة بين قريش وغيرها من البلدان والقبائل، وكانوا إذا وقعت حرب بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حي، جعلوه منافرا ورضوا به. ومن الناحية العملية فإنه المسؤول عن السياسة الخارجية لشؤون مكة.[14]
وكان صفوان بن أمية من بني جمح رجل الدين الذي يستقسم لقريش بالأزلام، إذا أرادت مكة أن تنفذ أمرا من الأمور. وكان الحارث من بني نهم، وأحد أثرياء قريش يتولى إدارة الأموال الموقوفة على خدمة الآلهة. وهي أشبه بوزارة الأوقاف في العصر الحديث.[15]
كانت تلك صورة ملخصة لتقسيم الوظائف بين علية القوم في المجتمع المكي، شملت مختلف العشائر المؤثرة. على أن ذلك لم يكن التنظيم الوحيد الذي حكم علاقاتهم. فقد ارتبطت قبائل وعشائر ذلك المجتمع بأحلاف تعزز عن طريقها أواصر العلاقة والقربى فيما بينها. وفي الغالب، يكون الهدف منها تعهد الأطراف المنضوية فيها بالدفاع عن بعضها البعض.
واشتهر من بينها حلف المطيبين الذي سمي كذلك لأن المتعهدين من بني عبد مناف غمسوا أيديهم في طيب جاؤا به إلى الكعبة، وأقسموا ألا ينقضون حلفهم.[16]
أما الآخر فهو حلف الفضول، حيث اجتمعت هاشم وزهرة بناء على دعوة من الزبير بن عبد المطلب في دار عبدالله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا “بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفه” وقد حضر النبي محمد هذا الحلف وامتدحه بقوله: (ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار بن جدعان من حمر النعم، ولو دعيت به لأجبت).[17]
وكانت مكة المكرمة العاصمة الدينية المقدسة، وملتقى طرق القوافل إلى اليمن والحيرة والشام ونجد، وقد مكنها قربها للبحر الأحمر من الإتصال بتجارة العالم. ونظرا لأهمية موقعها ومستوى التنظيم الذي حكم مختلف العلاقات في مجتمعها، فقد رفض الأستاذ محمد حسين هيكل أن يكون أهلها بدوا في طباعهم وعاداتهم، إذ من العسير التصور ببقاء بلد له هذه المكانة، من غير أن يدنيه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة، خاصة إذا أخذنا في حسباننا أنهم كانوا من أبرع الناس في شؤون التجارة، وأنهم اشتهروا برحلتي الصيف والشتاء اللتين وردتا في القرآن الكريم بسورة الإيلاف.[18]
يضاف إلى ذلك، أنها كانت مركزا تجاريا ضخما، فقد اتفق معظم المؤرخين أن الأهمية العظيمة لمكة هددت المكانتين التجارية والإقتصادية لليمن. ولذلك بذلت جهود كبيرة من جانب ملوك الحبشة لبناء هيكل يماني ينافس الكعبة في مكة ويجمع العرب حوله، فينتقل النشاط التجاري إليها. وحين لم يحقق بناء هذا الهيكل أغراضه قاد أبرهة جيشا كبيرا إلى مكة لهدم الكعبة واحتلال العاصمة التجارية والقضاء على نفوذها. ووردت قصة ذلك في القرآن الكريم في سورة الفيل. ويؤكد على الأهمية التجارية لهذه المدينة ما سجله التاريخ من أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث بقافلة تجارية ضخمة كل عام إلى عكاظ تحمل إلى أهل مكة المسك وتجلب بدلا منه الجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة.[19]
كما سجل التاريخ أن الروم اعتمدوا على تجارة مكة في كثير من شؤونهم حتى فيما يترفهون به كالحرير، وقد أقيمت في مكة بيوت تجارية رومانية للشؤون التجارية والتجسس على أحوال العرب، كذلك كان بها أحباش ينظرون في مصالح قومهم التجارية. وقد ذكر سعيد الأفغاني في كتابه أسواق العرب أن وظيفة هذه البيوت التجارية أشبه بوظائف قناصل التجارة في أيامنا هذه، حيث يشرفون على شؤون تجارة بلادهم، وينظمون العمل التجاري في هذه العاصمة التجارية الشبيهة بمدينة البندقية في عصرها الذهبي.[20]
وفي المجال الزراعي، اشتهرت أراضي الطائف القريبة من مكة بزراعة مجموعة من الأشجار والنباتات، وفي مقدمتها كروم العنب، حيث يصدر من محصوله كل عام ما يقدر بثلاثمائة راحلة من الزبيب، واهتم سكان الطائف بصناعة الجلود التي أشتهرت في كل مكان، وكانت من الصادرات الرئيسية إلى الحبشة وفارس وبيزنطة.[21]
وعلى صعيد العلاقات الخارجية، ذكرت كتب التاريخ أن عديدا من الحكومات عقدت معاهدات رسمية ومكتوبة وموقعا عليها من السلطات العليا المسؤولة، مع مكة بهدف تأمين التجارة وتحديد الضرائب الجمركية وطرق التعامل المختلفة. وعرف بينها المعاهدة التي عقدها هاشم مع الإمبراطورية الرومانية والتي ضمنت الإذن لقريش كي تجوب مدن الشام في أمن وطمأنينة، والمعاهدة التجارية التي عقدها عبد شمس بن أمية مع النجاشي. أما نوفل والمطلب فعقدا حلفا مع فارس، ومعاهدة تجارية مع الحميريين.[22]
تلك كانت بعض مظاهر الحياة في المجتمع المكي، أدت مجتمعة إلى ازدهار مكة وسمو مكانتها، وإلى بلوغ أهلها مهارة في التجارة لم يدانهم فيها أحد من عصرهم. فالقوافل تأتي من كل صوب، والأسواق الشهيرة: عكاظ ومجنة وذي المجاز والطائف تعج بالصخب والحيوية وحركة التجارة. إضافة إلى ذلك، كانت تلك الأسواق مراكز للمساجلات الأدبية والفكرية، حيث تتنافس القبائل على لسان شعرائها، وتحتشد الجماهير مبدية استحسانها أو ازدراءها لما تسمع. وأحيانا يتواجد مجموعة من المحكمين من ذوي المكانة والخبرة. وتكتب أحسن القصائد التي تقال في تلك الأسواق، وعلى الأخص سوق عكاظ، بحروف براقة جميلة. ومن أجل ذلك سميت بـ “المذهبات”. ويحتفظ بها في العادة، بخزائن الأمراء تراثا خالدا قيما. وقد سميت تلك القصائد أيضا بالمعلقات، لأن الفائزة منها، كما تقول القصص المتواترة، تكتب على الحرير المصري بأحرف من الذهب وتعلق على جدران الكعبة.[23] وقد بقيت لدينا من تلك المعلقات سبع قصائد معروفة في الأدب العربي.
ويذكر بعض المؤرخين أن الشعراء العرب كانوا ينشدون أشعارهم على أنغام الموسيقى، ولذلك جمعوا بين الشعر والموسيقى. وكان الناي والمزهر والدف أحب الآلات المتوفرة لديهم.[24]
وعلى الصعيد الفكري، عرف المجتمع المكي مجموعة من الحكماء الذين برعوا في الخطابة بأسواق العرب المشهورة، يأتي في مقدمتهم قس بن ساعدة الأيادي. وبرزت مجموعة من رجالات قريش ممن اهتموا في شؤون الأديان كزيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث وعبدالله بن جحش وورقة بن نوفل، وأمية بن أبي الصلت.
كان ذلك حال جزيرة العرب في الحقبة التي سبقت ظهور الإسلام، وهو متناقض كليا مع الوصف الذي درج عليه المؤرخون المسلمون. فلم يكن ذلك عصر جهل وفوضى وتخلف بالمعنى الذي أشاروا إليه. وما جرى توضيحه في هذا الصدد أمر يغني عن أي قول. فحين يقدم التاريخ شهادته تتداعي الحجج والأباطيل.
وحتى إذا اتجهنا إلى الصحراء، حيث يستوطن أبناء البادية، نرى حقائق مغايرة لما هو متعارف عليه عن خصال البدو في المجتمعات البشرية الأخرى. لنتصور مثلا، ذلك البدوي يقيم خيمته بعيدا في الصحراء، وينتقل بها من مكان إلى آخر مرتحلا في سبيل الحصول على الكلأ والماء، ومع ذلك تجده ناطقا بالشعر والفلسفة والحكمة.. ولنتمعن جيدا في قصيدة التغلبي عمرو بن كلثوم، ولبيد وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وأمرؤ القيس والأعشى وغيرهم من الشعراء العرب ممن عاشوا في الحقبة التي سبقت ظهور الإسلام. وعندها سيتضح أن أولئك القوم لم يكونوا بدوا، بالمعنى التقليدي للكلمة، رغم أنهم عاشوا في ظروف مشابهة لتلك التي يعيشها البدو، فإرهاصاتهم وابداعاتهم تؤكد أنهم أحفاد رجال عظام، ورثوا الماضي الذي أشاد مختلف الحضارات في هذا الجزء من العالم. وأن ما نتج عنهم من شعر وحكمة ما هو إلا انعكاس لحالة التواصل الحضاري، والإنبعاث المتجدد التي تميزت بها أمتهم.
وحين انطلق الرسول من مكة المكرمة، مهد البداية وجد في هؤلاء الرجال حملة صادقين لرسالته. ولذلك فلا غرابة أن تبرز هذه الأمة في فترة قياسية قصيرة، مع حالة النهوض الجديدة التي ارتبطت بالإسلام، ذلك القدر من القادة العظام، كعمر وأبي بكر وعثمان وعلي وسعد وخالد وأبو ذر وأبو عبيدة، وغيرهم كثير من الأبطال العرب المسلمين.
وهكذا، فمع أن دعوة السماء كانت في انطلاقتها ثورة حقيقية وقفزة نوعية، لكنها في ذات الوقت اسـتثمرت حاصـل التراكم التاريخـي والحضاري والأخلاقي، والنهوض الإقتصادي الذي ساد جزيرة العرب قبل الإسلام.
تلازم الإسلام والعروبة
تلازم الإسلام بالعروبة منذ لحظة بزوغه، وكانت السورة الأولى إقرأ، أكبر تجسيد لذلك التلازم، ففعل الأمر بالقراءة، أوحي به بلغة محددة، هي اللغة العربية. وقد تتالت النصوص القرآنية بعد ذلك مؤكدة ذلذك التلازم، كما جاء في الآيات القرآنية الكريمة التالية:
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، سورة يوسف، الآية 2.
(لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين). سورة النحل، الآية 103.
(قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)، سورة الزمر، الآية 28.
(إنا جعلناه قرآن عربيا لعلكم تعقلون)، سورة الزخرف، الآية 3.
(كتاب فصلت آياته قـرآنا عربيا لقوم يعلمون)، سورة فصلت، الآية 3.
(وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا)، سورة الأحقاف، الآية 12.
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم). سورة ابراهيم، الآية 4.
لقد أجمعت هذه الآيات الشريفة في مواضع مختلفة على عروبة القرآن. ومن المؤكد أن الإشارة لذلك في عديد من السور، وبالشكل الذي وردت فيه، لم تكن من جانب التقرير والإخبار فقط، فكل العرب والمسلمين يعلمون أن لغة القرآن الكريم هي العربية. وإذن فلا بد أن تكون هناك غاية أخرى من ذلك التكرار، وبالشكل الذي وردت فيه. والآيات الكريمة كما هو واضح من نصوصها، تعاملت مع حالة حية متحركة، المفردات فيها ليست جامدة.. القرآن الكريم جاء بلغة العرب، معنى ذلك، أن العرب هم الذين أوكل لهم حمل رسالة الإسلام لسائر أمم الأرض، إذ من غير الممكن، خاصة في المراحل الأولى لبزوغ الدعوة أن يتم تبليغها بلغة غير تلك التي جاء بها الكتاب.
وحسب التوجيه القرآني، فإن الدعوة يجب أن تنطلق من دعوة الأقرب فالأقرب، إلى أن تعم الرسالة كافة البشر، وذلك كما جاء بالنص: (وانذر عشيرتك الأقربين). والأقربون هم عشيرة محمد وقومه. والتبليغ لا يتم بدون لغة تصل إلى القلب والعقل، ولغة القوم هي العربية. واللغة ليست مجرد مفردات ولكنها تعبير عن المستوى الثقافي، والحالة الإجتماعية والقيم الأخلاقية والروحية للمجتمع الناطق بها. ومن الحقائق التي لا جدال فيها أن القرآن الكريم قد جسد تلك الفضائل بأجمل صورها في نصوصه.
وإذن فإن بزوغ الإسلام في مكة، بمجتمع عربي، وكون القرآن بلغة قريش (أو العرب) أوجد تلازما وثيقا بين الإسلام والعروبة كان له الأثر الكبير في ترسيخ الثوابت القومية على المدى البعيد.
وقد أكد الرسول الأعظم في عديد من أقواله على ذلك التلازم. فقد روى أبو يعلى أن النبي قال: (إذا ذل العرب ذل الإسلام) وفي رواية أخرى: (إذا عز العرب عز الإسلام)، وثقه ابن حيان.[25]وقد ذكر الطبري في تاريخه أنه لما بلغ النبي خبر انتصار العرب على الفرس في يوم ذي قار، قال: (هذا يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا).[26]
وأشار الصحابي عبد الله بن عباس إلى علاقة القرآن الكريم بالشعر العربي فقال: (إذا قرأتم من كتاب الله شيئا فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب). أما الشيخ ابن تيمية فقال: (إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين).[27]ويقول الشيخ محمد رضا: (إن معرفة العربية من ضروريات دين الإسلام).[28]أما العلامة بن خلدون فيقول: (إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكلهم كانوا يفهمونه ويعلمون ما في مفرداته وتراكيبه).[29]
واعتبر الكواكبي التأمل في المفردات اللغوية لأي أمة من الأمم أمرا ضروريا لتقدير المستوى الحضاري والأخلاقي الذي وصلت إليه حيث قال
يستدل على الأمة في الإستبداد والحرية باستنطاق لغتها هل هي كثيرة ألفاظ التعظيم، غنية في عبارات الخضوع كالفارسية مثلا، أم هي فقيرة في هذا الباب كالعربية مثلا.[30]
وخلاصة القول أن التعبير عن حمل العرب لرسالة الإسلام ليس سوى تقرير لحقيقة حية، جرى التأكيد عليها في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف، وآراء الصحابة والتابعين والعلماء ورجال الدين المسلمين.
ومنذ صدر الإسلام، أصبح تعلم اللغة العربية تقليدا أساسيا لمن اعتنقه من غير العرب، بهدف التمكن من قراءة القرآن الكريم. ولما فتحت بلاد الشام والعراق أنشأ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عدة دواوين بها تسير بالعربية، وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بذلت جهود هائلة لتعريب جميع الإدارات في الدولة الإسلامية. وتمكنت حكومة الخلافة من القضاء على الإزدواجية اللغوية في المكاتبات الرسمية، ضمن إطار رقعتها الجغرافية. وحين فتح المغرب، سيرت أعمال الإدارة منذ البداية باللغة العربية، وذهب جماعة من الفقهاء في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز لينشروا بين المغاربة الإسلام والعربية. [31]
والواقع أن العربية ارتبطت بالإسلام في كل المناطق التي وصل إليها نفوذ الحضارة العربية الإسلامية، فهذا عبد الله بن يس يأخذ لنفسه رباطا في أقصى حدود البلاد الإسلامية، في الغرب، يعلم فيه الناس اللغة العربية والإسلام كي يدفع بهم إلى النهوض لقيام الدولة المرابطية. وكل الدول التي قامت في الهند وفي أفريقيا كانت لغتها الرسمية هي العربية، بالرغم من أن العنصر العربي كانت نسبته ضئيلة جدا.[32]وكانت العربية الجنسية الوحدانية لمعظم العلماء الذين انتجوا في الحضارة العربية الإسلامية، بغض النظر عن أصولهم العرقية.
ولذلك فإن أية محاولة للفصل بين الثقافة العربية والإسلام لا بد أن تكون تعسفية تتناقض مع الأسس المنهجية لدراسة الحضارات. فعمليات التعريب التي عرفها تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، خارج منطقة شبه الجزيرة العربية جاءت نتيجة انتشار الإسلام. وحتى المناطق الجغرافية التي انتشر فيها الإسلام، ولم يتم تعريبها، تأثرت كثيرا بالثقافة العربية، وأثرت فيها إثراء وتنوعا، ويعود الفضل في ذلك أساسا للإسلام. وهكذا فالعلاقة بين الثقافة العربية والإسلام تتجاوز المفهوم العقائدي الديني إلى المفهوم الحضاري الواسع.
وقد أسهم الإسلام بدور كبير في حماية اللغة العربية من الإنقسام والتفتت. ذلك أن التطور التاريخي، وامتزاج العرب مع الشعوب التي وصل إليها الفتح، والتفاعل مع ثقافات أمم أخرى كان يمكن أن يؤدي إلى خلق لهجات تطغى على اللغة الفصحى، وتحتل مكانها في مراحل لاحقة، فتصبح لغات جديدة كما حدث للغات الأوروبية التي انحدرت عن اللاتينية. وذلك أمر طبيعي جدا، فمعظم اللغات المنتشرة في عالمنا المعاصر لم تكن من خلق الشعوب والأمم التي شكلتها، فقد كانت تمتد من شعب إلى آخر وتتطور مع تطوره تبعا لتغير جوانب الواقع الموضوعي المختلفة التي تعبر عنها. كما أن التاريخ يكشف لنا باستمرار عن شعوب تخلت عن لغاتها واقتبست لغات أخرى. لكن مرجعية المسلمين جميعا للقرآن الكريم، الذي نزل باللغة العربية أدى إلى صمود اللغة وتماسكها. يضاف إلى ذلك حماية أخرى، نابعة من الثقافة، فقد أصبحت الثقافة العربية منذ تأسيس أول دولة عربية مركزية بالمدينة المنورة اسلامية المحتوى.
وقد أجمع علماء المسلمين على التلازم بين الإسلام والعربية، لكن بعضهم أقر بوجود نوعين من الترابط، أحدهما ديني والآخر قومي. فالشيخ عبد الحميد بن باديس، 1889- 1940م، على سبيل المثال، ميز بين رابطة الدين وطبيعة الرابطة القومية، فأشار إلى أن الأولى تربط بين عامة الناس، أما الثانية فهي رابطة دولة. إن رابطة الدين، تقف بين المسلمين عند حدود الدين والأدبيات والإجتماعيات، ترعاها وتنظمها جماعاتهم، ممثلة في قادة الفكر والرأي والعلم، دون أن ترقى إلى وحدة الدولة، ودون أن تصبح ورقة بيد الساسة يستغلون بها مشاعر التدين عند عامة المسلمين.[33]
وعلى الرغم من أن الشيخ بن باديس فصل بين الإنتماء للدين وبين الرابطة العربية، إلا أنه انطلق في رؤيته القومية من موقف حضاري، رافضا أن يكون العرق عاملا أساسيا في تحديد الإنتساب للعروبة مشيرا إلى أنه
تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد، فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها وتوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد.[34]
ويتفق هذا القول مع الحقائق العلمية المتوفرة لدينا الآن، إذ ليس هناك من أمة أصول أبنائها خالصة من عرق واحد. وكان الرسول قد أشار إلى ذلك في معرض دفاعه عن مجموعة من أعلام المسلمين، ممن انحدروا من أصول غير عربية، بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، وأكد على انتمائهم للأمة. وقبل أكثر من ألف عام قال بذلك أيضا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ مؤكدا على أن الموالي الذين تعربوا هم بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس لأن السنة جعلتهم منهم.[35]
وقد لعب كثير من المسلمين الذين انحدروا من أصول غير عربية أدوارا بارزة في إشادة الدولة العربية الإسلامية وإرساء حضارتها من أمثال طارق بن زياد فاتح بلاد الأندلس وصلاح الدين الأيوبي محرر فلسطين من الصليبيين. كما شارك كثير منهم في النهضة الفكرية والعلمية والأدبية التي شيدها العرب. والتاريخ العربي حافل بأسماء العشرات من هؤلاء العلماء والمفكرين، كابن سينا والرازي وسيبويه والشهرستاني وابن الراوندي وابن المقفع والجاحظ ..
ولا شك أن هؤلاء كانوا عربا بحكم لغتهم وثقافتهم ومشاعرهم، دون أن يقتضي ذلك انحدارهم من أصول عربية. وقد دافع كثير منهم عن العروبة دفاعا مستميتا في وجه الحركات الشعوبية. ولعل كتاب الجاحظ البيان والتبيين خير دليل على ذلك. وما كان لهؤلاء وأولئك أن يبدعوا ويعطوا لولا البيئة العربية المتقدمة التي عاشوا في ظلها، والتي وفرت لهم إمكانية الإبداع والعطاء. ترى هل أتقن سيبويه الفارسية وأبدع في لغتها كما أبدع في العربية؟.
ومثل هذا القول يصدق على حالات كثيرة في العصر الحديث، فقد برز أحمد شوقي كأعظم شاعر في العربية حتى أنه لقب بأمير الشعراء. ولا خلاف على أن الجذور العرقية لهذا الشاعر العظيم غير عربية، لكن ذلك لم يمنعه من التغزل في دمشق الفيحاء، وأن يرثي في شعره سقوط الدولة الأموية، كونها الدولة التي مثلت الوجود العربي في تلك الحقبة من التاريخ، وكون كيانها رمز وحدة العرب.. لقد كان شوقي فكرا ومشاعرا، عربي الانتماء والإبداع.
والآن في هذا العصر، نحن أمام قوة عالمية عظمى هي الولايات المتحدة الأمريكية، بجبروتها وإمكاناتها. نشأت من مهاجرين قدموا إليها من مختلف أصقاع الأرض في غضون الخمسة قرون الأخيرة، وهي سنون قليلة إذا قيست بتاريخ الشعوب والأمم الأخرى. ووجد القادمون الجدد هذه الأرض بكرا، تعج بالمعادن والثروات الطبيعية، فشردوا وفتكوا بسكانها الأصليين، الهنود الحمر، وحلوا محلهم. وأخذوا في استقدام آلاف السود من القارة الأفريقية وحولوهم إلى رقيق مهمتهم حراثة الأرض، وخدمة مصالح الإقطاع.
وبعد مجئ ابراهام لينكولن لسدة الرئاسة الأمريكية، وبفعل تطورات اقتصادية وتاريخية، وحاجة الطبقة الرأسمالية في الولايات الشمالية للعمال لإدارة المصانع الخاصة بها، جرى تحرير الرقيق. وأخذ النظام الرأسمالي في استثمار خيرات هذا البلد الغني. وتشكلت للمقيمين والمهاجرين الذين قدموا من مختلف البلدان، على السواء، هوية جديدة عبرت عن انتمائهم للعالم الجديد هي الهوية الأمريكية أولا، والولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد.
وقد عملت المؤسسات الإقتصادية والصناعية على تشجيع هجرة العقول المبدعة إلى أمريكا، واستقدام القوى العاملة اللازمة لتحريك ماكنة صناعتها من كل مكان. واستقر الجميع في القارة الأمريكية الشمالية، وامتزجوا بلغة وتقاليد وثقافات طلائع الهجرة اليها، من انجليز وأسبان. وأضافوا إلى حضارة العالم الرأسمالي وإنجازاته الكثير الكثير، ومع ذلك بقي هؤلاء جميعا جنودا مجهولين في حركة التطور الفتية للعالم الجديد. وأصبحت إنجازاتهم وإبداعاتهم أشياء مضافة لإمكانات الولايات المتحدة الأمريكية، الأمة الجديدة التي هاجروا واستقروا بها.
وخلاصة القول، أن الانتماء للعروبة ليس عرقيا، بل انتماء إلى حضارة. وهو قبل كل شئ انتماء إلى ثقافة وشعور مشترك، وارتباط مادي ومعنوي إلى تاريخ، مع عوامل وخصائص أخرى قد توجد في هذه الأمة ولكنها لا تتوفر عند أمة أخرى، كاللغة والدين والجوار.. ويصبح ضمن هذا التحليل، طارق بن زياد مولى موسى بن نصير، فاتح بلاد الأندلس وصلاح الدين الأيوبي محرر فلسطين من الصليبيين، وأمير الشعراء أحمد شوقي والعلماء والمفكرون الذين أضافوا لبنات خالدة في صرح عزتنا وحضارتنا، عربا ناضلوا في سبيل نصرة الإسلام ورفع راية العروبة خفاقة عزيزة.
وعلى كل فإن اللسان حتى وإن اختلف، فإن ذلك لا يعني عدم إمكانية نشوء أمم على أسس أخرى، كالجغرافيا والتاريخ والنضال المشترك. فهناك أمم عريقة لا تزال تنبض بالقوة والحركة كالهند والصين، ولم يمنع تعدد لغات أفرادها دون وحدتها وانتمائها إلى هويات كبرى. واللغة هي حقيقة تاريخية تعكس بنموها وتطورها وتبدلها تطور المجتمع وثقافاته وأفكاره، ولذلك فهي تعبير خلاق عن مراحل نموه، وضمن هذا التحليل تصبح تأكيدا للوجود القومي وليست نفيا له. وهاتان الأمتان قد لعبتا أدوارا رئيسية في التاريخ الإنساني، وهما بأكثر المقاييس، مهيأتان الآن لأن تلعبا أدوارا قيادية مستقبلية في الساحة الدولية.
التواصل التاريخي
انطلق السعي لبعث هويات مندثرة من نفي واقع كون الحضارات القديمة التي أخذت مكانها في الوطن العربي ذات صلة بالعروبة إن من حيث منشئها ولغاتها أو من حيث سيرورتها التاريخية. فقد نظر إلى حضارات وادي الرافدين، سومرية وبابلية وآشورية، على أنها غريبة عن العرب وبالتالي عن نهضتهم التي ارتبطت بالإسلام، وأن الحضارة التي قامت في بلاد الشام على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط فينيقية لا علاقة لها بالعروبة، والحضارة التي قامت في وادي النيل، بمصر فرعونية وأن الفراعنة هم الأجداد الحقيقيين للمصريين وليس سواهم، وهكذا.. بل لقد قرر البعض، كالدكتور طه حسين، أن مصر بثقافاتها وتاريخها وصلاتها الجغرافية والتاريخية أقرب إلى الحضارة اليونانية، وبالتالي إلى أوروبا، منها إلى العربية، وأن نهضتها وتقدمها يتطلب المحافظة على تلك الصلات وتعميقها، والإنفصام عن ثقافة الشرق.
ولم تكن تلك الأطروحات لتجد بيئة ملائمة لها أفضل من واقع الهزيمة والتشرذم الذي عاشته الأمة إثر هزائمها المتكررة في مواجهة المشاريع الإستعمارية والصهيونية، حيث استيقظت، أمام حالة العجز والإستسلام وتراجع الحركة الوحدوية، دعوات مشبوهة قديمة كانت قد برزت في الوطن العربي إثر فشل مشروع النهضة في مرحلته الأولى، بعد تقسيم الوطن العربي حصصا بين الإستعمارين البريطاني والفرنسي، وإثر فشل مشاريع التصدي العربية للإستعمار الغربي، وحدوث مجموعة من الإنتكاسات القومية، كفرض البريطانيين التوقيع على معاهدة 1936م بمصر، ومعاهدة بورتسموث بالعراق، اللتين ضمنتا هيمنة واسعة للبريطانيين في هذين القطرين ومنحتهم حق استخدام أراضيهما لصالح الإستراتيجية البريطانية أثناء الحرب. وقد تزامن ذلك مع تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. فمن جديد جرى الحديث عن بعض الهويات القديمة: فينيقية وآشورية وفرعونية وأمازيغية بربرية واستبدال الحروف العربية بأخرى لاتينية.
والحقيقة إن تلك الطروحات، رغم محاولات دعاتها إضفاء صفة الجدة والحداثة عليها، فإنها متخلفة ׀محافظة في منطقها، كونها تفترض امكانية تكلس التاريخ وتوقفه عند نقطة معينة. بل أنها في أحسن الحالات، تضفي على التاريخ ميكانيكية ساذجة ومسطحة، حين تتصور إمكانية أن يعيد التاريخ نفسه، متناسية عن عمد أو جهل أن اضمحلال تلك الحضارات، وقيام أخرى بديلة عنها كان تعبيرا عن صيرورة وحركة تاريخية، وأن بروز الحضارة العربية لم يتحقق على أنقاض تلك الحضارات، أو بإحلال مصطنع لأخرى جديدة. كما لم يكن حاصل إبادة جماعية لعناصر الحضارات القديمة، أفرادا ومعطيات موضوعية ومادية.. ولكنه حاصل تفاعل جدلي لمجموعة من التراكمات، كان الإسلام نقطة التحول النوعي فيها. وقد أخذت تلك التحولات مكانها في ظل تفاعل ديموغرافي وجغرافي وتاريخي تمثل في هجرات متعاقبة من جزيرة العرب إلى الشمال، في وادي الرافدين وبلاد الشام. وإلى الغرب في وادي النيل، من خلال تفاعل مستمر ودائم في الثقافات والمشاعر والمواريث.
فهي والحال هذه تأكيد على حالة التواصل التاريخي، وإثبات لعلاقة العرب بتلك الحضارات وليست نفيا لها. وقد ناقش الدكتور جواد على بكتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام أصول الحضارات التي قامت في وادي الرافدين وبلاد الشام، فأشار إلى أن صناعها في غالبيتهم ينتمون إلى ما هو متعارف عليه الآن بالشعوب السامية. وتوصل إلى أن الجزيرة العربية هي منبع هجرات تلك الشعوب، وذكر مجموعة من الأسباب التي تجعله يميل باطمئنان كبير إلى تقرير ذلك.
فقد وجد أن من غير المنطقى أن ينتقل سكان الجبال والمزارعون من حياة الإستقرار إلى البداوة، بل العكس هو الصحيح. ولما كانت الشعوب السامية عاشت في أطوارها الأولى حياة بدوية، كما تدل على ذلك جملة المعلومات المتوفرة لدينا الآن، فلا بد أن يكون المكان الذي هاجرت منه وطنا صحراويا. والجزيرة العربية، تصلح أن تكون ذلك المكان الذي تمت الهجرات منه أكثر من أي مكان آخر.[36]
يضاف إلى ذلك، أن معظم المدن والقرى القديمة في العراق أو الشام كونتها عناصر بدوية استقرت في تلك المواقع، وقامت بإصلاح أراضيها وعمرانها، واشتغلت بالتجارة، مما أدى إلى نشوء تلك المدن والقرى. ولما كانت أكثر هذه العناصر البدوية قد جاءت من جزيرة العرب، فإنها قياسا على ذلك، مرشحة لأن تكون الموطن الذي غذى العراق والشام وباديته بالساميين، وأرسل إليها موجات متتالية من البشر. ويدعم هذا القول مجموعة من الأدلة الدينية واللغوية، والتأريخية والجغرافية التي تشير بوضوح إلى أن جزيرة العرب هي مهد الساميين ووطنهم.[37]
وأما الأسباب التي دفعت بالساميين إلى الهجرات المستمرة من موطنهم الأصلى، جزيرة العرب إلى المناطق المحيطة، فإن مجمل الدراسات التاريخية تجمع على أن تلك الهجرات حدثت في أزمنة مختلفة ومتباينة، وأن دوافعها كانت ازدياد عدد السكان وضيق مصادر أرض الوطن عن تلبية حاجاتهم من الماء والغذاء، وتزاحم الناس على الرزق. والصراعات والتطاحن المستمر بين القبائل الذي فرضه ضنك العيش، مما حمل البعض على الهرب بجلدهم والتفتيش عن مواطن جديدة آمنة.[38]
وتشير الدراسات العلمية إلى أن جزيرة العرب كانت عرضة لتغيرات طبوغرافية مستمرة، حولتها إلى أرض جرداء، انحبس عنها المطر، وقلت بها الرطوبة، وشاع الجفاف، وغلبت عليها الطبيعة الصحراوية، ونتج عن ذلك مجاعات وكوارث أودت بحياة الكثير من السكان ودفعت بآخرين إلى الهجرة خارج موطنهم بحثا عن المأوى والطعام.[39]
وتصور القائلون بأن جزيرة العرب مهد الجنس السامي، أن البلاد كانت أشبه بخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الحقبة الواحدة زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر، فيدفع بالفائض إلى الخارج، في موجات متوالية أطلقوا عليها الموجات السامية. وعللوا سبب تلك الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصبة في الشمال. وكانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي استخدمها المهاجرون للوصول إلى أهدافهم.[40]
وقد أيد ول ديورانت ما توصل إليه الدكتور جواد علي حول منشأ الساميين. فأشار إلى أن مهدهم ومرباهم هو جزيرة العرب، حيث لا يكاد ينمو نبات على الإطلاق. وأن الهجرات إلى الشمال تدفقت موجة إثر موجة في هجرات متتابعة. وأن أولئك البشر كانوا من خلائق أقوياء شديدي البأس لا يهابون الردى. وجدوا أن الصحراء لا تكفيهم، فافتتحوا بسواعدهم مكانا خصبا ظليلا يعولهم ويقوم بأودهم. وأما من بقي منهم في بلادهم فقد أوجدوا حضارة العرب والبدو. وأنشأوا الأسرة الأبوية وما تتطلبه من طاعة وصرامة خلقية.. وأخذوا يهيمنون لحقبة طويلة على التجارة وطرقها مع الشرق الأقصى، تتكدس في ثغورهم غلات جزائر الهند، وتحمل قوافلهم تلك الغلات وتنقلها في الطرق البرية غير الآمنة إلى فينيقية وبابل. ومكنتهم ثرواتهم من بناء المدن والقصور والهياكل في القلب من جزيرتهم العريضة.[41]
وحين يتعرض ول ديورانت إلى الفينيقيين، فإنه يعترف أن المؤرخين لا يكادون يعرفون شيئا عن التاريخ الباكر الذي تأسست فيه حضارتهم، كما لا يعرفون شيئا عن التاريخ المتأخر لذلك الشعب الذي ترى آثاره في كل مكان. وعلى الرغم من أنه يعبر عن عدم تأكده من سامية أولئك الأقوام، لكنه يشير إلى أنه ليس بوسعه أن يكذب ما قاله علماء صور للمؤرخ اليوناني هيردوت أن أجدادهم قدموا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط من الخليج العربي، وأشادوا حضارتهم المتوسطية في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد. وكانوا يعيشون فوق البحار, وظلوا لحقبة طويلة من أنشط تجار العالم القديم.[42]
وحول نفس الموضوع، ناقش طه باقر في كتابه الموسوم بـ مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة- الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين، أصول السومريين ولغتهم، فأشار إلى أثر موقع العراق بالنسبة للجزيرة العربية في التشكيل التاريخي والتركيب الديموغرافي، المغرق في القدم، على التفاعل بين المنطقتين على السواء. وأوضح أن أقواما كثيرة نزحت من جزيرة العرب وأطراف بواديها في أزمان مختلفة، لا يعلم بالضبط متى حدثت إلا من خلال الآثار التي تركتها على الحضارات التي قامت في وادي الرافدين، كتأسيس دولة أوسلالة حاكمة، كالدولة الأكدية والسلالات الأمورية في العصر البابلي القديم.[43]
ويناقش الكاتب علاقة هؤلاء الأقوام بالسامية، فيشير إلى أن البحث في جذور هؤلاء الأقوام يجب أن يتجه إلى الناحية اللغوية وليس العرقية، موضحا أن التسمية الشائعة للسامية باعتبارها أصل اللغات التي نطقت بها الأقوام التي استقرت في الجزيرة العربية وأطرافها والمناطق الشمالية المجاورة لها ليس دقيقا، مقترحا تسميتها بلغات الجزيرة أو اللغات العربية، لأن ذلك، من وجهة نظره، أقرب إلى الصواب.[44]
لقد هاجر الكثير من شعوب الجزيرة العربية في أزمان بعيدة مختلفة، واستوطنوا في البوادي الخصبة المجاورة لمراكز العمران والحضارة في الهلال الخصيب، وصاروا زراعا أو رعاة شبه مستقرين. وكانت القبائل العربية قد انتشرت في جهات ما بين النهرين منذ الألف الأول قبل الميلاد، وأخذ اسم “عرب” يظهر في أخبار الملوك الآشوريين في حروبهم مع بعض تلك القبائل في بوادي الشام والعراق وربما في شمالي الحجاز.[45]ولم ينقطع ذلك التسرب البشري، بل استمر حتى العصور الحديثة. وكان للفتح العربي الأثر الحاسم في تركيب سكان هذه الرقعة الجغرافية، بجعل غالبية سكانها من العرب.[46]
وحول موضوع الوجود العربي في وادي النيل، تناول محمد العزب موسى، في كتابه وحدة مصر، موضوع علاقة مصر العربية الحديثة بحضارات مصر القديمة بالبحث والتدقيق، مؤكدا على وجود خيط يربط مراحل تاريخ الشعب المصري. وتناول هذا الموضوع من زوايا مختلفة: تاريخية وثقافية وانثروبيولوجية وفولكورية.
وأشار إلى أن مصر تنازعتها في مطلع نهضتها الحديثة ثلاثة اتجاهات انتمائية لم تستطع أن تتعايش فيما بينها.[47]وهذه الإتجاهات هي: الإتجاه الإسلامي الذي كان ينادي بالإرتباط بجامعة الشعوب الإسلامية، ويجعل العقيدة الإسلامية محور التوجه السياسي. والإتجاه الفرعوني، الذي يرى أن مصر تختلف بحكم أصلها وظروفها عما يجاورها من الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي يحصر نشاطها في مجالها الإقليمي الذي قد يمتد ليعني وحدة وادي النيل. والإتجاه القومي العربي، الذي يركز على أن مصر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية بحكم الأصل واللغة والمصالح والمشاعر والتاريخ، وينبغي بالتالي أن تكون القومية العربية محورا للفكر والسياسية.[48]ومنه يصل إلى أن هذه الإتجاهات كان لها تأثير واضح في النظرة إلى التاريخ المصري. فالذين ينادون بالإتجاه الإسلامي يركزون على تاريخ مصر الإسلامية وثقافاتها ويغفلون ما عدى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للإتجاهين الفرعوني والعروبي. ويعترض الكاتب على جميع هذه الاتجاهات فيقول
واعتقد أنه بالرغم من الاختلافات الظاهرة بين هذه الاتجاهات الثلاثة فإنها غير متناقضة أصلا فيما بينها، فهي ثلاثة أوجه لحقيقة مصر الواحدة. وما الحساسية المفرطة التي كانت ترتبط بالخلاف بين هذه الإتجاهات الثلاثة إلا عرض من أعراض المراهقة الفكرية,, ليس هناك تعارض بين الذاتية المصرية، والعقيدة الإسلامية، والقومية العربية، إنما يبدأ التعارض عند محاولة وضع إحدى هذه المقولات في غير وضعها الصحيح.[49]
والنظرة السليمة للتاريخ المصري والشخصية المصرية هي التي لا تبتر الماضي، ولا تعتبره في نفس الوقت عبئا أو قيدا جامدا على الحاضر. إنها تركز على الحاضر، ولكنها تتسع للماضي وتبحث فيه عن جذور الحاضر والمستقبل. إنها صيغة خلاصتها وحدة واستمرارية التاريخ المصري مع الإقرار بعدم جموده أو ركوده، فهي إذ تقول بأن جذور مصر الحديثة تمتد في أعماق مصر القديمة، فإن مصر ليست مومياء تخلفت عن مصر القديمة. وهي إذ تزعم أن الشعب المصري أكثر شعوب العالم عراقة، إلا أنها في نفس الوقت تراه من أكثرها تجددا ومرونة، فقد جدد دماءه وأفكاره أكثر من مرة عبر التاريخ.[50]
ومن جهة أخرى، فإن فهم مصر وتاريخها، كما يرى محمد العزب موسى، لا يمكن أن يتم بمعزل عن علاقتها بالأمة العربية، وفي ذلك يستشهد الكاتب بوجهة نظر المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، حيث يعارض الأخير أطروحة المؤرخ كامي جوليان في تأكيده على شخصية فرنسا التاريخية منذ أقدم العصور، وبالتحديد منذ ما قبل التاريخ عندما لم يكن هناك شيء اسمه فرنسا. إن كامي يعتبر فرنسا وحدة قائمة بذاتها من مختلف العصور، فلو أن العالم كله زال من حولها، وبقيت وحدها لما كان لذلك أثر في نظريته، بل لا ستمرت بحدودها المادية الواضحة كما هي يغزوها الغزاة، فتتغلب عليهم بوطنيتها. لقد انتقد توينبي هذا الأسلوب في كتابة التاريخ ورآه قائما على تصور خاطئ. إذ من غير الممكن كتابة تاريخ لفرنسا يكون مستقلا عن تاريخ أوروبا، كما لا يمكن كتابة تاريخ خاص لسويسرا أو الصرب أو أوكرانيا يكون منفصلا عن تاريخ المجتمع الغربي.[51]
وبالمثل يرى توينبي أن من الصعب فهم التاريخ البريطاني أو دراسته بمعزل عن وحدة أكبر، هي المجتمع الأوروبي الغربي في مجموعه، وكذلك الحال بالنسبة لأية دولة، فإنه لا يمكن عزلها عن العوامل المحيطة بها.
وخلاصة القول، إن الشعب المصري لم يكن معزولا عن الإرتباط بالأمة العربية، ولم يكن ارتباطه فيما بعد بالدولة العربية، واختياره الطريق القومي العربي محض صدفة، أو بسبب اعتناقه الدين الإسلامي، فهناك أمم عديدة اعتنقت الإسلام، ولكنها بقيت محافظة على هويتها ووجودها القومي، والأمثلة على ذلك كثيرة..
كان المصريون دائما من الجنس السامي، أو على الأقل ربطتهم به روابط الدم والثقافة نتيجة لاختلاطهم بالأقوام السامية منذ عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الفرعونية وما تلاها. ولذلك ما أن بدأت الموجة الأخيرة من الهجرة العربية إلى مصر بعد الفتح الإسلامي حتى أحدثت أثرها سريعا، وعاد الفرع إلى الأصل.[52]
وتسلط قصة “سنوحي” أو “سنوهي”، التي هي من أحب القصص على قلوب المصريين القدماء، الضوء على الصلة بين وادي النيل وجزيرة العرب. وقد أخذت مكانها أثناء حكم الأسرة الفرعونية الثانية عشر. ويعتقد أن بطل هذه القصة شخصية حقيقية عاش أيام الملكين امنحوتب الأول وسنوسرت الأول (1991-1934 ق.م) وأنه دونها بعد عودته إلى وطنه من رحلة طويلة حافلة. ويقرأ فيها قول الملك لأسرته حين استقبل سنوهي: “انظروا، ها هو سنوهي الذي عاد إلينا آسيويا، ابنا حقيقيا من أبناء البدو”.
والواقع أن هذا التحليل حول، علاقة مصر بالعروبة قبل الإسلام ينسحب على مختلف الحضارات التي سادت في المشرق العربي في العهود المختلفة قبل الإسلام، أشورية وبابلية وكلدانية وسومرية وفينيقية.. فالثابت تاريخيا أن غياب شمس تلك الحضارات لم يكن بفعل عمليات إبادة للشعوب التي كانت منضوية تحت لوائها، وإنما تم بفعل عوامل تاريخية وموضوعية مترابطة أدت مجتمعة إلى ضمورها واضمحلالها، وقيام حضارات جديدة بديلة عنها، تمتلك كياناتها الخاصة، لكنها في نفس الوقت تحتفظ بإرث الماضي وعاداته وتقاليده كجزء من مخزونها الحضاري، في عمليات ممتدة ومتصلة.
وقد ناقش جمال حمدان في كتابه شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان علاقة مصر بالعروبة فأشار إلى أنه ليس من المبالغة التذكير بقيمة وخطر موجة الهجرة العربية على وادي النيل من الناحية اللغوية، فهي التي غيرت لسان مصر القديمة وعربتها كليا ونهائيا. لكن الخلاف في التقييم يتركز على الناحية الجنسية بالذات، ويشير إلى ذلك بقوله
والواقع أن موجة أو هجرة ما في تاريخ مصر لم تتعرض للإختلاف على تقييمها جنسيا، كما تعرضت الموجة العربية، فهناك دائما أحد اتجاهين.. إما إلى المبالغة المفرطة في تقدير أثرها ووزنها، وإما إلى المغالاة الشديدة في التقليل من خطرها ونتائجها، والإتجاه الأول، وهذا طبيعي، يظهر غالبا في كتابات بعض المصريين أنفسهم أو العرب، بينما يسود الثاني بداهة عند بعض كتاب الغرب والعالم الخارجي.
ويرفض الكاتب بشكل قاطع وحاسم، تصوير المصريين كما لو كانوا عربا مستوردين من الجزيرة العربية، كما يرد في بعض الكتابات المصرية، أو أن عملية إحلال وإبدال كاملة أو حتى جزئية قد حدثت بين المصريين القدماء والعرب القادمين.. إن مثل هذه النظرة غير صحيحة وليس أبعد منها عن الحقيقة سوى النظرة العكسية الغربية التي تقلص الوجود العربي الجديد في مصر إلى مجرد قشرة رقيقة هشة على السطح لا وزن لها كما ونوعا.[53]
كما يرفض شكاوى الأنثروبولوجيين الأوروبيين المهتمين بدراسة هذه المنطقة من إطلاق بعض الأفراد والجماعات في أفريقيا الشمالية، بما في ذلك مصر، تسمية عربي على أنفسهم، مع أنهم، من وجهة النظرهذه، أبعد ما يكونون عن ذلك ظاهريا أو تاريخيا. لقد أقنع هؤلاء الأنثروبولوجيون أنفسهم أن الانتماء إلى العروبة ما هو إلا ادعاء شائع يكاد يصل إلى حد العقدة النفسية- الإثنولوجية عند الأفارقة. وانطلاقا من هذه الرؤية، جرى الترويج بأن عملية التعريب لم تتجاوز أن تكون باللسان أو المرادفة للإسلام. وهي في الحالتين مجرد تعبير ثقافي لا جنسي. وهكذا بولغ في التحفظ في تقييم الوزن الحقيقي للعرب، يقول شانتر مثلا: “أما عن العرب الذين كثيرا ما يطلق إسمهم بطريقة غير سليمة على المصريين، فقد نسب إليهم تأثير أكثر بكثير مما كان لهم في الحقيقة”. بينما يقول بيتري بلا تحفظ: “إن الفتح العربي كان تغييرا في السادة الحكام أكثر منه تغييرا في الجنس”.[54]
ويعارض الكاتب جمال حمدان كلا من نظريتي احلال العرب القادمين مكان المصريين القدماء، والتنكر لانتماء المصريين ظاهريا وتاريخيا للعروبة موضحا
أن كلا الاتجاهين متطرف تعوزه الدقة، وربما الموضوعية.. أما الحقيقة العلمية، حين تفهم صحيحة، فليست فقط وسطا بين النقيضين، ولكنها كذلك أبسط من أن تمثل مشكلة خلافية معقدة، فالذي لا شك فيه هو أن الهجرة العربية أول وآخر وأخطر هجرة استيطان موجبة فاعلة وناجحة في تاريخ مصر، ومن ثم أهم وأخطر إضافة، ولا نقول بالضرورة تغييرا أو تعديلا، إلى تكوين الدم المصري منذ عصر ما قبل الأسرات، وبالتالي في تاريخ الشعب المصري برمته بعد أن وضعت فرشته الأساسية، أو كما يقول بحق كيث مشيرا إلى الفتح العربي: “في فترة واحدة فقط من تاريخ مصر اللاحق كان هناك تدفق كبير من الدماء (أو الجينات) الجديدة”، لا يقلل أو يغير من هذا أنها لم تغير أو تبدل بأي قدر مذكور من تركيب المصريين ذاته، ولذا فهي دون تناقض نقطة التقاء، مثل ما هي وبقدر ما هي، نقطة اتصال في تاريخنا الجنسي.[55]
ويوضح الكاتب أوجه ذلك التشابه الجنسي، فيشير إلى قرابة أنثروبولوجية أساسية بين طرفي العملية، عرب الجزيرة والمصريين. فسكان الجزيرة العربية هم من الساميين، بل قلب السامية، إن لم يكونوا أصلها. إنهم والحاميين، الذين ينتمي المصريون إليهم، تعديلان نتجا من عرق جنسي مشترك، وأفضل تشبيه لهما أنهما فرعان من شجرة واحدة. وأن ما يرسخ تلك العلاقة أن التمايز بينهما تم في زمن ليس بالبعيد جدا، دليل ذلك أوجه التشابه العديدة بينهما في اللغة والحضارة، فضلا عن الصفات الجسمية ذاتها التي تجعلهما معا أقارب للأوروبيين من جنس البحر المتوسط، “إنهما أقارب بعيدون نوعا”.[56]
ويستخدم جمال حمدان الموقع الجغرافي ليسند به وجهة نظره عن علاقة المصريين بعرب الجزيرة فيشير إلى أن الحاميين ينقسمون إلى شرقيين وشماليين، وكذلك الحال مع الساميين فهم ينقسمون إلى شماليين وجنوبيين. ويستنتج من ذلك أن الساميين الشماليين أقرب للحاميين الشرقيين انثروبولوجيا وجغرافيا، وفي ذلك يقول
إذا كان الحاميون ينقسمون إلى شرقيين وشماليين وكان الساميون ينقسمون بدورهم إلى شماليين وجنوبيين، فإن من الواضح أن الساميين الشماليين مع الحاميين الشرقيين هم الأقرب بين المجموعتين أثنوبيولوجيا كما هم جغرافيا.. كذلك فإذا كان البحر الأحمر قد فصل بين الساميين والحاميين، فإن الإستثناء الوحيد كان سيناء، وبالتالي لم ينفصل ساميو الجزيرة عن حاميي مصر أبدا، وفي النتيجة النهائية، فإن عرب الجزيرة ومصريي النيل يمثلون معا المجموعتين الأكثر تشابها وتداخلا والأشد تقاربا وقرابة من بين كل الساميين والحاميين معا، إنهم الأقارب الأقرب على الإطلاق بين مجموعة الأقارب البعيدين نوعا بدرجة أو بأخرى.[57]
وعند هذه المرحلة يشير الكاتب إلى أن بإمكانه أن يتفهم، دون مغامرة، الأسباب التي أدت إلى نجاح موجة الهجرة العربية إلى مصر، في حين فشلت فيه سابقتاها أو سابقاتها. والجواب، يقدمه لنا ببساطة وقوة بقوله
أمن المبالغة، أو يكون من المستكثر، أن نقول إنها مسألة “قرابة عائلية”؟ نريد أن نقول إن من الراجح جدا أن جزءا من تقبل المصريين للعرب الوافدين يرجع إلى إحساسهم وإدراكهم بأنهم بعض أقاربهم وأصولهم ليسوا بغرباء أجانب حقا أو تماما كسابقيهم، إنهم من الناحية الشكلية على الأقل، أي من حيث اللون، بنوا جلدتهم” كذلك فلا شك أن حاجز اللغة، فضلا عن الدين، ساعد على إزالة حاجز الجنس، بمعني أن قرب اللغة العربية السامية من اللغة المصرية القديمة الحامية السامية- عد البعض عشرة آلاف كلمة مشتركة بينهما- قد سهل التقريب بين العنصرين وشجع الإمتزاج الكامل بينهما، بحيث تحول التعريب إلى بوتقة للشعبين.[58]
ومن أجل التأكيد على صحة استنتاجاته، ينبه الكاتب من يشكك في الإعتبارات التي أشار إليها، أو يقلل من أثرها إلى كيف سادت العروبة كل العالم السامي والحامي خارج الجزيرة العربية، بينما توقفت عند سفوح زغاروس الآرية بإيران، وأقدام الأناضول التركية، كما ارتدت عن الأندلس القوطية، بما يدلل على غربة تلك اللغات عن العربية. يضاف إلى تلك الإعتبارات، ملابسات وعوامل أخرى تضاريسية أو مناخية أو دينية..
ويلاحظ أن مصر التي تعربت بسرعة مدهشة مع وصول الفتح العربي إليها، تعرضت من قبل لغزو يوناني ثم روماني، واستوطن بها من اليونانيين والرومانيين أعدادا كبيرة لا يستهان بها، قرابة ثلاثة أو أربعة قرون، ومع ذلك لم يتمكن أولئك الغزاة من تحقيق “أغرقة” ولا “رومنة” لغوية كما لم يحدث امتزاج ثفافي أو جنسي. وقصارى ما استطاعوا أن ينجحوا فيه هو مزج الكتابة الإغريقية واللاتينية باللغة المصرية القديمة في شكل الديموطيقية التي لم تلبث أن اختفت هي الأخري بعد الفتح العربي مباشرة.[59]
ويدلل الكاتب على أثر القرابة الأنثروبولوجية والتقارب الإثنولوجي بين المصريين وعرب الجزيرة في التركيب الأساسي لأجسام سكان مصر، بالتذكير بأنها وحدها التي تفسر عدم حدوث تغيرات أساسية في ذلك التركيب، رغم ضخامة الهجرات العربية لها بعد دخولها في الإسلام. وفي ذلك يقول
فرغم الأعداد الكبيرة التي انصبت من العرب في مصر، ورغم الإختلاط البعيد المدى الذي تم بين المصريين، فإن هذا لم يغير من التركيب الأساسي لجسم السكان أو دمهم، لماذا؟- لا لسبب سوى أن العنصر العربي من أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصري الذي لا يختلف جسميا عن “البدوي” كما يضعها كيث، فكلاهما كما رأينا أقارب جنسيا منذ ما قبل الإسلام، بل وما قبل التاريخ، والصفات الجسمية الرئيسية متشابهة متقاربة خاصة الرأس الطويل ولون البشرة والشعر والعين والطول والقوام.. حتى عنصر الرأس العريض السائد في عرب الجنوب- وهي منطقة عرض رأس مؤكدة- لم يكن غريبا على مصر، حيث رأينا في المصريين القدماء عنصرا بازغا من عرض الرأس منذ عصر الأسرات المبكر، وقد كشفت الأبحاث في بعض المقابر العربية قرب القاهرة عن مجموعات من جماجم متطرفة في عرض الرأس، ولكن لها يقينا مثيلاتها بين المصريين أنفسهم.[60]
وهكذا يتوصل الكاتب جمال حمدان إلى أن الإختلاف المصري الجنسي- العربي كان بمثابة زواج بين أقارب بعيدين، ولهذا قيل إنه إذا كان العرب قد عربوا مصر ثقافيا، فإنها مصرتهم جنسيا. وأيا ما كان، فإن الكاتب لم يهدف من هذا القول أن ينفى وجود قدر، “وقدر كبير” من الأثر الجنسي للعرب، إلا أن ذلك الأثر لم يغير من التجانس الأصلي للسكان المصريين. وسبب ذلك يعود إلى أن التشكيلات الأساسية لأجسامهم كانت مسكونة بالجنس العربي منذ الهجرات السامية القديمة. وقد وصل أثر تلك الهجرات إلى السودان، وإن كان ذلك بدرجة أقل، لأن ما انصب بذلك القطر من هجرات سامية كان أقل بكثير مما انصب في مصر. ونتيجة ذلك أن استمر الأساس الجنسي القاعدي في السودان مختلفا اختلافا عظيما ما بين السكان الأصليين والعرب الوافدين.[61]
خلاصة القول، إن الحضارة العربية لم تنشأ من فراغ ولم تأخذ مكانها في ظل قطيعة الزمان والمكان، بل كانت تواصلا حضاريا وتاريخيا، بدأت بالحضارات التي نشأت فيما بين النهرين وبلاد الشام ووادي النيل، واستمرت في حقب ممتدة آلاف السنين، مستمدة فتوتها وحيويتها من مخزونها ومواريثها وتراكم ابداعاتها. وحين جاء الإسلام، اندفع العرب في تأسيس نهضتهم الجديدة، مستلهمين من ذلك كله زخما ومحرضا.
معركة التحرر الوطني ضد الإستعمار
استمرت نهضة العرب بعد الإسلام، وأخذت أبعادا حضارية جديدة. ولأن علاقة الأمة بالتاريخ جدلية تختزن الوحدة والتضاد، فقد مر الشعب العربي بمراحل من النهوض والتداعي، لكن الأمة بقيت حية وعصية على الإندثار. فهي في مراحل نهوضها تعطي وتضيف إلى الحضارة الإنسانية الكثير الكثير، وعندما تضعف تستنهض مخزونها الحضاري متكئة عليه ومتخذة منه عناصر للمقاومة والدفاع عن الوجود.
كانت مفاهيمها ووعيها ورؤيتها لذاتها تتطور وتتكيف تبعا للمتغيرات الذاتية والموضوعية والتاريخية التي تمر بها. وقد جرت مناقشة ذلك بشئ من التفصيل في الفصل الأول من هذا الكتاب، عند الحديث عن تطور مفهوم الهوية. لكن الإيمان بأمة عربية واحدة، بقي حقيقة واقعة، طيلة كل الحقب التي مرت بها الأمة، منذ انبثاق الإسلام، مستمرا في حلقات ممتدة عبر العصور. وحين تعرض العرب في عصرهم الحديث لهجمة الإستعمار الغربي على أقطارهم، عبروا عن انتمائهم لعروبتهم بصيغ وأشكال مختلفة.. عبروا عن ذلك بتلازم نضالهم وتداخل مطالبهم ووحدة أهدافهم. وفي النضال الوطني الذي شهده الوطن العربي، فيما بين الحربين العالميتين، للتحرر من الإستعمار، ترصد بعض الملاحظات الجديرة بالتسجيل، والتي تؤكد على عمق الإنتماء والتواصل بين أبناء الأمة.
أولا: إن الشعب العربي واصل امتشاق سلاحه ومقاومته للإستعمار، إثر هزيمة العثمانيين، في نهاية الحرب العالمية الأولى، ووضع اتفاقيات سايكس بيكو السيئة الذكر قيد التنفيذ. وقد عمت حالة الغضب والنهوض الوطنيين سائر أرجاء الوطن العربي بعد تكشف الغدر البريطاني الفرنسي بحق العرب، وتم ذلك في حقبة تاريخية واحدة. فقد شهد عام 1919م انعقاد مؤتمر دمشق الذي اتخذ قرارات تاريخية بعدم الإعتراف باتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. كما شهد نفس العام انعقاد مؤتمر آخر مشابه في القدس. وفي مصر كانت هناك ثورة شعبية عارمة تشتعل بزعامة سعد زغلول.
وفي عام 1920م، كانت هناك انتفاضات في فلسطين وسوريا، وثورة شعبية مسلحة في العراق. وفي عام 1925م اندلعت ثورة سوريا الكبرى بقيادة سلطان الأطرش ضد الإستعمار الفرنسي، وانتفضت في الوقت ذاته مدن فلسطين وقراها ضد الوجود البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وفي الأربعينيات اندلعت انتفاضات وثورات ضد الوجود الإستعماري في الوطن العربي، كان على رأسها ثورة آذار/ مارس القومية عام 1941م ووثبة كانون عام 1948م في العراق. وتم استقلال سوريا ولبنان عام 1946م، واستكمل تننفيذ المؤامرة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في 1947-1948م.
ثانيا: تداخل المباديء والأفكار التي رفعتها الحركة الوطنية العربية في مواجهة الوجود الإستعماري. وكانت خلاصة تلك المبادىء، المطالبة بالحرية والإستقلال وحق تقرير المصير، والتمسك بالتراث التاريخي والقومي للأمة. فقد تمثلت مطالب الشعب العربي في سوريا بتحقيق الإستقلال السياسي التام، والغاء اتفاقيات سايكس-بيكو ووعد بلفور وأي مشروع لتقسيم سوريا، والنضال ضد إنشاء دولة صهيونية في فلسطين، وتأييد استقلال العراق والشام، ورفض الوصاية السياسية التي تضمنتها النظم الإنتدابية التي أقرتها عصبة الأمم. وتمثلت مطالب الحركة الوطنية اللبنانية في إنجاز الإستقلال السياسي التام، والخلاص من الهيمنة الفرنسية. أما مطالب الحركة الوطنية الفلسطينية فكانت، رفض الإحتلال البريطاني لفلسطين ووعد بلفور، ووقف الهجرة الصهيونية، واعتبار فلسطين جزءا من سورية الجنوبية، ووحدة سورية الكبرى، والإعتراف باستقلال فلسطين ضمن الوحدة العربية. وكان التنسيق مع الحكومة العربية والحركة الوطنية في دمشق شرطا أساسيا لتحقيق هذه المطالب. وتمثلت مطالب الشعب العراقي، في إلغاء اتفاقية سايكس-بيكو وتحقيق الإستقلال، ورفض الوجود البريطاني واستخدام العراق كجزء من ماكنة الحرب العالمية الثانية، والنضال ضد المعاهدات والإتفاقيات والأحلاف الإستعمارية، والإلتحام بالقضايا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين.
وفي مصر اتسمت المطالب الوطنية بالنضال من أجل تحقيق الإستقلال والحرية، ورفض الحماية البريطانية، والنضال ضد فساد القصر الملكي وتخاذله تجاه القضايا القومية والمصيرية، خاصة قضية فلسطين. أما نضال الحركة الوطنية بالسودان، فقد كان بهدف انجاز الإستقلال التام، وتحقيق وحدة وادي النيل، ودحر الوجود البريطاني. وفي الجزائر، هدف النضال الوطني إلى مواجهة الفرنسة، والتمسك بالتراث التاريخي والقومي للأمة، والتأكيد على عروبة الجزائر، وتحقيق الإستقلال التام، والمطالبة باستقلال تونس والمغرب وصولا إلى وحدة عربية مغربية.
ثالثا: لم تكن الشعارات التي رفعتها الحركة الوطنية شعارات اقليمية، بل تعدت في كثير من الحالات الحدود الجغرافية لأقطارها، بطرح مطالب قومية. ففي عام 1917م، قامت حملة عامة من الإحتجاجات في سوريا ضد ب׀ع أراضي الدولة في بيسان بفلسطين لليهود، وهي جريمة أقدمت عليها السلطات التركية بالتواطؤ مع الصهاينة.[62]وقد اتسقت مقررات مؤتمر سوريا العام ومؤتمر القدس عام 1919م، حيث ارتقت مطالب المؤتمرين لمستويات تعدت حدود المطالبة باستقلال سوريا وفلسطين، إلى المطالبة بإلغاء اتفاقية سايكس-بيكو، وتحقيق الوحدة العربية، والمطالبة باستقلال العراق وإيقاف الهجرة اليهودية، والنضال ضد تأسيس الكيان الصهيوني, وكانت الحركات الوطنية في مختلف أقطار الوطن العربي، قد حملت شعارات مماثلة، ذات أبعاد ومضامين قومية.
فأثناء العدوان الثلاثي على مصر، طافت مظاهرات شعبية ضخمة شوارع بغداد مطالبة بإلغاء حلف السنتو الذي عرف بحلف بغداد والوقوف إلى جانب شعب مصر العربي في معركته ضد العدوان. وتجلى الموقف التضامني للشعب العربي في سوريا لنصرة العراق في البيانات والمنشورات التي أصدرتها حركة الإحياء العربي. وإثر تأميم قناة السويس عام 1956م، رفض العمال العرب في كل موانئ الوطن العربي تفريغ البواخر الأمريكية احتجاجا على رفض الأمريكان تفريغ الباخرة المصرية كيلوباترا. كما قام أحرار سوريا بنسف خط التابلاين المتجه لساحل البحر الأبيض المتوسط تضامنا مع الشعب المصري.
كما كان تضامن الشعبين المصري والسوداني مع بعضهما البعض في نضالهما الوطني للتخلص من الوجود البريطاني جليا، تمثل في المطالبة بالإستقلال، وإعادة تحقيق الوحدة بينهما. وكان دور الشعب العربي، على امتداد أقطار الأمة بارزا في معركة التحرير الوطنية الجزائرية منذ انطلاقة الثورة المسلحة. وتجلى ذلك في حملات التطوع، وانخراط المئات من الشباب العرب، من مختلف أقطار الوطن العربي، في جيش جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وفي عشرات الأطنان من القلائد وأساور الذهب التي تبرعن بها النساء العربيات لدعم الكفاح الجزائري لنيل الإستقلال. إضافة إلى حملات التبرع بالمال والدم التي عمت أرجاء الوطن العربي، والاستقبالات الحاشدة لأبطال الثورة الجزائرية في القاهرة ودمشق وبغداد والكويت.. وكل مدينة عربية وطأت أقدام الثائرين على أرضها، وفي حناجر الملايين من العرب مرددة مع الثوار قسمهم بأن تحيا الجزائر. وكانت المشاركة القومية للنظام الوطني في مصر بزعامة جمال عبد الناصر عاملا أساسيا دفع بالحكومة الفرنسية إلى المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م.
ويوضح تقريران بعث بهما القنصل البريطاني في القدس لحكومته مدى تعاطف الشعب الفلسطيني مع القضايا العربية. التقرير الأول صدر عام 1883م، في أعقاب ثورة عرابي ضد الغزو البريطاني لمصر، حول تجاوب عرب فلسطين مع هذه الثورة وقيام اضطرابات في يافا والقدس تعبيرا عن ذلك التجاوب، حيث يقول
من الثابت والأكيد أن المسلمين المحليين يعطفون بعمق على عرابي بوصفه مسلما يحارب ضد المشركين وايضا وبشكل خاص بوصفه بطل الجنس العربي المسلم الذي يتوقف على نجاحه مستقبل جنسهم لا مجرد صد الغزو عن مصر فحسب.[63]
أما التقرير الثاني فقد صدر بعد سنتين من التقرير السابق، ويتعلق بردة الفعل الفلسطينية تجاه ثورة المهدي بالسودان. وفيه يشير إلى أنه على الرغم من عدم تجاوب مسلمي فلسطين مع الجانب الديني لحركة المهدي، فإن هناك تعاطفا مكبوتا معه، باعتباره عربيا يناضل من أجل جنسه (العربي) ضد السيطرة التركية، وسوء الحكم.
رابعا: رفض الشعب العربي السوري الإحتلال الفرنسي لأرضه، وخاص معارك باسلة ضد وجوده، كما رفض الهيمنة العثمانية من قبل وقاوم وجودها، ولكنه استقبل الأمير العربي الحجازي فيصل بن الشريف حسين استقبال الأبطال. وبالمثل رفض العراقيون الإحتلالين العثماني والبريطاني لأرضهم، لكنهم فتحوا الصدور لاستقبال الملك فيصل. وقد تكرر ذلك في شرق الأردن، حين وصل الأمير عبد الله بن الشريف حسين فاستقبل من الشعب هناك استقبال الفاتحين، قبل أن يتكشف للعرب التنسيق الفاضح بين ملوك الوصاية وبين البريطانيين.
خامسا: في المعارك الوطنية التي خاضها الشعب العربي من أجل الحرية والإستقلال، شارك مناضلون عرب من جميع الأقطار العربية في تلك المعارك، دون وضع اعتبار لانتماءاتهم القطرية. ففي لبنان شارك طلبة عرب من سوريا والأردن والعراق وفلسطين أشقاءهم اللبنانيين في الدفاع عن استقلال هذا القطر، باعتباره جزءا من وطنهم العربي الأكبر. كما شارك متطوعون عرب من الأردن والعراق وسوريا ولبنان في ثورة 1936م الفلسطينية التي كان مقدرا لها أن تستمر، لولا تدخل الملوك العرب الذين وجهوا نداء مشتركا طالبوا الفلسطينيين فيه وقف الثورة وحل الإضرابات والإعتماد على النيات الطيبة للصديقة بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها ستحقق العدالة.[64] كما شارك مناضلون عرب في القتال جنبا إلى جنب مع الشعب الجزائري في معركة استقلاله.
وفي مواجهة الإستعمار الإيطالي للقطر الليبي، تطوعت أعداد كبيرة من الشباب التونسيين إلى جانب المجاهدين، وأرسل الشعب الإعانات المختلفة، وتكونت لجان الدعم. وأثناء الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948م، تطوع من تونس وحدها 2676 شابا للإنخراط في الوحدات المقاتلة، وغادروا فعلا إلى القاهرة للتوجه منها إلى جبهات القتال. كما تطوع عشرة آلاف شاب من أبناء المغرب العربي المقيمين في فرنسا للإنضمام إلى المعركة.[65]وإذا قارنا نسبة المتطوعين إلى نسبة التعداد السكاني للشعب التونسي آنذاك، ونسبة المتطوعين من الشباب المغاربة من فرنسا، إلى نسبة المتواجدين منهم هناك يتضح لنا مدى اندفاع الشعب العربي بالمغرب في مواجهة المشروع الصهيوني.
سادسا: حكمت طبيعة المواجهة والتحدي مع الإستعمار تطور مفهوم الهوية. ففي المشرق العربي كان النضال العربي ضد العثمانيين قوميا خالصا، حيث فاد العرب المسيحيون، الذين كانوا عرضة لنوعين من الإضطهاد: قومي وديني، النضال القومي. أما في المغرب العربي، فقد واجه العرب استعمارا أوروبيا استيطانيا مباشرا عمد إلى تخريب الثقافات والمعتقدات، ولم يكن للعثمانيين وجود مباشر، أثناء احتلالهم لتلك الأقطار. وقد أدى ذلك إلى تداخل المعاني الوطنية والدينية والقومية بشكل أكثر حدة مما كان في المشرق العربي. وقد تناولنا مناقشة ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.[66]
سابعا: تمكنت القوى الإستعمارية، خاصة الإستعمار البريطاني، من الإلتفاف على الحركة الشعبية في عديد من أقطار الوطن العربي، بأن نصبت حكاما، ربطتهم باتفاقيات عسكرية ومعاهدات حماية، ضمنت للمستعمرين استمرار الهيمنة على تلك الأقطار. وقد قام أولئك الحكام بتنفيذ سياسات أسيادهم. فعلى سبيل المثال، قامت بريطانيا بتنصيب فيصل بن الحسين ملكا على العراق، وعبد الله بن الحسين ملكا على الأردن، وقد أصبح لكليهما، فيما بعد دورا مباشرا في المشاركة بتنفيذ المشروع الصهيوني لاغتصاب فلسطين.
وفي مصر انتهت الثورة التي اندلعت بقيادة سعد زغلول عام 1919م، تحت شعار الإستقلال التام، بإقرار الحماية البريطانية على مصر. وتحولت القوى السياسية والإجتماعية التي حركها المد الشعبي إلى قوى مهادنة للإستعمار بدلا من الإستمرار في مقاومته، فقد أغرتها مواقع السلطة والنفوذ التي احتلتها، والإمتيازات الطبقية التي حصلت عليها، فأضعفت مقاومتها ودفعت بها إلى المهادنة. وكان من نتيجة ذلك أن ضمنت بريطانيا حق تأمين مواصلاتها في مصر، وحقها في تأمين المصالح الأجنبية، وحماية الأقليات، وابقاء الحكم في السودان ثنائيا، تشرف عليه الحكومتان المصرية والبريطانية.[67]
وقد ضمنت تلك المعاهدة لبريطانيا الحق في ابقاء عشرة آلاف جندي في القناة مؤقتا، دون تحديد لذلك الوقت، كما مكنتها من جعل أراضي مصر قاعدة للجيوش البريطانية. وأثناء الحرب العالمية الثانية تجلت مساوئ تلك الإتفاقية، حيث أصبحت البلاد بأكملها تحت سلطة القوات البريطانية، كما أصبحت السفارة البريطانية تقوم بدور الآمر والناهي، حيث كانت تطلب من الحكومة المصرية إعلان الأحكام العرفية، ووضع الرقابة على الصحف والمطبوعات متى ما شاءت، كما كانت تقوم بتحديد طبيعة العلاقات السياسية والدولية للقطر المصري. ومن خلال تلك المعاهدة، تمكنت بريطانيا من فرض هيمنة مباشرة وشاملة على كافة المنشآت الحيوية من مطارات وموانئ وسكك حديدية. وبلغ من تدخلها في الشؤون الداخلية أن أصبحت تقرر أسماء أعضاء الوزارة التي تدير الحكم، وتحاصر الملك بهدف إعادة هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة. كما حدث حين حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين في 4 شباط/ فبراير 1942م، بهدف الضغط على الملك لإعادة حزب الوفد إلى الحكم كونه معاديا لدول المحور.
ومثل هذا الحال ينطبق بشكل أو بآخر، على العلاقات البريطانية مع العراق والأردن، حيث ربطت تلك البلدان بمعاهدات واتفاقيات، وأقيمت على أراضيها قواعد عسكرية، كقاعدتي الحبانية والشعيبة في العراق. كما ينطبق على مشيخات الخليج والجزيرة العربية، فقد ربطت تلك المشيخات بمعاهدات قيدت حريتها وفرضت عليها تبعية سياسية مطلقة لبريطانيا، حرمتها من ممارسة السيادة داخل حدودها الإقليمية، ومنعتها من البيع والتأجير وإقامة العلاقات مع الدول الأخرى دون موافقة مسبقة منها.
ثامنا: نشطت القوى الإستعمارية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بعد نشوب الحرب الباردة بينها وبين الكتلة الإشتراكية بزعامة الإتحاد السوفياتي في السعي لتكوين أحلاف عسكرية موالية لها في مواجهة الكتلة الشرقية. وكان من أبرز الأحلاف التي شهدتها تلك المرحلة حلف بغداد الذي أعلن عن نشأته عام 1955م، وقد ضم العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مراقب. وكان تشكيل هذا الحلف قد هدف إلى ضمان الهيمنة السياسية والإقتصادية لبريطانيا وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية على الشرق الأوسط، وجعله من البؤر الإستراتيجية للتحركات العسكرية للغرب الإستعماري.
وبعد فشل هذا الحلف بقيام ثورة 14 تموز/ يوليو عام 1958م، سعت الولايات المتحدة وبريطانيا لتأسيس أحلاف أخرى، لم يقدر لها أن ترى النور، تارة تحت اسم الحلف الإسلامي في منتصف الستينيات، وتارة أخرى، تحت حجة ملأ الفراغ في شرق السويس، إثر الإنسحاب البريطاني من مشيخات الخليج العربي في بداية السبعينيات.
هكذا جرى النضال الوطني ضد الإستعمار الغربي فيما بين الحربين: نضال مشترك في سبيل الحرية والإستقلال وحق تقرير المصير، وتمسك بالتراث القومي والتاريخي للأمة، أخذ مكانه في حقبة تاريخية واحدة على امتداد الساحة العربية، وتداخل في المبادىء، ووحدة في النضال بلغت حد المشاركة في الكفاح المسلح، وتجاوز في طرح الشعارات الوطنية إلى ما هو أبعد من المطالبة بالإستقلال.
لكن مشروع التحرر، ووجه في النهاية بمحاولات استعمارية للإلتفاف عليه بخلق نظم الإنتداب والوصاية والحماية، وربط المنطقة بأحلاف عسكرية ومعاهدات مشبوهة. وقد ساعدت القوى الإستعمارية على تحقيق ذلك مجموعة من العوامل، منها ضعف مقاومة القوى السياسية التي تصدت لقيادة النضال الجماهيري، أمام مواقع السلطة ونفوذها وإغراءاتها، والإمتيازات الطبقية التي حصلت عليها، وهشاشة تركيبتها الإجتماعية. وكانت النتبجة تعثر مشروع الأمة في التحرر والوحدة، لتتبعه مشاريع ومحاولات أخرى، وتلك هي نواميس الكون.
الدول الصغرى وحق السيادة
ضمن الأطروحات الذي يذكرها المناوئون لفكرة الوحدة إن عديدا من الدول الصغرى التي نشأت في العصر الحديث تمكنت من العيش في أمن ورخاء، دون أن تبحث لها عن وحدة قومية مع أنظمة أخرى، وإن ذلك لم يمنعها من استكمال مقومات النهوض السياسي والاقتصادى. بل إن بعضا من المدن الصغيرة، كالفاتيكان وسنغافوره وإمارات الخليج العربي، حصلت على حريتها وأصبحت دولا مستقلة تحظى باعتراف الأسرة الدولية.
ويشيرون إلى أن الدول الصغرى لم تعد بحاجة للبحث عن كيانات كبرى لكى تحميها، بعد أن ألغي حق الفتح الذى كانت الدول القوية بموجبه تغزو أراضي البلدان الضعيفة فتضمها إلى ممتلكاتها بالقوة. فقد اتفقت الأسرة الدولية في عصبة الأمم المتحدة عام 1919م، إثر نهاية الحرب العالمية الأولى على وضع حد لذلك النزوع العدواني.
ويعتبرون ربط قضية التنمية والتطور الاقتصادي بالوحدة، بمثابة حجة بيد الحكام للتهرب من مواجهة مسؤولياتهم في التنمية والتحديث. وإن الأقطار العربية، بما لديها من إمكانات وثروات هائلة قادرة، كل على حدة، على تحقيق التنمية ومواجهة تبعاتها الإقتصادية واللحاق بالعصر، خاصة وأن بعضها يمتلك أكبر مخزرن نفطي عالمي يوفر الثروة اللازمة لذلك. وينطبق ذلك على دول الخليج والجزيرة العربية والعراق والجزائر وليبيا، أما الدول العربية الأخرى كمصر وسوريا ولبنان والأردن والسودان وتونس والمغرب، فانها تملك أراض خصبة واسعة وثروات زراعية وحيوانية هائلة، ومصادر مائية كبيرة. ويدللون على ذلك بوجود مجموعة من الأنهار التي تصب مياهها في الأقطار العربية، النيل ودجلة والفرات واليرموك والليطاني والعاصي. وأن بلدانا مثل مصر السودان المغرب واليمن لا تنقصها القوة البشرية اللازمة لزراعة الأرض وتعمير الصحراء. ويرون أن المبالغة في طرح قضية الوحدة العربية، جعلت منها مشجبا يعلق عليه الحكام فشلهم في تحقيق التنمية والبناء لشعوبهم.
والواقع أن تلك الأطروحات، رغم ما يبدو عليها من وجاهة وحسن نية، فإنها لا تستطيع الصمود أمام التحليل. فرسم سياسات الدول والتخطيط لضمان مصالحها، ينبغي أن لا يخضع لحسابات آنية أو مرحلية لا تربطها علاقة باتجاهات المستقبل. فالمطلوب أن تبقى دائما، مساحة للتطورات والتوقعات واحتمالات الغد. كما يجب التنبه إلى أن قوة أية دولة صغرى، أو وحدة من الوحدات القطرية لا تكون في مظاهر القوة التي تبدو فيها حاضرا، دون وعي مصادرها واتجاهاتها. وقوة هذه الدولة أو تلك، لا تكون في تبعية سياستها واقتصادها لأي من القوى العالمية السائدة، لأن ذلك سيكون على حساب سيادتها واستقلالها، حتى وإن بدا مصدر قوة في الزمن المنظور.
ولعل في قراءة تطورات الأوضاع في لبنان وما آلت له من تدهور خطير دليل على ذلك. فقد عرف لبنان حتى منتصف السبيعينات بلدا سياحيا، يضم مجموعة كبيرة من المصارف والبنوك والفعاليات المالية الأخرى، حيث كانت عاصمته بيروت تعتبر المركز المالي الأول في البلدان المعروفة مجازا بمنطقة الشرق الأوسط. ورأينا اقتصاد هذا البلد بعد ربع قرن على اندلاع الحرب الأهلية، يدمر تدميرا كاملا، حيث انحطت قيمة الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوى عرفته في تاريخها. ويمكن رد ذلك إلى سبب موضوعي بسيط، هو أن مظاهر القوة الإقتصادية التي سادت فيما مضى في هذا القطر، لم تكن مرتبطة بعملية انتاجية في الداخل، بقدر ما كانت خاضعة لمضاربات السوق، وإيداعات الزبائن وسياسة أصحاب المصارف. وحين حالت ظروف الحرب دون حصول الإحتكارات العالمية على المزيد من الأرباح من الأسواق اللبنانية، نتيجة لتراجع النــشاط السياحي، وعدم استقرار الوضع الأمني، تم سحب وتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد، وتقلص دور البنوك والمصارف وأسواق المال، وكشف القناع عن حقيقة الإقتصاد الكمبرادوري، فإذا به عاريا خاويا مجردا من كل قوة.
كذلك يجب التنبه إلى أنه إذا افترضنا جدلا وجود حالة خاصة تظهر إمكانية نجاح دولة صغرى في استكمال مقومات نهوضها السياسي والإقتصادي، والمحافظة على استقلالها، فإن ذلك لا يعني أن نستخرج منه قانونا عاما. ذلك لأن الفرضية العلمية تتحقق بإعادة تكرار التجربة، وتثبيت نتائجها، وبمعنى أدق بالشمول وليس بالإستثناء. والظاهرة الإجتماعية لا يمكن دراستها وفهم أسبابها خارج إطار الظروف الموضوعية التي نشأت فيها.
وهذا يعني أن الإعتقاد بوجود دول صغيرة تمكنت من العيش في أمن ورخاء دون أن يكون لها ظهير قوى، إن وجد، لا يمكن أن يبنى عليه قاعدة عامة، وهو على كل حال ادعاء لم يثبت حتى الآن. فالأمثلة التي تذكر للتدليل على وجود هذه الإمكانية، تنتقى في العادة من بين أسماء العشرات من الدول الصغيرة. ومع ذلك لايوفق القائمون بانتقائها في الإختيار، حيث تغيب في ذلك الكثير من الحقائق عن الطريقة والظروف التاريخية التي تكونت فيها.
فنشوء تلك الدول لم يكن تعبيرا عن خيارات شعبية في الحرية والإستقلال، بل كان مرتبطا بتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية في العالم. فقيام دولة الفاتيكان، مثلا، كان تعبيرا عن انحسار السلطة الدينية التي بدأت طلائعها ببروز حركة الإصلاح الديني البروتستانية التي قادها مارتن لوثر (1517- 1536) في انجلترا، وجون كالفن (1509-1564) في فرنسا، والتي تدعمت سياسيا حين صوت المجلس النيابي البريطاني بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديرة وإجبارها على تقويم اعوجاجها. وكانت نتيجة ذلك إغلاق المئات من الأديرة وتخلي العشرات من الراهبات والرهبان عن الرداء الديني.[68]
وقد بلغ انحسار السلطة الدينية ذروته بانتصار الثورة الفرنسية، وسيادة الأنظمة الوضعية التي أدت إلى فصل الدين عن الدولة، وهزيمة نظرية الحق الإلهي، مما أدى بالكنسية الكاثوليكية التي كانت تهيمن على أوروبا للتراجع والتقوقع في حي صغير داخل مدينة روما، هو ما يعرف الآن بالفاتيكان. ولهذا لا يمكن القول أن تلك الدولة تملك فعلا أية قوة، سوى السلطة الإعتبارية التي يمنحها إياها المؤمنون الكاثوليك في شتى أنحاء العالم. وهي على كل، لا تحمل أية مدلولات على قوة اقتصادية أو سياسية.
وبالنسبة لسنغافورة، فيجدر التذكير بالدور البريطاني في صناعة هذه الدولة وتقرير مستقبلها. وقد جاءت نتائج الحرب العالمية الثانية واستعار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي، وانتصار الثورات الإشتراكية في عديد من البلدان الآسيوية، كالصين وكوريا وفيتنام، لتفرض على الإمبريالية الأمريكية خلق أنظمة رأسمالية نموذجية آسيوية، تتنافس في قوتها الإقتصادية مع الأنظمة الإشتراكية القريبة منها.
وهكذا برزت اليابان وكوريا الجنوبية، وفرموزا وهونج كونج (سابقا) وسنغافوره، كأنظمة رأسمالية فتية قادرة على إثبات نجاح النظام الرأسمالي وقدرته على المنافسة، بل والتفوق على الأنظمة الإشتراكية من حوله. وقد أدت هذه السياسة إلى تنشيط الحركة الإقتصادية في تلك البلدان، وتثبيت دعائم النظام السياسي فيها. لكن أجهزة التحكم في نمو اقتصادها وانكماشه بقيت بيد الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال استثماراتها، وتلاعبها بانتقال رؤوس الأموال، وربط اقتصادياتها بالدولار، بل وعن طريق الهيمنة المباشرة، من خلال تواجد الأساطيل والقواعد العسكرية فيها.
وقد أثبتت الأزمات الإقتصادية التي مرت بها تلك البلدان أن ما أطلق عليه نمورا آسيوية لم تكن سوى نمور ورقية، تذكر بالأفلام الكرتونية التي يجرى تحكم المنتج في حركتها. ومما لاشك فيه أن انتصار الثورات الإشتراكية في الشطر الجنوبي الشرقي من آسيا: في فياتنام ولاوس وكمبوديا، وما ترتب على ذلك من نتائج في الصراع المحتدم بين معسكري الرأسمالية والإشتراكية، كانت عوامل حاسمة فيما آلت إليه الأوضاع من تحسن ونمو اقتصادي في تلك البلدان. ولذلك لا يمكن الحديث عن سنغافورة، كقوة اقتصادية، دون التعرض لتبعيتها السياسية والإقتصادية للإمبريالية العالمية، مما ينقص من الحرية والإستقلال والسيادة.
أما إمارات الخليج العربي، فلا يمكن إغفال الكميات النفطية الهائلة التي تختزنها أراضيها. وهي بالتأكيد لن تكون عامل قوة في المنظور البعيد، إلا إذا جرى استثمارها في خطط تنموية حقيقية، تمكنها من خلق مصادر دخل بديلة عن النفط، وهو ما لا يلوح في الأفق حتى الآن، وما لا يمكن تصوره في ظل وحدات صغيرة تفتقر للطاقة البشرية والمؤسسات اللازمة لتحقيق التنمية. وقد أثبتت حرب الخليج الثانية أن هذه الإمارات غير قادرة بمفردها على الإضطلاع بالدفاع عن سيادتها وأمنها واستقلالها. وكان بديلها هو الإستعانة بالقوات الدولية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لتحقق لها الردع والأمن والحماية.
وقد أثبتت الحوادث اللاحقة أن الإحتماء، بما أطلق عليه خطلا، بالشرعية الدولية كبديل للوحدة العربية في الدفاع عن السيادة تبسيطا ساذجا بالغ الخطورة في النظر إلى قضايا الإستقلال والسيادة وكافة القضايا المصيرية الأخرى. وأخطر مافي ذلك أنه يخلق حالة من الركود والإسترخاء تجعل من إمكانية الإختراق والهيمنة الأجنبية أمرا محققا. وتتجاهل هذه الرؤية، التعامل بالمعايير المزدوجة الذي يمارسه مجلس الأمن الدولي، بحكم هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على اتخاذ القرار فيه، واستخدامها المتكرر لحق النقض حين يتعلق الأمر بقضايا الصراع العربي مع الصهاينة ومطالبة العرب باسترجاع أراضيهم المغتصبة. كما يتناسى أن الحرية ليست هبة أو منة يقدمها مستعمر متغطرس لشعب مسالم أعزل.
والإستدلال بما حدث للكويت حين جائت قوات التحالف، باسم الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وأرغمت الجيش العراقي على الإنسحاب منها، يغفل مجموعة من الحقائق، أهمها طبيعة العلاقة التاريخية التي ربطت بين حكام الكويت وبريطانيا، وكونها محمية بريطانية حتى بداية الستينيات، وأهمية موقعها الإستراتيجي كمنتج للنفط في حسابات الولايات المتحدة الأمريكية. كما يتناسى الدوافع التي حركت الحكومة الأمريكية للمجيء للمنطقة، وهي دوافع ليس لها علاقة البتة بالمشروعية الدستورية للنظام الكويتي أو تطبيق الشرعية الدولية.
يضاف إلى ذلك أن النظام العراقي، تجاوز فعلا الخطوط الحمراء التي رسمتها القوى العظمى في المنطقة، حين بدأ في تطوير صناعاته الإستراتيجية والعسكرية، بما في ذلك الصواريخ البالستية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، بما يحقق خللا في التوازن القائم بالقوة العسكرية بين العرب وإسرائيل، خاصة وأنه لم يتردد عن إعلان موقف عدائي واضح وصريح من وجود الكيان الصهيوني. وقد تعرضت المصالح والسياسات الأمريكية والبريطانية في المنطقة، من خلال ذلك الإجتياح للخطر، فكان لا بد من اتخاذ موقف حاسم حياله.
ومن المؤكد أن حالات كثيرة مشابهة للحالة العراقية الكويتية قد حدثت، في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية ولم تسارع الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بإرسال قوات لمعاقبة المحتل وإرغامه على سحب قواته. ولكن “للمال أفعاله تستفز”.
وعلى كل فقد كانت “معركة تحرير الكويت” مدفوعة الأجر مقدما، ساهمت نتائجها في تدمير اقتصادي لعموم بلدان الخليج وإفلاس الخزائن من مدخراتها. ولا تزال المنمطقة بأسرها تعاني من وطأة ذلك الحدث ونتائجه حتى يومنا هذا.
وهكذا فليس من خيار أمام الأقطار العربية، إذا ما أرادت ضمان حريتها واستقلالها وسيادتها على أرضها، وتحقيق التنمية والتطور لشعوبها، سوى الإنضمام لتكلات اقليمية كبرى وأوسع، ليس لها أن تكون غير الإنتصار لفكرة الوحدة العربية.
هل نتراجع عن الوحدة لعدم تحققها
سيتكرر القول مستقبلا، وقد تكرر كثيرا في السابق أن الوحدة حلم رومانسي لم يكتب له التحقق، وأن الرؤية القومية طوباوية وعاطفية، بدليل تعثر مشاريعها التي بدأت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، واستمرت حتى حرب حزيران يونيو عام 1967م، وأن كل المحاولات الوحدوية التي مر بها العرب، قد منيت بالفشل. ولذلك فإن الإعتراف بالأمر الواقع يقتضي التخلي عن طرح شعارات الوحدة، والإستعاضة عن ذلك بتحقيق التنمية والتقدم للشعوب العربية من خلال الإعتراف بمشروعية الدولة القطرية..
ولاشك أن القول بأن حركة القومية العربية واجهت هزائم وانكسارات، هو أمر لا يختلف عليه اثنان، لكن الأمة العربية بقيت حية وقادرة على الإستمرار. وفي لحظة من شموخ التاريخ، جاءت الإنتفاضة الفلسطينية، انتفاضة الأقصى، وما صاحبها من نهوض شعبي عارم عم أرجاء الوطن العربي، لتثبت أن الأمة ما زالت واقفة رغم ما واجهها من مصاعب ومحن، ولتسقط دعوات اليأس وجلد الذات التي ترعرت في ظل الهزائم العربية.
لقد جاءت الإنتفاضة الفلسطينية لتؤكد على النتائج الإيجابية التي تمكنت الأمة العربية من تحقيقها، وأن الإنحناءات والمتعرجات في مسار الحركة التاريخية لا تلغ صعودها. ولتؤكد أن القياس لا يكون فقط بحجم الإنحدارات والنكسات، التي هي بالنتيجة معطيات لعمل جديد، يستلهم منها دروسا ومحفزات لانطلاقة أكثر دراية ووعيا، بل أيضا بحجم الإنجازات التي قطعتها الحركة، والإلتفاف والإندفاع والتحشد حولها وصولا إلى تحقيق المبادئ.
والهزائم التي مرت بها الأمة، ليست حقائق نهائية ومطلقة، بل يجب أن تدرس وتوضع في إطارها الموضوعي والتاريخي، فبالإضافة إلى ضعف التشكيلات الإجتماعية للوطن العربي، هناك التآمر على الحركة القومية من قبل الدوائر الإستعمارية والقوى المتحالفة معها. فلم يعد سرا بعد، اعترافات جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكي أثناء عهد الرئيس دوايت ايزنهاور في مذكراته بمحاولات وكالة الإستخبارات الأمريكية المتكررة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كما لم يعد سرا ملايين الدولارات التي دفعت لدعم حركة الإنفصال، ولا المؤامرات والحروب التي فرضت على الأمة العربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، والتي تشكل الدليل القاطع على مدى شعور تلك الدوائر بالخوف والرعب من خطورة الوحدة على استمرارية مصالحها.[69]
أما أن تفشل جميع المحاولات الوحدوية التي جرت بعد تجربة الإنفصال عام 1961م، فليس ذلك بالدليل العلمي على عدم إمكانية تحقيق الوحدة، بل ربما أكد العكس. فالكثير من الحكام العرب، ما أن يحاصروا بالضغط الشعبي، لتحقيق الطموحات في الوحدة والتنمية، حتى يتداعوا إلى مبارزات وبيانات عن مشاريع وحدوية لفظية، فإذا خفت حدة الضغوط عليهم التفوا على تلك المشاريع وأجهضوها وهي في مهدها. وهذا أمر من السهل على المرء أن يفهمه، فتحقيق هدف الوحدة، سيكون في أحد نتائجه، هدما لمراكزهم، وقضاء مبرما على مصالحهم الفردية والأنانية.
ثم إن عدم تمكن النضال الشعبي والقومي من بلوغ المستوى الذي يفرض فيه الوحدة العربية على الحكام لا يعني أن على الذين يتبنون هذا الهدف ويناضلون في سبيله مراجعة موقفهم منه. فالوحدة حالها في ذلك، حال الكثير من المبادئ والأفكار النبيلة، التي لم تتحقق رغم مضي سنين طويلة على فكرة النضال والكفاح من أجل تحقيقها. فمبادئ العدل والمساواة والقضاء على الجهل والأمراض والتخلف وتحقيق السلام، وتجنب ويلات الحروب بدأ حلم الإنسانية في تحقيقها منذ الأزل، ومع ذلك لازالت بعيدة المنال.. لكن عدم تحققها لا يعني التسليم بما هو كائن، ولا يقتضي أن يتوقف النضال من أجل تحقيق مجتمع أفضل، وإلا لكانت الإنسانية اليوم لا تزال غارقة في بحور الظلام والدياجير.
لقد استطاعت همم المناضلين والمكافحين أن تدفع بمسيرة التقدم البشري نحو تحقيق الأهداف العظيمة خطوات كبيرة إلى الأمام. ويبقى الحلم بها محركا لنضالات كبيرة أوسع، كما سيبقى حلم تحقيق الوحدة محركا للنضال من أجل مستقبل حر، وحياة كريمة ومجتمع سعيد.
وأولى الخطوات على هذا الطريق، التسليم بأن النضال الإنساني لم يستكمل أدواره بعد، وأن حالة النمو السياسي والإقتصادي والإجتماعي ليست منفصلة عن بعض، بل متشابكة ومتداخلة، ولا يمكن الحكم على واحدة منها دون الأخذ بالحالات والعوامل الأخرى، وإلا فإننا سنصل إلى نظرة آحادية تجرنا إلى العجز والإستسلام.
ومع ذلك تبقى قضية الإنكسارات والهزائم التي منيت بها فكرة الوحدة أمرا جديرا بالمناقشة والتحليل في حديث آخر.
هوامش الفصل الثاني
[1] الشيخ عبد العزيز بن باز، نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، (الكويت، دار الدعوة) ط. 3، عام 1984م، ص. 31.
[2] المصدر نفسه، ص. 32.
[3] محمد حسين هيكل: حياة محمد، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية)، ط. 13، 1968م، ص. 73.
[4] د. جواد على: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج. 4، (بيروت، دار العلم للملايين) 1977م، ص. 140-141.
[5] محمد سعيد المسلم، ساحل الذهب الأسود دراسة تاريخية انسانية لمنطقة الخليج العربي، (بيروت، منشورات دار الحياة)، ط. 3، ص. 122.
[6] أحمد عباس صالح: اليمين واليسار في الإسلام، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ط. 2، عام 1973م، ص. 31.
[7] المصدر نفسه، ص. 34.
[8] المصدر نفسه، ص. 34.
[9] المصدر نفسه، ص. 35.
[10] المصدر نفسه، ص. 35.
[11] المصدر نفسه، ص. 35.
[12] المصدر نفسه، ص. 34.
[13] المصدر نفسه، ص. 35.
[14] المصدر نفسه، ص. 30.
[15] المصدر نفسه، ص. 35.
[16] محمد حسين هيكل: المصدر السابق، ص. 117.
[17] المصدر نفسه، ص. 117.
[18] المصدر نفسه، ص. 73.
[19] أحمد عباس صالح، المصدر السابق، ص. .31.
[20] المصدر نفسه، ص. 31.
[21] المصدر نفسه، ص. 20.
[22] المصدر نفسه، ص. 17-33.
[23] ول ديورانت: قصة الحضارة، (القاهرة، مطابع النجوى) عام 1973م، مجلد. 4 ، ج 2، ص. 15.
[24] المصدر نفسه، ص. 17.
[25] الشيخ عبد العزيز بن باز: المصدر السابق، ص.31
[27] الشيخ ابن تيمية: اقتصاد الصراط المستقيم، ص. 161.
[28] محمد رشيد رضا: تفسير المنار، ج. 1، ص. 29، 31.
[29] عبد الرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، (بيروت، دار الكتاب اللبناني) عام 1982م، ص. 785
[30] نقلا عن د. عبد العزيز الدوري في تعقيبه على موضوع التكوين التاريخي لمقاهيم الإمة، القومية، الوطنية، الدولة والعلاقة فيما بينها، للدكتور محمد أحمد خلف الله، من كتاب القومية العربية والإسلام، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) عام 1983م، ص 33.
[31] عبد القادر زبادية: دور الإسلام والعربية لغة وثقافة في تكوين مقومات القومية العربية وفي بعث الوعي الثقافي العربي، من كتاب القومية العربية والإسلام، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) 1988م، ص. 111.
[32] المصدر نفسه، ص. 111.
[33] د محمد عمارة: الجامعة العربية والجامعة الإسلامية، من كتاب القومية العربية والإسلام، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) 1988م، ص. 159.
[34] نقلا عن رجاء النقاش، الإنعزاليون في مصر، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، عام 1976م ص. 3
[35] أنظر الفصل الأول من هذا الكتاب، مفهوم الهوية العربية، منظور تاريخي، بهذا الموقع.
[36] الدكتور جواد على: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بغداد، مطبوعات المجمع العلمي العراقي) عام 1369هـ، الجزء الأول، ص. 234.
[37] المصدر نفسه، ج. 1، ص. 234.
[38] المصدر نفسه، ج. 1، ص. 240.
[39] المصدر نفسه، ج. 1، ص. 240.
[40] المصدر نفسه، ج. 1، ص. 240.
[41] ول ديورانت: قصة الحضارة، (القاهرة، مطابع النجوى) 1979م، المجلد الأول، ج 2، ص. 309.
[42] المصدر نفسه، المجلد الأول، ج. 2، ص. 309-313.
[43] طه باقر: مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة، الوجيز في تأريخ حضارات وادي الرافدين، (بغداد، دار الشؤون العامة- وزارةالثقافة والإعلام) عام 1986م، ص.67.
[44] المصدر نفسه، ص. 67.
[45] المصدر نفسه، ص. 74.
[46] المصدر نفسه، ص. 69.
[47] محمد العزب موسى: وحدة مصر، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر) 1972، ص. 10.
[48] المصدر نفسه، ص. 11.
[49] المصدر نفسه، ص.11.
[50] المصدر نفسه، ص. 12- 15.
[51] المصدر نفسه، ص. 17.
[52] المصدر نفسه، ص. 20.
[53] جمال حمدان: شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، (القاهرة، دار الهلال) عام 1994م، الجزء الثاني، ص. 295.
[54] المصدر نفسه، ص. 296.
[55] المصدر نفسه، ص. 296.
[56] المصدر نفسه، ص. 296.
[57] المصدر نفسه، ص. 297.
[58] المصدر نفسه، ص. 297.
[59] المصدر نفسه، ص. 297.
[60] المصدر نفسه، ص. 298.
[61] المصدر نفسه، ص. 298.
[62] الدكتور عبد الوهاب الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث ص. 61.
[63] الدكتور عبد الوهاب الكيالي: المصدر السابق ص. 47.
[64] الدكتور عبد الوهاب الكيالي: المصدر السابق ص. 321.
[65] الدكتور عفيف البوني: وعي الهوية القومية في الفكر التونسي الحديث، (باريس، منشورات العالم العربي، عام 1981، ص. 75.
[66] أنظر وعي الهوية العربية، منظور تاريخي، الجزء الخاص بـ الهوية وطبيعة المواجهة.
[67] محمد حسنين هيكل: خريف الغضب قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات، (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، ط. 4، 1983م، ص. 278.
[68] ول ديورانت: قصة الحضارة، المصدر السابق، مجلد 2، جزء 4، ص 92- 124.
[69] محمد حسنين هيكل: لمصر لا لعبد الناصر، ( القاهرة، مطابع دار السياسة)، 1976م، ص. 9.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-10-10