غياب الاستراتيجية من وعد بلفور إلى التقسيم

0 406

بدأ النضال العربي لاستقلال وتحقيق وحدة المشرق العربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع ذلك، وتحديداً في نهاية أغسطس/آب ،1897 عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، الذي شجع الهجرة إلى فلسطين، بهدف التحضير لاغتصابها لاحقاً، وإقامة وطن قومي لليهود على أرضها,

إلا أن التحدي الصهيوني للفلسطينيين والعرب جميعاً، لم يترجم من قبل العرب في صياغة استراتيجية نضالية عملية لمواجهة هذا التحدي . وإذا كانت العبرة بالنتائج، فقد انتهى الصراع بين الصهاينة والفلسطينيين، في العقدين الأولين من الصراع الحقيقي، إلى حيازة الصهاينة لأرض فلسطين، وتشريد شعبها، وبقاء أكثر من سبعة ملايين من الفلسطينيين في المنافي والشتات حتى يومنا هذا .

 

مناسبة الكتابة عن هذا الموضوع، هو ما نشهده في هذه الأيام، حيث قمة التشرذم الفلسطيني، واحتدام الجدل حول جدوى أو عدمية المفاوضات الفلسطينية مع العدو، بعد قرار بناء آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية .

فبينما يشير أقطاب السلطة الفلسطينية، إلى أن إيقاف المفاوضات الفلسطينية، لن يوقف العدوان الصهيوني، وبناء المستوطنات . ويتوصلون إلى أن أي اتفاق فلسطيني- “إسرائيلي”، ستنتج عنه تسويات تلغي وجود المستوطنات الصهيونية بالأراضي المحتلة . وعلى هذا الأساس، فإن مصلحة الشعب الفلسطيني تقتضي مواصلة التفاوض، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف . يجادل المعارضون لاستمرار المفاوضات، بأنه مضى على قبول الفلسطينيين بالمفاوضات مع الكيان الغاصب قرابة ثلاثة عقود، منذ أقرّ القادة العرب في مؤتمر القمة الذي عقد بالمغرب عام 1982 والذي وافق على خطة سلام أقرت بوجود دولتين على أرض فلسطين التاريخية، وبحق جميع دول المنطقة في العيش بسلام، ولم تتحقق بعد أهداف الفلسطينيين .

هذا الشهر صادف مرور حدثين رئيسيين، أخذا كثيراً من حصة الحقوق الفلسطينية، ومثل الرد العربي تجاههما دليلاً صارخاً، على عجز النظام العربي الرسمي، عن مواجهة التحديات وخلق استراتيجيات صائبة لمواجهة المشروع الصهيوني .

الحدث الأول، أخذ مكانه في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، 1917 وتمثل في وعد بلفور الذي وعد بأن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود . وكان صدور القرار، هو تعبير عن موازين القوة الدولية أثناء تلك الحقبة، حيث انهارت دول المحور، التي كان بعضها يقف بقوة ضد حيازة اليهود لأرض فلسطين .

كان وعد بلفور هو جواز العبور، لهجرات يهودية مكثفة لأرض فلسطين، ووجهت منذ البداية برفض عنيف، ولكنه عفوي وغير منظم من قبل السكان الأصليين . فالوجاهات الفلسطينية، في حالة عجز تام عن قيادة النضال الفلسطيني . وأثناء حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، كان التطاحن بينها مكشوفاً، على سلطة، أبانت كل المؤشرات، أن هذه القوى في طريقها إلى الأفول .

ولعل فشل ثورة 1936 هو نقطة التحول الرئيسية، في أفول الوجاهات القديمة، وترك فراغ كبير في الحياة السياسية، ترك بصمات كثيبة وثقيلة على مجرى النضال الفلسطيني في السنوات اللاحقة . والنتيجة الجلية أن الضحية لهذه الصراعات المحلية، والمواقف الدولية المهادنة، هو الشعب الفلسطيني .

في أجواء العجز الفلسطيني، عن مواجهة الهجرة اليهودية، وإفلاس الخزينة البريطانية، وتراجع دور الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس سياسياً، بعد الحرب العالمية الثانية، أبلغ البريطانيون هيئة الأمم المتحدة بنواياهم إنهاء انتدابهم على فلسطين، وانسحاب إدارتهم منها .

وبناء على طلب بريطاني، وفي محاولة لوضع حد لحالة الفوضى والاقتتال بين المهاجرين الجدد والسكان الأصليين، عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعاً، صدر على إثره القرار 181 في 29 نوفمبر/تشرين الثاني ،1947 أوصى بتقسيم فلسطين لدولتين، بمساحة متساوية، عربية و”إسرائيلية”، ووضع مدينة القدس والبلدات المحيطة بها، تحت وصاية دولية .

رفض العرب قرار التقسيم، لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الحقائق التاريخية، التي تؤكد وجود الفلسطينيين على أرضهم لأكثر من ألفي عام في سلسلة ممتدة من غير انقطاع . وأيضاً لأن اليهود الذين يحملون جوازات سفر الانتداب، قبل إصدار قرار التقسيم لم يتجاوزوا السبعة في المئة من سكان فلسطين، وفقاً لإحصائية الأمم المتحدة . ورفض العرب أيضاً، القرار باعتباره عدواناً على الأمة العربية وتهديداً لأمنها القومي . لكن هذا الرفض، لم يعزز باستراتيجية كفاحية عملية لمواجهة مشروع التقسيم .

لم تفتقر القضية الفلسطينية للقوة النضالية، ولكنها افتقرت إلى القيادة والتخطيط الصائب . تتحول التضحيات والانتصارات العسكرية، إلى أوراق رخيصة على طاولة المفاوضات . ينتصر السلاح والحجارة، وتعجز السياسة . وتتكرر المشاهد ذاتها من عبور أكتوبر/تشرين الأول ،1973 إلى انتفاضة أطفال الحجارة، وحتى انتفاضة الأقصى، رجال شجعان يقتحمون طرق الموت، ويستبسلون في الدفاع عن العرض والشرف والثوابت، وساسة فاشلون يفرطون في أنواط الشجاعة . وعدو شرس، لا يقيم أي اعتبار لشرعة الأمم ولا لحقوق الإنسان، فيقيم مستوطناته على جماجم الشهداء، ويستولي من دون رادع كل يوم على المزيد من الأرض، في ظل عجز فلسطيني وعربي عن التصدي لغطرسته .

لن نتجاوز العجز عن تحرير فلسطين، إلا حين نتجاوز المتقابلات بين العدمية والتفريط، التي تحكم العقل السياسي الفلسطيني . فإما المقاومة المسلحة، أو العمل السياسي، في حين أن كليهما في السياسة شيء واحد .فليس هناك عمل مقاوم من غير هدف سياسي . والحرب في أحد تعريفاتها هي تفاوض سياسي، في مرحلة عليا، يستخدم فيها السلاح، من قبل طرف أو أكثر بهدف الوصول إلى نقطة، تجعل من التوصل إلى التسوية أمراً لا مفر منه .

لن يكون بالمقدور تجاوز الأزمة، وتحقيق الحلم الفلسطيني في الدولة المستقلة، كاملة السيادة، إلا بقيادة تملك من الوعي والقدرة والإرادة، ما يمكنها من صياغة استراتيجية، عملية تستعيد بموجبها الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتزاوج بين كل عناصر المقاومة، وتنتصر لمبدأ حق تقرير المصير .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × اثنان =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي