عودة إلى أزمة الاقتصاد العالمي
ليس أمامنا إلا أن نواصل ما بدأنا به قبل أسبوعين، في محاولة لقراءة وتحليل ووعي أسباب الأزمة الاقتصادية التي بدأت مؤشراتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وشملت لاحقا مختلف بقاع الكرة الأرضية. فهذه الأزمة قد ألقت بكلكلها على الأسواق العربية جميعها، وبشكل خاص على سوق المال السعودي، لتضيف إلى أزمته المستعصية التي مرت عليها فترة طويلة، ولتجعل واقع الاستثمار في هذا السوق أكثر مرارة وكآبة.
اليوم وعند كتابة هذا الحديث، الذي يصادف الإثنين، شهدت أسواق الأسهم الخليجية تراجعات حادة، كان نصيب المملكة منها الأعلى، حيث بلغ تراجع المؤشر ما يقرب من الـ 10%. ولا يبدو في الأفق ما يشي بنهاية لهذه الأزمة. واليوم أيضا عقد في بروكسل مؤتمر قمة للاتحاد الأوروبي، نشير معظم التوقعات إلى أنه لن يكون بإمكانه إيجاد حلول سحرية للأزمة الاقتصادية التي تمر بها القارة الأوروبية.
واللافت للنظر أن هذه التداعيات قد جاءت بعد إقرار مجلس النواب الأمريكي الجمعة الماضية لخطة “إنقاذ” مالي معدلة، اقترحتها إدارة الرئيس جورج بوش، وتضمنت تقديم 700 مليار دولار لإنقاذ القطاع المصرفي. وحصلت على تأييد 263 عضواً بمجلس النواب، مقابل معارضة 171 نائباً، بفارق كبير عن المرة الأولى، حيث لم تحصل الخطة الأصلية إلا على 205 أصوات فقط، مقابل معارضة 228 عضواً.
ويبدو أن إقرار الخطة بعد التعديل، وبالسرعة التي تم فيها التصويت، لم يكن بسبب قناعة المصوتين بقدرتها على إخراج الاقتصاد الأمريكي من النفق الذي يمر به، ولكن لأسباب سياسية بحتة، ترتبط مباشرة بالتنافس الحاد من أجل الوصول إلى البيت الأبيض. فكلا المرشحان لا يرغبان في أن يتهما من قبل جمهورهما بتعطيل التوصل إلى حل للأزمة، بل يحرصان على إظهار الرغبة والحماسة في التماهي مع مشاعر الناس. وكان ذلك جليا في تصويت كلا المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية، جون ماكين عن الحزب الجمهوري، وباراك أوباما ونائبه المرشح جوزيف بايدن عن الحزب الديموقراطي لمصلحة الخطة.
ويأتي إبلاغ 13 من النواب الديموقراطيين، في تصريحات خاصة لهم أنهم وافقوا على الخطة، بعد اتصالات شخصية أجراها معهم المرشح الديموقراطي لمنصب الرئيس، السيناتور باراك أوباما، تأكيدا على استنتاجنا هذا. وفي السياق نفسه، قال نواب ديموقراطيون وجمهوريون إن ما شجعهم على التصويت لصالح الخطة، بعد رفضهم لها في السابق كان تلقيهم اتصالات من أصحاب شركات صغيرة تعيش على الإقراض تحثهم على قبولها، إضافة إلى تضمين الخطة بندا بإعفاءات ضريبية تصل إلى 110 مليارات دولار.
وكان النائب زاك وامب، وهو واحد من 133 جمهوريا التحقوا بـ95 ديموقراطيا في رفض الخطة عند عملية التصويت الأولى الاثنين أكثر وضوحا في تقييمه لخطة الإنقاذ حيث أشار إلى كراهيته لها، ولكن عدم تفعيلها، من وجهة نظره، سيكون خطرا أكبر على البلاد. وقال النائبان إليجاه كامينغز وبوبي راش إنّهما تلقيا اتصالين من أوباما طالبهما بالتصويت على الخطة ووعدهما بأنّه “سيقوم بما نرغب فيه عندما يصبح رئيسا، وهو ما طمأننا”.
وواقع الحال فإن ما أقره الكونجرس هو الخطة الأصلية التي طرحتها إدارة الرئيس، والتي تدعو لشراء أصول بعض البنوك، غير أنّ الصيغة الجديدة تضمّنت جملة من التعديلات. ومن بين تلك التعديلات رفع مبلغ الضمان الحكومي على المدخرات من 100 ألف مليون إلى 250 ألف مليون دولار. كما تضمنت الخطة المعدلة بعض الإجراءات التي تعالج جوانب القلق لدى صغار رجال الأعمال. وعلاوة على ذلك تضمنت تخصيص مبلغ 250 مليار دولار فورا لشراء الديون المعدومة من البنوك، على أن يبقى مبلغ 100 مليار دولار أخرى تحت تصرّف الرئيس، و350 مليار دولار تحت طائلة مراجعة المجلسين. كما أضيف إلى الخطة بند يجبر شركات الضمان الصحي على تغطية نفقات الصحة العقلية بكيفية متكافئة مع الأمراض البدنية.
هذه التعديلات تتسق مع ما سبق أن تطرقنا إليه في حديثنا السابق، عن الفوارق في النهج الاقتصادي للحزبين المتنافسين بالولايات المتحدة. لقد أشرنا إلى أن هناك دورتين اقتصاديتين في النظام الرأسمالي: انكماش وانتعاش، ينتج عن الأولى حالة كساد، أما الثانية فينتج عنها حالة تضخم. وأن الأزمة الاقتصادية الحالية هي نتاج وضع خاص، وضع شاذ لم تشهده الساحة الأمريكية أو العالمية من قبل… وضع تسود فيه حالة كساد اقتصادي، وتتواجد به في آن واحد حالة تضخم غير معهودة بسبب عامل متدخل، لم يؤخذ اعتباره في الحسبان، هو الارتفاع المفاجئ والسريع في أسعار النفط. بسبب التوجس والخوف والشعور بعدم الاستقرار، في أسواق النفط العالمية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة.
خطة إنقاذ بوش غير المعدلة، جاءت منسجمة مع الموقف التقليدي للجمهوريين، وكانت تقترح معالجة من الأعلى، بضخ أموال للمصارف المهددة بالإفلاس من أجل إنقاذها. وقد جاءت في شكل مكافأة للذين تسببوا في الأزمة الراهنة، بدلا من محاسبتهم. ورأى فيها بعض الاقتصاديين، والديموقراطيين تكريسا لواقع الحال باعتبار أنها لن تترك أصداء واقعية وحقيقية بالنسبة لغالبية المتضررين من الأزمة. كما أنها لن تؤدي إلى حدوث انتعاش اقتصادي حقيقي يخرج البلاد من دائرة الأزمة الحادة التي تمر بها.
لقد ساهم الوعي لدى أعضاء المجلس من الحزبين بعمق الأزمة الحالية في الضغط على حكومة الرئيس بوش لإحداث تغييرات جذرية في الخطة الأولى. ولادراك الرئيس الأمريكي بأن نجاح أية خطة أمر مرهون بموافقة الأغلبية في الكونجرس عليها. وفي هذه الحالة فإن أغلبية الأعضاء هم من الحزب الديمقراطي، مما يعني أن على الرئيس بوش أن يأخذ موقفهم عند التصويت على خطته، بعين الاعتبار.
وكان موقف المرشحين للرئاسة عن الحزبين تجاه خطة “الإنقاذ” أيضا مفهوما ومتوقعا، فكلاهما لا يريد أن يتهم في تسببه باستمرار الأزمة، من خلال التمسك بالمواقف الأرثوذكسية للحزبين. إن ذلك سوف يؤثر دون شك على التفاف الناخبين حول برامج المرشحين للرئاسة، وسوف يؤثر على نتائج الانتخابات. وهكذا قدم كلاهما تنازلات محسوبة، أدت إلى تبني خطة “الإنقاذ”. وجاءت التعديلات في أغلبتها منسجمة مع موقف الحزب الديموقراطي، وليس مع ثوابت الجمهوريين. ولعل مرد ذلك هو إدراك الرئيس بوش لعمق الأزمة، ولأن أي خطة “إنقاذ” يتبناها سيكون مصيرها الفشل، بسبب رفض الديموقراطيين لها.
إننا هنا إزاء ظاهرة، تكاد تكون فريدة في التاريخ السياسي الأمريكي، حيث يتبنى رئيس الجمهورية عن الجانب المحافظ، خطة غير “ليبرالية”، تتدخل فيها الدولة بشكل فاضح وغير معهود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويكون المؤيدون بشكل ساحق للخطة هم معارضي الرئيس، بينما يعارضها، أنصاره بالحزب الجمهوري.
ليس ذلك هو جل الأمر فحسب، بل إننا نلحظ أن أنظمة أوروبية تتبنى مناهج يمينية، مغرقة في “ليبراليتها” الاقتصادية تباشر في تأميم البنوك، والتدخل بشكل قوي في إدارة عجلة الاقتصاد، كما هو حادث الآن في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وبالضد من كل المبادئ والقوانين الاقتصادية التي تبشر بها. ولعل السجالات التي أخذت مكانها في مؤتمر بروكسل الأخير، الذي أشرنا له في صدر هذا الحديث، والمتركزة حول مستويات التدخل في الشؤون الاقتصادية التي يمكن أن يسمح للدول الرأسمالية بممارستها في ظل هذه الأزمة، هي الدليل العاكس لحالة الانقسام والرعب بسبب حراجة الموقف الذي يمر به مسرح الاقتصاد العالمي.
على أنه ينبغي أن لا يذهب بنا الظن، فنتصور أن ما يحدث الآن من مبادرات ومؤتمرات لإيجاد مخارج لهذه الأزمة، سوف يؤدي إلى حلول سحرية وفورية لواقع الحال. فالحلول جميعها، ما هو معدل منها، وما هو متمسك بثوابت النظام الاقتصادي الرأسمالي “دعه يعمل” لم تتعامل مع الأزمة من جذورها، بل اقتصرت بالتعامل مع النتائج. وحتى الحديث عن الإصلاح، وتحقيق فاعلية أكثر للسوق، لم ترق لمعالجة الثغرات الرئيسة للنظام الرأسمالي، ولكنها تعاملت مع وضع قائم كما هو، بهدف ترميمه وصيانته، بدلا من إيجاد نظام بديل عنه، نظام أكثر عدالة ومهارة وفاعلية.
نجاح الإصلاح الاقتصادي ينبغي أن ينطلق برؤية جدلية عميقة لمكوناته، تستند على الأخذ بعنصري التكامل والتفاعل، وليس الوحدة والتضاد، لأن العنصرين الأولين يحملان معنى تضييق الفجوة بين الغنى والفقر. أما الوحدة والتضاد، فيكرسان مفهوم التناقض في المصلحة بالمجتمع الواحد.
كل الحلول، التي طرحت كبرامج إنقاذ لم تهتم بالقضايا الجوهرية التي أدت إلى الأزمة الحالية، كسيادة البطالة، وتقهقر دولة الرفاة، وغياب فرص الحصول على سكن وتعليم مناسب، وعدم توفر الحدود الدنيا للعيش الكريم، وعجز الدائنين من ذوي الدخل المحدود عن سداد القروض المستحقة عليهم. وهي أمور تتطلب معالجة جذرية، تذهب مباشرة إلى جذور الأزمة. كما أن خطط الإنقاذ المقترحة لن ينتج عنها وجود برامج ومراكز لمراقبة عملية، تمنع عمليات الاحتيال والنصب والتلاعب بمصير وحاجات الناس.
صحيح أننا بحاجة ماسة للتعامل مباشرة مع النتائج الكارثية التي واجهها ويواجهها الاقتصاد العالمي، وبشكل ملح وسريع، لكن الاكتفاء بذلك دون معالجة جذور الأزمة، سيكون بمثابة إعطاء مورفين مؤقت، ما يلبث أن ينتهي مفعولة، ليطل من جديد بشكل مدمر، ربما يكون أقسى وأعتى. ولذلك فالمطلوب هو الاهتمام بضخ أموال لتنشيط الحركة الاقتصادية في بنيبتها الأساسية، التي تمس قواعد المجتمع العريضة، وينبغي أن تكون من الأسفل إلى الأعلى، لكي يرشح أثرها على مجمل الهرم الإجتماعي، وليس إلى نقيض ذلك. فكما في قوانين الطبيعة والكون، فإن القوة الجاذبة، لانتعاش الاقتصاد هي دائما بالقاع، أما القوة الطاردة فهي في قشرة الكرة، وليست في باطنها. ولعلنا الآن بحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى للتعامل مع ما في الباطن،مع الشرائح الإجتماعية المسحوقة والمغيبة لجعل عالمنا أكثر استقرارا ورخاء ونماء وعدلا.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة محمد رضا)
لعل تلك الازمة كشفت بما لايدع مجالا للشك هشاشة النظام الرأسمالى الامريكى وانطبق علية المقولة الشهيرة بان امريكا نمر من ورق على عكس تخيل العرب لهذة الدولة الارهابية سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعقائديا ايضا 0 هذه مقدمة واجبة ولكن ما دفعنى للتعليق هو احجام العديد من الدول العربية من عرض مسلسل جمال عبد الناصر وقد يسأل البعض ما هى العلاقة واسمحوا لى ان اقول ان الازمة الاقتصادية الحالية قد تفهمها جمال عبد الناصر فكانت تجربته الاقتصادية ومما حققته خطتة الخمسية الاولى من نجاح اكدت الازمة الحالية صحة منهجة الاقتصادى والسياسى ولعلى اذا كان كاتب المقال منصفا واحسب انه كذلك ان يسمح أو يطلب من البحثين الموضوعيين ان يكتبوا بعلمية وموضوعية دراسات تحليلية للتجربة الناصرية خاصة الفترة من 1960/1965 حتى تكون امام اصحاب القرار العربى حتى يتمكنوا من تعديل سياساتهم الاقتصادية الحالية قبل ان يغرقوا وتغرق بلادهم فى هذا الطوفان القادم من امريكا الارهابية وعاش جمال عبد الناصر