فشلت رهانات الإرهاب: وماذا بعد؟!
منذ العمل الإجرامي في بلدة الدالوة، وموضوع، وأقلام الكتاب بالمملكة تتوالي مدينة العمل الإرهابي الشنيع. ليس ذلك فحسب، بل إن جموعا من المواطنين، من مختلف مناطق البلاد، اتجهوا إلى الأحساء، لتقديم واجب العزاء، ومشاطرة أهالي الشهداء والمصابين أحزانهم.
لقد طرق الإرهاب مجددا بلادنا العزيزة، واختار قرية وادعة، في أثناء أدائها مراسم عاشوراء، لتنفيذ جريمته النكراء. وجاءت ردود الفعل الرسمية والشعبية، متماهية مع جسامة الحدث، ولتؤكد من جديد، تماسك النسيج الوطني وقوته. وكان أهم ما برز من تداعيات، هي الصورة التي تبدت بها الوحدة الوطنية، بأقوى صورها.
أثبتت الأجهزة الأمنية، التابعة لوزارة الداخلية، مهارة عملية قدرة، وبالسرعة القياسية في إلقاء القبض على الجناة، لينالوا القصاص العادل. وكانت مشاطرة وزير الداخلية شخصيا، مع الأهالي أحزانهم، قد أسهم في تخفيف معاناة المصابين.
جاء الحادث الأثيم، في ظل ظروف غير طبيعية تمر بها المنطقة العربية، حيث تسود الفوضى وتفكك الأوطان، وتضيع الهويات، ويمارس القتل من غير رادع أو حساب. وقد امتدت ظواهر الإرهاب المقيتة، لتشمل عدة بلدان عربية، كما هو الحال في سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر وتونس وليبيا والجزائر. ولذلك لم يكن مستغربا أن يطال بلادنا بعضا من اللهب.
استهدف الجناة بجريمتكم الغادرة، تعكير الأمن وحالة الاستقرار. كما استهدفوا ضرب حالة الانسجام بين أبناء بلد واحد، يربطهم دين ودم وأواصر قربي ووطن. وكان التعدد والتنوع الفكري والعقدي، والتفاعل الخلاق والمبدع بين مكونات بلادا، هو سر ثرائها وخصبها.
لقد فشل الإرهاب في تحقيق هدفه، ولم يتمكن الجناة من خدش الوحدة الوطنية. لكن السؤال الذي يقلق كثيرا من المواطنين، هو ماذا بعد؟!. ومصدر القلق يمكن في طبيعة الحدث المروع. فقد تمكن الجناة من التسلل تحت جنح الظلام، ونفذوا جريمتهم. وكان من اللافت للانتباه، العدد الكبير للجناة، الذين بلغوا وفقا لبيانات وزارة الداخلية، أكثر من 22 فردا.
هل نحن أمام حادثة معزولة، لن تتكرر مرة أخرى، أم أننا أمام موجة جديدة من أعمال الإرهاب، موجة تعيد إلى الذاكرة، أعمال التخريب التي مرت بها بلادنا قبل عدة سنوات. وقد دحرت في حينه بفضل السياسة الحكيمة للقيادة، وأيضا بفضل المواجهة الجسورة، من قبل رجال الأمن الشجعان؟ وكيف ينبغي أن تكون المواجهة الوطنية للإرهاب؟. ومما يضاعف من حالة القلق، في مجتمعنا هو أوضاع أشقائنا في الجوار، الذين اكتووا بنار الإرهاب.
أسئلة عديدة، تعشعش في نفوس المواطنين، منذ جريمة العاشر من المحرم، في الدالوة. بعض الأسئلة يركز على الجانب الفكري لمجموعات الإرهاب، ويجد أن الجذور الفكرية للإرهاب، لا تزال تعشعش في البرامج التعليمية والتربوية والإعلامية. وأن لا بد من عملية تصحيح، تركز على إشاعة التسامح، وترفض نهج التكفير، وتسلم بمبدأ المواطنة، المستند على الندية والتكافؤ.
لقد أدلينا بدلونا، وعبر صحيفة الوطن الغراء، أثناء المواجهة الملحية مع الإرهاب قبل عدة سنوات، بأن مواجهة الإرهاب مع الإرهاب ينبغي أن لا تقتصر على خندق واحد، وتدع الخنادق الأخرى مكشوفة وقابلة للإختراق. وجرى التأكيد على أهمية وجود مشروع استراتيجي وطني للمواجهة، يتخطى التشرنق في أوساط النخب المثقفة، ليصبح مشروعا وطنيا، يزج بطاقات الشعب كله في المواجهة الوطنية ضد الإرهاب.
وقد شددنا على أن من الطبيعي أن تكون المرتكزات الفكرية والثقافية لأي مجتمع هي الحاضن الأشمل لكل ما يصنعه ويبدعه ذلك المجتمع من الأفكار والأشياء وطرائق العمل. لكن ذلك يتطلب تنقية مستمرة، ومواجهة لضروب النشاط الإجتماعي والفكري السلبية والمؤذية التي تمارس في مختلف الميادين.
من هنا فإن مواجهة الإرهاب، تقتضي في أبسط أبجدياتها، قراءة شاملة لتلك المرتكزات وتفكيكها، وإعادة تركيبها، بطريقة تفتح الأبواب مشرعة وتتيح المجال للتعددية الفكرية والثقافية وتعميم لغة الحوار، واحترام الرأي الآخر، والتسليم بالحق في الاختلاف، بما يعزز الوحدة الوطنية ويخدم مشروع النهضة.
إن نهج الإقصاء، ورفض لغة الحوار، وعدم التسليم بالحق في الاختلاف ليس حاصل جمود في تفسير النص، واحتكام إلى الخرافة وتسفيه للعلم الحق فحسب، ورفض الاجتهاد، ولكنه أيضا حاصل بنية اجتماعية هشة ومتخلفة.. إنه انعكاس موضوعي لحالة ضعف في هياكل النخب الثقافية والوطنية.. وهو ضعف يشمل قاع المجتمع وسفوحه ووديانه، لا فرق. ولا يستثنى من ذلك أحد.
تلجأ النخب الثفافية والفكرية التي يفترض فيها أن تمارس عملية التفكيك والتحليل، نتيجة عدم استيعابها لمناهج التحليل الإجتماعي وتطبيقاتها، ولعجزها عن التصدي لواقعها ومشاكلها الخاصة، وبسبب غيابها عن التحولات الكونية التي شهدها هذا العصر، إلى الحيل الدفاعية، فترفض التعايش مع عصرها، وتستعير أطروحات وكليشات من خارج دائرة بيئتها ومحيطها، ومن الزمن السحيق.
المشكلة مع الإرهاب، أنك مع نموذج غريب من البشر، يرفض التعايش مع مجتمعه، نموذج لا يؤمن بسنن الكون، التي اعتبرت اختلاف الناس رحمة. والمعضلة مع هؤلاء، لا تكمن في اختلافك معهم، فذلك ما يمكن التعايش معه، ولكنها تضعك بين خيارين لا ثالث لهما، إما التسليم بأطروحاتها الواهية، المستندة على الوهم، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، أو المواجهة المسلحة، مع المجتمع بأسره، حيث تكون أهداف إرهابهم النساء والأطفال والمدنيين العزل.
المواجهة الوطنية الفكرية للإرهاب، ستكون طويلة، لأنها مواجهة مع أفكار ومع سلوك منحرف، ولا من مناص من خوضها. رحم الله شهداء الدالوة الذين سقطوا ضحية الإرهاب، وأسكنهم فسيح جناته، ورحم الله الجنود البواسل، الذي سقطوا في معركة الشرف، وهم يحاولون اجتثاث الإرهاب، وجعلهم مع الشهداء والعليين، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.