غياب وثيقة تاريخية
غيّب الموت أحد فرسان القلم، وشيخ المؤرخين الدكتور عبدالعزيز الدوري . وقد نعته مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية، ورثته بما بتناسب مع قامته العالية . وصفه المؤرخ البريطاني، بيرنارد لويس بأنه حجة في موضوعه، وأن الدكتور الدوري نفسه غدا وثيقة تاريخية .
وأشادت الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي بالراحل، وقالت في بيان أصدرته بهذه المناسبة إن مؤلفات الراحل الدكتور الدوري أثرت المكتبة العربية، حيث قدم المؤرخ الكبير تحليلاً علمياً، لتكوين الأمة العربية، سيبقى مصدراً مهماً من مصادر علم التاريخ، الذي يعد الراحل من أعمدته وبُناته .
لن نضيف الكثير في رثاء الراحل الكبير . ولعل أفضل وفاء وعرفان لمآثره، هو تسليط الضوء على منهجه وفكره، بالقدر المستطاع، على أمل أن تكون لنا محطات لاحقة، نواصل فيها القراءة .
فالراحل هو بحق علم من أعلام التاريخ العربي الإسلامي، وهو بالدقة كما وصفه بيان نعيه، يتميز بالعمق وشمولية التحليل . وكان يرى أن كتابة التاريخ وفهم صيرورة التطور الاجتماعي، ينبغي أن تركز على العوامل الاقتصادية . إن ذلك يقتضي من المؤرخ، الرجوع باستمرار إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها، واستخلاص النتائج منها . إن هدف كتابة التاريخ، ليستدوين الأحداث كما وقعت فقط، بل وضعها في سياق موضوعي وتاريخي صحيح .
ما يميز التاريخ أنه تدوين إنساني لفعل إنساني . وانتفاء العامل الإنساني من التاريخ يلغيه جملة وتفصيلا . وهنا تكمن صدقية مقولة أحمد بهاء الدين بأن الإنسان حيوان بتاريخ . بمعنى أن الإنسان، هو وفق معارفنا المتاحة، الكائن الوحيد الذي تتسم حياته بالصخب والحركة، ولا يعيد استنساخ نفسه، بالرتابة المعهودة مع الكائنات الأخرى .
لقد قدم المؤرخون العرب القدامى مجموعة من التأويلات والتفاسير للتاريخ الإنساني، ورأى بعضهم، أن التاريخ ما هو إلا انعكاس للمشيئة الإلهية، والأدوار التي اضطلعت بها الرسالات السماوية، وهناك من اعتبر أن التاريخ يقوم على أكتاف رجال عظماء، عبر عنهم بالنخبة، وفقا لرؤية جورج هيغل . هذا عدا التفسيرات الأخلاقية، التي ربطت التاريخ بالأخلاق . لكن الدكتور الدوري يرى أن ابن خلدون، وحده من بين المؤرخين العرب، هو من قدم في القرن الرابع عشر الميلادي تفسيراً للتاريخ، يضع في الحسبان الجوانب الحضارية والاجتماعية والاقتصادية .
إن التحليل الاقتصادي للتاريخ، من وجهة نظره، لا يعني بالضرورة الالتزام بالتفسير المادي للتاريخ . فالنظريات التاريخية، هي رهن ظروف نشأتها . ومحاولة قسر تفسير التاريخ، ليتلاءم مع النص النظري، لن يقدم قراءة صحيحة للتحليل التاريخ، ذلك أن العلاقة جدلية بين تحليل التاريخ، والمصنف النظري الذي تسترشد به القراءة . والنظريات التاريخية، على غناءها وثرائها، لن تكون معبرة إن لم تكن هي ذاتها نتاج القراءة التاريخية الصحيحة . والهدف من دراسة التاريخ، حسب الدكتور الدوري، هي فهمه وبالتالي “تكوين فكرة واضحة عن جذور حاضرنا، وفهم إمكاناتنا وتقدير دورنا في سير البشرية”,
وعلى الصعيد القومي، أكد الراحل الدوري عبر مجمل أعماله التاريخية، إيمانه بوحدة الأمة العربية . وأشار إلى أن تاريخ الأمة العربية هو سلسلة متصلة، وأن حاضر الأمة هو حركتها التاريخية . ومن وجهة نظره، ليس هناك انقطاع في التاريخ ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد . لكن ذلك لا يعني بأية حال، أن تواصل تاريخ الأمة، يعني رتابة التاريخ، ذلك أن التاريخ لا يسير وفقا لتراتبية وخطوات محددة، شأنه في ذلك شأن معظم الأنشطة الإنسانية، يمر بفترات “تزخر بالحيوية والتوثب، وأخرى تتصف بالحركة التدريجية والتطور الهادئ” .
في كتابه التكوين التاريخي للأمة العربية دراسة في الهوية والوعي، أطّر الراحل الكبير لمراحل وعي الهوية العربية، مؤكدا أن البدايات الجنينية لهذا والوعي قد ارتبطت باللغة العربية، رغم أن الوجود العربي موغل في القدم . لقد ارتبط نهوض العرب بالإسلام . ومر العرب خلال تاريخهم، بنهوض وانقطاع ومد وجزر، حالهم في ذلك حال الأمم الأخرى .
وكان بزوغ الإسلام حدثاً كبيراً في حياة العرب، أسس أول دولة مركزية، اتخذت موقفا سلبيا من البداوة، وشجعت على الاستقرار والحياة المدنية . ووضعت أصول الدراسات العربية والإسلامية . وقد أعطى نزول القرآن الكريم بالعربية واقتران أمجاد الإسلام به، دوراً مركزياً للعرب . ونتج عن ذلك ثبات البناء العشائري والقبلي في المجتمع العربي . وقد تم فرض اللغة العربية في جميع المراكز والثغور الإسلامية . وتغليب النسب “رابطة اجتماعية”، ما أربك مفهوم الانتماء للأمة . فأصبح التنافر منتظراً بين اعتبار الهوية قائمة على جعل الإسلام أساس مفهوم الأمة، وبين أولئك الذين اقتصروا على رؤية النسب أساسا في تحديد الهوية والإنتماء إلى الأمة .
تزامنت المرحلة التالية من تطور الوعي العربي بنجاح الحركة العباسية ومشاركة الفرس فيها . وكان ذلك إيذاناً بتراجع العصبية القبلية، ونجاح فكرة المساواة . وصاحب ذلك قيام نهضة علمية، تصاعدت بالتوسع الجغرافي، وأسهمت في تحول المراكز القبلية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة العربية الإسلامية . وبرزت مدينتا بغداد والبصرة أكبر مركزين علميين في ذلك العصر . وفي هذه المرحلة، بدأ العرب هجرتهم إلى الأرياف واستقروا بها واشتغلوا بالزراعة . وفي المدن عاودوا ممارسة التجارة، وضعف وجودهم في الديوان . واختلطوا بغيرهم من شعوب الأمم الأخرى، وأسهموا في نشر العربية، وتفاعلوا مع غيرهم، مما حقق تماثلاً في القيم والنظر إلى الحياة . وتعززت فكرة الانتماء إلى اللغة والأرض بديلاً عن الانتماء إلى العراق . وتطورت فكرة الأمة من أقوام تتحدد هويتهم على أساس انتماء عرقي إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة .
وقد نتج عن حالة التداعي بروز لغات جديدة، في دار الإسلام، لكن العروبة والإسلام بقيا متلازمين في تشكيل الهوية بالنسبة إلى العرب . وبعد سقوط دولة الخلافة وسيادة الصراعات بين الممالك المحلية، تطاولت الجيوش الأجنبية على الأمة . ومر العرب بفترات طويلة من الانقطاع الثقافي والحضاري . لقد بدا واضحا تباعد الخطوط بين انتشار العربية وانتشار الدين الإسلامي . وتحت هيمنة العثمانيين تراجع دور العرب . وحين ضعفت السلطنة كانت المقاومات الثقافية والحضارية للأمة العربية قد انتابها الضعف، مما أدى إلى ضعف مقاومتها للغزو الغربي .
وفي بداية القرن التاسع عشر برزت حركة فكرية واسعة عربية، وأنشأت الجمعيات العلمية، وحدثت نهضة صحفية . ودعوات للتجديد، منادية بتحرير العقل من الخرافات والأوهام، وداعية إلى الوحدة بين المسلمين وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، ورافضة الجهل والحكم المطلق، ومطالبة بالحرية السياسية . وكانت طبيعة المواجهة مع الغرب قد حكمت تطور مفهوم الهوية . ففي المشرق العربي بقي النضال قومياً خالصاً، لأن الأتراك لم يكونوا في مواجهة مع الدين الإسلامي . أما في المغرب العربي فقد تداخلت المعاني القومية والدينية في النضال الوطني ضد المستعمر، الذي هدف إلى تخريب الثقافة القومية ومحاربة المعتقدات الإسلامية .
وعند بداية القرن العشرين كان الشعب العربي في المشرق قد وحد صفوفه، وبدأ الكفاح من أجل الاستقلال . وساعدت ظروف الحرب العالمية الأولى، ووعود الحلفاء للعرب بتحقيق الاستقلال، على قيام الثورة العربية . لكن تلك المرحلة انتهت بانتكاسة مروّعة، وهزم مشروعها في التحرر، حين جرى تطبيق اتفاقيات سايكس بيكو وبدأ التنفيذ العملي لوعد بلفور .
هكذا رأى الراحل الهوية كما في التاريخ، حركة فوارة مستمرة، لكنها تعود دائماً إلى الجذور وتراكم عليها .
رحم الله الفقيد الغالي، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان “إنا لله وإنا إليه راجعون” .