غياب قامة وطنية وأدبية
فجعت الساحة الأدبية في المملكة العربية السعودية، بفقد فارس مجدد من فرسان الأدب، هو الصديق العزيز الأستاذ علي الدميني. وقد نعته جميع الصحف السعودية، كما نعته صحف خليجية كثيرة. وكان الحضور المكثف في تشيع جنازته، حيث شهدتها أطياف غفيرة من معظم مدن المملكة، دليلاً على الموقع المميز للراحل الكبير عند النخب الثقافية السعودية.
دخل الأديب الدميني الأدب من بوابة الانتماء للوطن، بمعنى أن الأدب بالنسبة له لم يكن أبداً ترفاً فكرياً؛ بل زاد وبوصلة في سوح طويلة من أجل بناء حاضر ومستقبل للوطن. ولذلك يمكن وصف أدب الراحل العزيز في مجمله، بالأدب الملتزم. والدميني لا يضمر ذلك؛ بل يعلنه صراحة.
اختار الدميني منذ البداية أن يكون حداثياً، وأن يخوض معركة التجديد بضراوة، متأثراً في ذلك بصديقه ومعلّمه الشاعر والأديب الكبير الأستاذ محمد العلي أطال الله بقاءه، فكان أن احتل مكانه بجدارة، كواحد من أهم رموز الحداثة في الأدب السعودي.
وكما عمل محمد العلي على أن يكون مجدداً في الأدب، ليس للتجديد ذاته فحسب؛ بل لأن ذلك طريق النهوض والتقدم للأمة والوطن، وضمن أبعاد إنسانية لا تخفى على القارئ، في مختلف مجالات الحياة، اختار الدميني أيضاً النهج ذاته وتمسك به حتى آخر رمق في حياته.
لم تكن الرحلة سهلة أبداً بالنسبة للدميني، وزملائه ممن تبنوا النهج الحداثي في المملكة، فللعقل المحافظ حراسه. وكان من الطبيعي أن تتعرض نزعة التجديد لديهم للتصدي والهجوم، تماماً كما تعرضت جل محاولات دعاة التجديد في العالم ومن ضمنها الأقطار العربية.
التاريخ العربي حافل بأسماء لامعة لأدباء وشعراء ومفكرين تعرضوا للهجوم من قبل المناوئين لهم، مثل قاسم أمين، وعلي عبد الرازق وطه حسين، ونزار قباني، ومظفر النواب، وكثير غيرهم، وكانت تهم الهرطقة جاهزة باستمرار. فالصراع الأدبي في مجمله، هو بين رؤية محافظة ترى أنه ليس بالإمكان تحقيق أفضل مما كان، وبين رؤية أخرى ترى أن التاريخ هو حركة دائمة، وأن طريق التقدم يقتضي التجديد، وتحقيق النهوض، وتشذيب الفكر من أدران الركود.
في هذا السياق نفهم كيف خاض الدميني معركة التجديد، واختار الشعر، بسبب نبوغه وتفوّقه فيه، للدفع نحو خلق مجتمع حداثي يؤمن بحق الإنسان في الحرية والإبداع، ويمارس فيه الإنسان حقه في تقرير مصائره. وقد أدى ذلك إلى صياغة خلطة جميلة وأخاذة في أدب الدميني، فهذا الأدب وطني بامتياز، وملتزم بامتياز، وحداثي بامتياز أيضاً.
إن هذه الصفات في أدب الدميني هي شيء واحد، لا وطنية من غير التزام، ولا التزام حقيقي من دون تجديد. وإذا ما صنفنا أدب الدميني في السياق الذي تطرقنا له ضمن المدارس الأدبية، يمكننا وضعه ضمن المدرسة الواقعية الجديدة. ففي هذه المدرسة، الأدب غايته الإنسان، وحين يتخلى عن هذه المهمة يفقد قيمته، والإنسان هنا ليس كائناً مجرداً بالنسبة للدميني.. إنه إنسان المستقبل، وذلك يعني أن أدب الدميني لا يهتم كثيراً بالتراجيديا؛ لأن المهمة الأساسية بالنسبة له فتح البوابات لغد أفضل. وإن اضطر في بعض الحالات للكتابة بأسلوب تراجيدي، فإنه يسخّر ذلك للهدف الأساس: الكرامة الإنسانية.
مدرسة الواقعية الجديدة في الأدب هي مدرسة متفائلة؛ كونها تعمل ضمن نسق فكري أساسه الإيمان العميق بأن مسيرة الإنسانية تتجه بخطى صاعدة دائماً إلى الأمام.
وقد تأثر الراحل الكبير بقراءة مكثفة لمفكرين غربيين كبار، مثل ألبير كامو، والتوسير، وأنطونيو غرامشي. وكانت بعض لقاءاتنا، مفعمة بنقاشات جادة حول هذه القضايا، ولا شك في أن ذلك أثّر كثيراً في إعطاء عمق أكبر لنتاجه الأدبي.
رحل عنا الشاعر الدميني، بجسده الواهن، لكنه ترك لنا زاداً كبيراً، يُبقيه حياً بيننا للأبد، طالما استمر التوق الإنساني إلى بناء مجتمع تنويري وحداثي يعتبر فيه الإنسان أحد القيم الأساسية المطلقة.
التعليقات مغلقة.