عودة لتفعيل مفهوم الدولة
في المقال السابق، هيأنا للحديث عن ضرورة حضور مفهوم الدولة بالفكر العربي، بعد أن غاب تناوله عنه بشكل يكاد يكون شاملا.
وأشرنا إلى أن مفهوم الدولة غربي بامتياز، كونه ارتبط بتحولات كبرى، جرت بالقارة الأوروبية.
إن الأوضاع بالبلدان العربية، لم تساعد على حضور الدولة، ككيان سياسي مستقل، بهياكل ومواصفات معاصرة.
ويمكن الإشارة إلى سببين رئيسيين، حالا دون وجود الدولة، بمفهومها المعاصر، في الأقطار العربية.
الأول، أن جميع بلدان المنطقة، كانت قانونيا، جزءا من امبراطورية كبرى، هي السلطنة العثمانية.
وحين جرى تفكيكها، وتقاسمها بين الدول الاستعمارية الغربية، فرنسا وبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا، كانت المهمة الأساسية، لهذه البلدان هي التخلص من نير الاستعمار، وليس بناء الدولة الوطنية، وتلك سمة، طبعت جميع بلدان العالم الثالث، التي خضعت للهيمنة الأجنبية.
وهي مرحلة تحرر وطني، لم يكن الحديث خلالها ممكنا عن بناء الدولة، قبل إنجاز الاستقلال.
السبب الأخر، الذي حال دون حضور الدولة الوطنية، هو انشغال الأقطار العربية، بمخلفات مرحلة الاستعمار، وهي مخلفات كثيرة، ليس أقلها، أن الخرائط الجديدة التي صيغت لم تضع في الاعتبار حقائق الجغرافيا والتاريخ، وأن الحدود التي رسمها المستعمر، هي أشبه بقنابل موقوتة، جعلت من العلاقة بين النظم السياسية التي برزت بعد الاستقلال، علاقة صراعية، وليست علاقة تماه وانسجام بين الجيران والأشقاء العرب.
وليس علينا، لنتأكد من هذه الحقيقة، سوى إلقاء نظرة على خريطة الصراعات العربية- العربية، التي أنهكت قوانا وحالت دون تحقيق قدر نسبي من التعاون والتآلف، بما يخدم مشروع النضهة العربية، ويسهم، في خلق هياكل الدولة في هذه المنطقة.
لقد كانت الدولة في أوروبا ثمرة، لقيام ثورتين اجتماعيتين عظيمتين، هما الثورة الفرنسية والانجليزية.
ولم يكن لها أن تتعزز، بدون وجود المجتمع الصناعي.
في الحالة الفرنسية، اندلعت ثورة الجياع في 14 يوليو 1789م، وكان الاستيلاء على سجن الباسيتل، هو نقطة التحول.
رفعت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وطغت الأيديولوجيا والشعارات، وبرزت الصراعات عنيفة بين قادة الثورة.
لم يقد حزب أو قائد معين هذه الثورة، بخلاف ثورات القرن العشرين، بل كانت حاجة أملتها التغيرات الاجتماعية في فرنسا.
ولذلك لم يكن لها أن تؤسس دولة، في ظل العصف الثوري.
كانت حاجة فرنسا، لتأسيس دولة معاصرة، تقتضي وجود قيادة قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة، وقد أناط القدر بهذه المهمة، للضابط الفرنسي، نابليون بونابرت، منذ عام 1799، أن يقود تأسيس الدولة، بعد عقد من اندلاع الثورة الفرنسية.
ولتكون تجربته، هي الأولى في تأسيس الدولة على أسس عصرية، فوق كوكب الأرض.
تأسيس هياكل الدولة الحديثة، حرض على انتهاج فرنسا، سياسة الغزو للخارج، مدعومة بمبادئ الثورة الفرنسية، والتبشير بالحداثة.
وقد أسهمت الثروات الكبيرة المتأتية من الحملات الاستعمارية الفرنسية، في تعزيز بناء الدولة المعاصرة.
بمعنى آخر، فإن ولوج فرنسا للثورة، وتحولها إلى قوة استعمارية، هو العنصر الحاسم في بناء الدولة، وتأسيس هياكلها، وصياغة علم إدارة حديث، وغير مسبوق في التاريخ الإنساني.
هذه التحولات التي مرت بالقارة الأوروبية، وفي مقدمها بريطانيا وفرنسا، لم يمر بها الوطن العربي على الإطلاق.
والمحاولات الجنينية، لخلق دولة عصرية في مصر، التي قادها محمد على باشا، وئدت بذات القوى التي صنعت دولا عصرية في القارة الأوروبية.
لقد كان الغزو الأوروبي لمصر، هو العامل الحاسم، في إجهاض مشروع الدولة في أرض الكنانة. وكانت هناك محاولة أخرى، في العراق، وإن بإيقاع أدنى، قادها الوالي مدحت باشا، ولقيت مصير تجربة محمد على في مصر.
إعاقات كثيرة، تسببت في عدم نشوء الدولة العربية، على أسس عصرية، لعل الأهم بينها غياب الاقتصاد المنتح.
واقتصار ما لدينا، على مدى التاريخ على اقتصاد رعوي قبل الفتح العربي، أو رعوي وخراجي، أثناء تأسيس دولة الخلافة العربية الإسلامية، أو ريعي بالعصر الحديث..
لم نتجه بعد نحو الاقتصاد المنتج، بما يقتضيه من تفعيل للمحركات الذاتية، وتحويل المواد الخام، المتوفرة بكثافة في البلدان العربية.
وقد كان لذلك تبعاته، في هشاشة الهياكل الاجتماعية وعجزها، عن قبول الحداثة، بمختلف عناصرها وآلياتها، والأسس التي تستند عليها، من علاقة تعاقدية وتشاركية اجتماعية، وفصل بين السلطات…
والنتيحة هي غياب دولة، بمفهومها المعاصر، على مستوى الأمة بأسرها. وذلك ما ستكون لنا معه وقفة في أحاديث قادمة.
د. يوسف مكي