غزة.. من الحصار إلى الإبادة
إعداد هذا الحديث يكون قد مر على العملية العسكرية “الإسرائيلية” الأخيرة في قطاع غزة ثلاثة أيام، حصدت ماكينة الموت خلالها، أكثر من أربعمئة شهيد، وما يزيد على الألف وخمسمئة جريح من الفلسطينيين. كما شملت تدميرا واسعا وكبيرا للبنية التحتية، المتآكلة أصلا بفعل الحصار، بما في ذلك المقرات الحكومية ومخازن الأدوية، والمدارس، وحتى المساجد لم تنج من الغارات الصهيونية.
وجاءت هذه العملية الوحشية بعد أكثر من عام من الموت البطيء الذي تسبب فيه الحصار. وتشير تصريحات القادة الصهاينة إلى “أن الجيش سوف يوسع من عملياته كلما اقتضت الضرورة” وأن العملية مفتوحة لكل الاحتمالات، ومن ضمنها الاجتياح البري الشامل للقطاع”.
جاءت الحملة “الإسرائيلية” الوحشية، ضد المدنيين والعزل كسابقاتها، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، ووقف صواريخ المقاومة الفلسطينية الموجهة للمستوطنات الصهيونية. وأيضا ردا على إنهاء المقاومة الفلسطينية للهدنة بين الكيان الغاصب والفلسطينيين، التي استمرت أكثر من ستة أشهر، عانى أثناءها أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني حصارا قاسيا، حرمهم من أبسط مقومات الحياة من ماء وغذاء ودواء. وشملت خروقات صهيونية يومية، سقط خلالها أكثر من خمسمئة شهيد من المدنيين الفلسطينيين، وجرى الالتزام بها عمليا من جانب واحد، هو الجانب الفلسطيني.
وقد جرى تنفيذ هذه الجريمة النكراء عقب تهديدات وجهتها وزيرة خارجية الكيان الصهيوني، تسيبي لفني أثناء مؤتمر صحفي بالقاهرة، شاركها فيه وزير الخارجية المصري، معلنة من أرض الكنانة أن الكيان الغاصب سوف يضع حدا لصواريخ المقاومة التي تطلق على المستوطنات والمدن “الإسرائيلية”.
وتطرح حملة الإبادة هذه جملة من الأسئلة الملحة، عن مبررات هذه الجريمة وأهدافها الحقيقية، وعن الموقف العربي الرسمي الذي بلغ، في بعض الأحيان، حد التواطؤ والتناغم مع التبريرات الصهيونية حيالها، وتحميل الضحية مسؤولية ما يلحق به من إبادة وتدمير، باعتباره هو الذي يلحق الأذى والفتك بجلاديه.
ومع أن التداعيات العاطفية للحظة، المصحوبة بالصور الدامية، المعمدة برائحة الموت وجثث القتلى وأنين الجرحى والثكالى، وألسنة النار المشتعلة في شوارع غزة وحواريها المكتظة بالجياع والجموع الغاضبة في كل زاوية من زوايا الوطن العربي، والتي تجعل من الصعوبة بمكان، تقديم قراءة هادئة لما يجري من مواجهة بين المدنيين العزل، وبين القوة الغاشمة المدججة بأحدث آلة الحرب. ومع الاعتراف بالوقوع في أسر هذه اللحظة وتجاذباتها وإسقاطاتها، كون الأهل أهلنا والأحبة أحبتنا، فسوف نحاول قدر ما نستطيع أن نفهم ونستوعب، نعم مجرد أن نفهم ونستوعب لكي تتضح وتستقيم الرؤية وينجلي الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وليكون في الوضوح بعض من العزاء، ولكي لا نسقط في جحيم الوهم أو وهن الإحباط والعجز.
العدو الصهيوني، أعلن بوقاحته المعهودة أن الهدف من العملية هو خلق حقائق جديدة على الأرض. والحقائق كما تشير الأحداث دائما، طيلة حقبة الصراع هي كسر إرادة الصمود والمقاومة لدى العرب والفلسطينيين. وكسر إرادة الصمود في هذه الحالة، تعني رفع الراية البيضاء والتنازل الكامل عن هدف التحرير وحق تقرير المصير والاستسلام دون قيد أو شرط للمشروع الاستيطاني الصهيوني. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف لا يتردد الصهاينة، في ارتكاب أبشع حملات الإبادة، وتكرار ما جرى في مجزرة دير ياسين.
ولكي لا نذهب بعيدا، في الشرح والتفصيل، نذكر القارئ الكريم بأن الفلسطينيين، منذ انتهاء حرب أكتوبر عام 1973، قد أبدوا استعدادا للقبول بوجود دولتين فوق فلسطين التاريخية، أحدهما فلسطينية فوق الأراضي التي احتلها الصهاينة، في يونيو عام 1967، والأخرى دولة الكيان الغاصب على الأراضي التي احتلت أثناء النكبة عام 1948، رغم أن ذلك هو أقل بكثير مما صدر عن الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في القرار رقم 181 المعروف بقرار تقسيم فلسطين، والذي قضى بتقسيمها مناصفة بين اليهود والعرب الفلسطينيين. وقد صادق المجلس الوطني، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على القبول بقيام دولة فلسطينية في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وجاء قرار مؤتمر القمة العربي في سبتمبر عام 1982، في فاس بالموافقة على قيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية، ليدعم موقف منظمة التحرير وزعيمها ياسر عرفات.
ونذكر أيضا، بأن قرارات المجلس الوطني حول الدولتين هي التي اعتمدها الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات لعقد مفاوضات مع الصهاينة في أوسلو، انتهت بتوقيع اتفاقية غزة- أريحا أولا عام 1993. وكانت مفاوضات أوسلو قد جرت على قاعدة الاعتراف بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338. وورد ذلك في الصيغة النهائية للاتفاق. كما تم الاتفاق على أن تستمر المفاوضات من أجل قيام الدولة الفلسطينية، بعد تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاقية أوسلو، وأن تنتهي مفاوضات المرحلة النهائية في فترة أقصاها خمس سنوات، يجري بعدها الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وإذا ما أخذنا نصوص اتفاقية أوسلو المذكورة بعين الاعتبار، وهي اتفاقية حكمتها توازنات القوة، وضعف الموقف الفلسطيني، وجاءت في غالبية نصوصها منسجمة مع المصالح الصهيونية، فإننا نرى بوضوح أن تلك الاتفاقية المجحفة بحق الفلسطينيين، قد جرى نسفها من قبل الصهاينة أنفسهم. فالدولة الفلسطينية التي كان يفترض أن يعلن عنها عام 1998، بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو، كما نصت عليها بنود تلك الاتفاقية، لم تقم لها قائمة بعد مرور أكثر من عقد على الموعد المفترض لقيامها. والمفاوضات الماراثونية في كامب ديفيد وواي ريفير وشرم الشيخ وأنابوليس لم تؤد إلى التقدم قيد أنملة في تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة المستقلة.
وخلال الحقبة التي أعقبت توقيع أوسلو، تضاعف عدد المستوطنات الصهيونية، وجرت مصادرة المزيد من الأراضي. وقام الكيان الصهيوني بعدد كبير من الاجتياحات في الضفة الغربية والقطاع، شملت تقريبا كل شبر من الأراضي المحتلة. وحوصر الرئيس الفلسطيني، في مقر السلطة، برام الله إلى أن اشتد به المرض، ومن ثم غيبه الموت، في ظروف غامضة لم يكشف عن تفاصيلها حتى هذه اللحظة.
ووقفت الإدارة الأمريكية تطالب بإصلاح منظمة التحرير، وإجراء انتخابات حرة للتخلص من تركة عرفات. وذهبت لاحقا إلى أبعد من ذلك وضغطت على الرئيس أبو مازن لكي يجري انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني. وشاركت حركة حماس في تلك الانتخابات، وفقا لسياقات اتفاقيات أوسلو، وحصدت غالبية الأصوات بالمجلس التشريعي، وجرى تكليفها بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة.
وكانت حركة حماس، واعية منذ البداية، لما ينتظرها. وفي عملية تحسب واضحة أعلنت عن استعدادها لتوقيع هدنة مع الكيان الصهيوني، تستمر لعشر سنوات، تتوقف خلالها عن المواجهة المسلحة مع “إسرائيل”، تاركة للمفاوضين فسحة للتوصل إلى حل سلمي، يضمن قيام الدولة المستقلة. بل إنها مضت لاحقا إلى أبعد من ذلك، فأعلنت على لسان أمينها العام، السيد خالد مشعل عن استعدادها للتفاوض مباشرة مع الصهاينة، “بما ينسجم مع مصلحة الفلسطينيين في الضفة والقطاع”. لكن الكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكية اتخذا موقفا معلنا منذ البداية برفض التعامل مع حركة حماس، باعتبارها منظمة إرهابية لا يمكن الوثوق بها. وبذلك ضرب الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية بعرض الحائط، كل العهود والمواثيق، والوعود والمطالب “الديموقراطية” التي كانا يضغطان قبل الانتخابات من أجل تحقيقها.
ورغم كل الخروقات والنكث بالمعاهدات والمواثيق، وافقت حركة حماس على وساطة مصرية قضت بتحقيق هدنة بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين بالقطاع لمدة ستة أشهر. والتزمت حماس بتلك الاتفاقية، لكن الصهاينة لم يلتزموا بها. صحيح أنهم لم يقوموا باجتياح واسع للقطاع خلال الأشهر الستة المنصرمة، ولكنهم مارسوا حصارا قاسيا، وقاموا ببناء عدد كبير من المستوطنات، وعملت آلتهم الحربية قتلا “بطيئا” في صفوف الفلسطينيين، وبلغ عدد الضحايا أثناء فترة الهدنة أكثر من 500 شهيد فلسطيني. وإثر انتهاء الأشهر الستة أعلنت منظمات المقاومة انتهاء الهدنة، المخروقة في الأصل من قبل الكيان الصهيوني، لتتطور الأوضاع بشكل مأساوي ومتسارع إلى ما هي عليه الآن.
ليس من المنطقي أبدا، أمام المجازر وحملات الإبادة التي ترتكب بحق المدنيين العزل، في قطاع غزة، الدخول في جدل عقيم وسقيم، حول الجهة المسؤولة عن الأحداث الأخيرة، فالمشروع الصهيوني، كان دائما وأبدا مشروع عدوان وحرب، ولم يكن أبدا مشروع سلام. وليس بحاجة إلى تبرير أو أقنعة ليقوم بعدوانه، والمطلوب هو أن ينتخي العرب جميعا، كل من موقعه، ويمارسوا كافة أشكال الضغط، لإيقاف هذا العدوان الهمجي ورفع الحصار ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم.
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة د أحمد محمد المزعنن)
مع احترامي لطروحات الدكتور الكاتب فإن ما سيترتب عليه الأمر لو قدر لعباس وسلطته العودة غلى غزة سيتكون هي النكبة الحقيقية، لقد لعب عباس وزمرته استكمال مشروعهم التصفوي المنكر للحقوق الثابتة المزيف لكل شعارات الحركة الوطنية،وإذا كان لنا أن نتذكر فعلينا أن نتذكر التفاصيل في ضوء الثوابت وليس في ضوء الماغيرات التي فرضتها الهجمة الحالية من الغزو الصهيوني الهمجي، إن فلسطين لا تتسع للوطنيين والخونة، وهي حينئذ لا تتسع لعباس وزمرته من الجواسيس الذي فعلوا الأفاعيل في قضية الشعب تحت السكوت العربي الرسمي الذي كبل نفسه باستحقاقات ما يعرف بمبادرة السلام الوهمي مع الصهاينة ، وهرب من تحمل المسؤوليات التاتريخية مقدمًا في الواجهة جماعة اوسلو ومتبنيًا منهجهم التدميري ، لا مكان لعباس وزمرته في فلسطين مهما كانت النتائج ، فلبذهب إلى الجحيم ، إن فلسطين ليست وطنًا كباقي الأوطان ، علينا أن ننطلق في تناول قضاياها من هذا التميز الفريد لأعظم الأوطان وأن هؤلاء الغزاة الصهاينة وعملاءهم إلى زوال طال الزمن أوقصر .
* تعليق #2 (ارسل بواسطة منيرة موصلي)
كل التقدير والإحترام لموقع التجديد العربي على هذه المتابعةالملتزمة لأحداث غزة منذ اليوم الأول ونشر الموقع لجميع ما كتب عن العدوان على غزة بكل بكل أمانة والتزام. كذلك كرس الموقع جهوده بشكل مشرف للموضوعات المتنوعة عن الإعتداء