عودة أخرى للثورات العربية
في أحاديث سابقة، أشرنا للطابع العفوي للحركة الاحتجاجية العربية، وبالتالي إلى غياب البرامج السياسية لمرحلة ما بعد كسب النصر. لقد مكن الطابع العفوي للاحتجاجات الحركات السياسية التقليدية المعارضة من اختطاف الثورات، وتوجيه حركتها بما يخدم استراتيجياتها. وذكرنا أيضا، أن النجاحات التي تحققت بقيت محدودة، واقتصرت على مصر وتونس، وكان انحياز الجيش فيهما هو العامل الحاسم في الإطاحة برمزي النظام. لم يكن هذا الانحياز، تسليما بمطالب المحتجين، وإنما كان عملا مبادرا، مكن العسكر من السيطرة على السلطة. وفي النتيجة، فإن أفضل ما سيتمخض عن ذلك، هو قيام نظام “ديمقراطي”، يمارس فيه الجيش الوصاية على الدولة ويتولى حماية أو صيانة الدستور، على الطريقة التركية الكمالية.
منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية، تدفقت مياه وحدثت تغيرات بالبلدان التي شهدتها، ولكن الإطار التحليلي الذين انطلقنا منه يظل صحيحا. في تونس أعلن عن فوز حركة النهضة بزعامة السيد راشد الغنوشي, ومن المتوقع تكليفه بتشكيل حكومة وحدة وطنية. ولم لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون حركة النهضة هي الفائزة في الانتخابات النيابية، وأن الذي يأتي بعدها هو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، بزعامة المنصف المرزوقي، ثم القوائم الشعبية بزعامة الهاشمي الحامدي. فذلك ما يتسق بالدقة مع خارطة المعارضات السياسية التقليدية التونسية. وصفة التقليد لا تحمل توصيفا سلبيا، بقدر ما هي إشارة إلى أسبقية وجود هذه الحركات على الاحتجاجات العفوية، التي قادها شبان يافعون من خارج دائرة هذه الحركات، ليتأكد أن الرابحين في “الربيع العربي”، الساسة التقليديون ومؤسسة الجيش.
في مصر، لا تبدو صورة التحالفات واضحة حتى الآن. تحالفات يعلن عنها، سرعان ما ينفض عنها السمار، وتشكل بدائل عنها. وعلاقة الثوار بالجيش التي اتسمت بالإيجابية أضحت متوترة، ومشوبة بالشكوك. والحال كذلك بين المعارضة التقليدية والشباب الذين تزعموا الحركة الاحتجاجية. وتشهد بعض الأحزاب السياسية انشقاقات عريضة، نتيجة اعتراض قواعدها على التحالف مع هذا الطرف أو ذاك. وحتى التحالف القوي الذي جمع الإخوان المسلمين مع المجلس العسكري، بدأت مؤشرات كثيرة على تهاويه.
لقد حسم الجيش المصري موقفه وانحاز لحركة الشارع، بعد ثلاثة أيام من بداية حركة الاحتجاجات، حين قام بطرد الأجهزة الأمنية من الشارع. واستمر ينتظر فرصته لاستلام السلطة، بعد ثمانية عشر يوم من حركة الاحتجاجات. لكن الانحياز ليس محض صدفة، بل كمنت مقدماته منذ وقت طويل… انتظر الجيش الفرصة التي منحها له شعب مصر، فنفذ في طرفة عين مشروعاً تطلع لتحقيقه، منذ بدأ الحديث عن التوريث، وتحييد المؤسسة العسكرية، وإبعادها عن النفوذ الذي تمتعت به منذ 23 يوليو عام 1952, وواقع الحال، أن الشعب هو الذي انحاز للجيش، وأمن له تنفيذ مشروعه وليس العكس.
لقد استبد شيء من هذا اليقين، منذ التقيت بصديق عزيز، من أقطاب المرحلة الناصرية، تسلم حقيبة وزارية مهمة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قبل سنة ونصف السنة من هذا التاريخ. كان الصديق في المستشفى يجري عملية جراحية. وحين علمت بحالته الصحية، قمت بزيارته في المستشفي. والرجل مشهود له بالكرم والصدق والنزاهة والأخلاق ـ وهو على علاقة جيدة مع شخصيات نافذة في المجلس العسكري.
تشعب الحديث بيننا، وبلغنا موضوع التوريث الذي كان حديث الجميع في تلك الفترة. سألته عن احتمالات ترشيح الحزب الوطني لجمال مبارك لرئاسة الجمهورية، فأجاب بحسم باستحالة ذلك، وأن دونه رقبة مبارك نفسه. إن الشرعية في مصر منذ 1952م، أصبحت مرتبطة بالمؤسسة العسكرية، ولن يسمح الجيش لأي كان بالخروج على هذه القاعدة. وجاءت الأحداث لتؤكد صحة قوله. يؤكد ذلك ما يروج له هذه الأيام، بالمدن المصرية، بعريضة بمليون توقيع تطالب بترشيح المشير محمد حسين طنطاوي لرئاسة الجمهورية. ورغم أن المجلس العسكري نفى وقوفه خلف هذه العريضة، لكن دلالاتها لا تخرج عن سياق هذا التحليل.
في ليبيا قدمنا، في الحديث السابق: ليبيا المستقبل… قراءة استشرافية، تحليلا لآخر التطورات في هذا البلد الشقيق، المشغول بلملمة جراحاته، ولن يكون مجديا تكرار ما ذكرناه.
أما في البلدان العربية الأخرى، التي شهدت احتجاجات واسعة، فإن دور بعضها، قد تعثر وبعضها الآخر لا تزال تراوح مكانها. وليس بالإمكان ضمن ما هو متاح مناقشة وتحليل أسباب فشلها.
إلا أن مستقبل هذه الحركات، وقدرة صناعها على صياغة برامح للنهوض بشعوبها تبقى موضع جدال. فالواضح أن هذه الحركات انطلقت دون برامج سياسية، وغلبت شعارات وغيبت أخرى، مكررة أخطاء الماضي، في وضع عناصر مشروع النهضة في موقع التقابل، بدلا من التكامل.
فيما بين الحربين العالميتين، وحتى نهاية الستينيات من القرن المنصرم، طغى شعار التحرر من الاستعمار على ما عداه من الشعارات. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم بأسره إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي، وتوزعت البلدان العربية بين الفريقين.
انتهج البعض الطريق الاشتراكي، وغلبوا فكرة العدل الاجتماعي على الحرية. فكانت النتيجة قيام أنظمة شمولية تحققت فيها رأسمالية الدولة، وبقاء علاقات الإنتاج كما كانت في السابق. انعكس عجز مؤسسات الدولة، وهيمنة كابوس البيروقراطية، على القدرة الإنتاجية والنوعية للقطاع العام. بما أدى إلى شل فاعليته، ومن ثم إلى سيادة حالة من الركود والجمود في كل الفعاليات الاقتصادية التي تشرف الدولة على تسييرها.
أما الذين اختاروا الطريق الرأسمالي، فإن قدرتهم التنافسية في الأسواق العالمية ظلت محدودة. وكان وضعهم في ذلك أشبه بوضع لاعب شطرنج مبتدئ ينافس لاعبا محترفا بتقليد حركاته، ناسيا أن اللاعب المحترف يملك أولا حق النقلة الأولى، ويملك ثانيا الخبرة التي تمكنه من تحريك البيادق وتوجيه ساحة اللعب بالطريقة التي تضمن انتصاره، وثالثا فإن المتنافس الخصم هو الذي يبدأ بضربة “الكش”، والنتيجة المحتمة هي خسارة اللاعب المبتدئ.
وفي كلتا الحالتين: الاشتراكية والرأسمالية، بقيت قيم الديمقراطية خارج المعادلة في معظم البلدان العربية.
وكما في المرحلة التي أعقبت الاستقلال، جرى الاستتباع، أو تبني نهج رأسمالية الدولة بعد أن ثبت فشله في الإتحاد السوفييتي وبقية البلدان الرأسمالية، يجري اللهاث الآن وراء النموذج السياسي الغربي، في مرحلة يعاني منها الغرب أعنف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويواجه الغرب أعنف الحركات الاحتجاجية المطالبة بعالم أكثر عدالة. ويبدو الحراك الشعبي العربي دائما وكأنه يلاحق الأفول، بدلا من التطلع إلى المستقبل. فيغيب الحراك شعارات أساسية، كانت فيما مضى محركا لانتفاضات وثورات شعبية عمت المنطقة العربية. تغيب العروبة والهوية وفكرة الوحدة والتنمية المستقلة والعدل الاجتماعي، واستقلالية القرار لصالح عنصر آخر لازم من عناصر النهضة، لكنه يبقى عاجزا بمفرده عن الدفع بمسيرة التطور والتنمية، إن لم يأخذ سياقه مع العناصر الأخرى اللازمة للتقدم.
لقد فشلنا فيما مضى حين غيبت الحرية والديمقراطية والتعددية ومبدأ تداول السلطة، والآن نعيد تكرار الخطأ بتغييب العناصر التي حكمت فجر استقلالنا. ولن يكون لنا من مستقبل إلا إذا أنهينا حالة التقابل بين جميع العناصر، وتحقق التكامل والتفاعل بينها، عند ذلك فقط يمكن القول بأننا نسير في الاتجاه الصحيح…