عملاق الصحافة هيكل وإعادة كتابة التاريخ
رحل عنا محمد حسنين هيكل… الكاتب الذي ملأ الدنيا، وكان الشغل الشاغل لخصومة ومحبيه. رحل إلى الرفيق الأعلى عن عمر ناهر الثلاثة والتسعين عاما، عاصر خلالها أحداثا جساما، كرس جل عمره، لقراءتها وتحليلها. تعلم منها الكثير، وعلم عنها لجيله ولأجيال المستقبل ما هو أكثر. اجتهد وأصاب وأخطأ شأنه في ذلك شأن غيره من الكبار الذين تصدوا لتحليل تاريخ امتد أكثر من ستين عاما من الإبداع والعطاء. لكن بوصلته لم تخذله أبدا.
لم يبرح هيكل، في أحلك اللحظات التي عاشتها الأمة العربية، إيمانه بقدرها وبحقها في النهضة والتقدم والوحدة. ظل هذا الإيمان، عقيدته التي لا يتزحزح عنها طيلة حياته. عاصر هزائم ونكسات وانتصارات وصمود. وبقي شامخا كالطود، لا تلين له قناة. ولم يهرب من الميدان، كما فعل غيره، ولم تغريه حياة المنافي، بل بقي متمسكا بمعشوقته، أرض الكنانة، لا يكتب إلا منها وعنها، وبما يقربها من حلمها اللذيذ، في أن تأخذ مكانها اللائق، كقلعة كبرى من قلاع الأمة الحصينة، وكقلب نابض معبر عن حركتها. وحين يكتب عن غيرها، وقد كتب كثيرا، تظل باستمرار بوصلته، ومحط ترحاله، وسوحه في هياكل الفكر والسياسة.
بدايته، كانت وسط نيران الحرب العالمية الثانية، التي كتب عنها… وهوايته دائما ركوب الخطر. حيث كانت بدايته مراسلا في ميادين الحرب الكونية، وهو لما يزل يافعا في ريعان شبابه. وليعاصر لاحقا نكبة فلسطين، ثم ليلتقي لاحقا بعناصر الجيش المصري، المحاصرين في الفالوجة، ويتعرف من هناك على جمال عبدالناصر، الذي كان في حينه، يتهيأ لصناعة تاريخ مصر الحديث، الذي بدأ مع ثورة 23 يوليو 1952.
وكانت ثورة يوليو، محطة صعوده الأسطوري إلى عالم الصحافة، حيث تربع منذ ذلك الحين، على عرشها، ليصبح عملاقها وعميدها حتى رحيله إلى الرفيق الأعلى. وتسلم رئاسة تحرير صحيفة الأهرام، طيلة عهد الرئيس عبدالناصر، حيث تحولت تحت إدارته إلى الصحيفة العربية الأولى، وإلى واحدة من كبريات الصحف العالمية.
رافق مسيرة عبدالناصر، منذ اندلاع شرارة الثورة، عاصر أفراحه وأحزانه، انتصاراته ونكباته ونكساته. وكتب بكثافة حول العدوان الثلاثي الغاشم على مصر 1956م، وهلل للانتصار ودحر العدوان، كما هلل لكسر احتكار السلاح، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، ولخطط التنمية الانفجارية التي شهدتها مصر، في خططها الخمسية، التي نقلت مصر، إلى دولة رائدة، في القارات الثلاث: أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأسهم في التنظير لعدم الانحياز، وللحياد الإيجابي. وخلال تلك الحقبة، التقى بزعماء الكتلة الجديدة، وتحدث إليهم وكتب عنهم. التقى بتيتو وسوكارنو وشوان لاي ونهرو وناكروما وسيكوتوري وكثير غيرهم.
كرس قلمه، للدفاع عن حركات التحرر الوطني، في آسيا وأفريقيا، ورافق مسيرة دعم مصر، واحتضانها للثورة الجزائرية، وصحب أبطالها التاريخيين، وكان هو الراعي للقاء الأول بين الراحلين: الرئيس جمال عبدالناصر، قائد ثورة مصر، وياسر عرفات، الثوري الفلسطيني، الذي أشعل وميض الأمل، في الليل العربي الحالك، بعد نكسة حزيران عام 1967.
وكان من الشهود القلائل، على دور مصر في نصرة، حركات التحرر في القارة السوداء. فرح لانتصارات تلك الثورات، وحزن كثيرا للمآلاتها المأساوية لبعض تجاربها، وكان من أوائل من رثوا بطل الكونجو الوطني الباسل، باتريس لومومبا.
عاش النكسة بكل دقائقها ولحظاتها، وكتب بيان الاستقالة، للرئيس عبدالناصر، كما كتب نعيه عند رحيله، عام 1970، بعد منازلة كبرى في حرب الاستنزاف ضد الكيان الغاصب. وصاغ البيان العسكري الأول لمعركة العبور.
وكان بهاؤه وعطاؤه قد تجلى بوضوح، قل له نظير، بعد رحيل رفيق دربه الرئيس عبدالناصر، حيث كانت البداية مع كتابه “لمصر لا لعبد الناصر”، لتتبعها عشرات الكتب التي أثرت المكتبة العربية. كتب خلالها عن مصر والوطن العربي والعالم. وترك بصماته واضحة في كتابة التاريخ المعاصر، رغم أنه رفض طيلة حياته لقب المؤرخ، وتمسك بلقب الجورنالجي.
أرخ لثورة 23 يوليو في كتابه، سقوط نظام، لماذا كانت ثورة 23 يوليو لازمة؟ كما كتب في الحرب، حيث نشر ثلاث مجلدات، تحت عنوان حرب الثلاثين عاما، سجلت تاريخ الصراع على المنطقة، منذ عام 1952- 1982، تناولت أزمة السويس وسنوات الغليان، والانفجار وحرب أكتوبر، والغزو الإسرائيلي لمدينة بيروت.
انتقد مشاريع السلام، باعتبارها مشاريع أخذت من حصة مصر، وعزلتها عن محيطها العربي، وألغت دورها التاريخي المحتوم. ناقش إدارة الرئيس السادات لمعركة العبور وثغرة الدفروسوار، وفصل القوات. حيث كتب “عند مفترق الطرق ماذا حدث فيها وماذا حدث بعهدها”. وتسببت انتقاداته الحادة للتسوية، في قطع أواصر العلاقة بينه وبين الرئيس السادات، العلاقة التي امتدت قرابة خمسة وعشرين عاما، لينتهي الأمر به إلى الاعتقال. وليصدر مرافعته الشهيرة، حول هذا الموضوع، في كتابه “وقائع تحقيق سياسي”. ليتبعه كتاب “خريف الغضب”، الذي كتب فيه سيرة الرئيس السادات، من وجهة نظره. كما كتب “آفاق الثمانيات”.
ناقش المشروع الصهيوني، والوثائق السرية المتعلقة بنهجه التوسعي، وطبيعة الاستجابة العربية، لهذا المشروع في كتابه “العروش والجيوش- قراءة في يوميات الحرب، وفي كتابه: “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل- الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية” و”عواصف الحرب وعواصف السلام”. كما كتب “السلام المستحيل والديموقراطية الغائبة”.
تناول قضايا عصره، في عشرات الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر، “بين الصحافة والسياسة” وعن الثورة الإيرانية، في “مدافع آيات الله”، وعن الجهاد في أفغانستان “من نيويورك إلى كابل”، وعن أزمة الخليج “أوهام القوة وأوهام النصر”.
وفي مطلع هذا القرن، كانت بدايته مع كتاب “العربي التائه، و”الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق”. “وكلام في السياسة”، وكتب أخرى كثيرة، ليس لهذه المقالة أن تقوم بحصرها.
لقد كان هيكل كاتبا مجيدا للتاريخ، أرخ بأسلوبه الرشيق، السهل الممتنع، لمرحلة من أخطر مراحل التاريخ العربي، ورحل عنا في قمة عطائه، رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا له راجعون.