على هامش انعقاد مؤتمر قمة عدم الانحياز

0 414

 

اختتمت في نهاية الأسبوع الماضي بالعاصمة الإيرانية طهران الدورة السادسة عشرة لدول عدم الانحياز، وسط أجواء إقليمية غاية في التعقيد. وقد عقدت الدورة السابقة في شرم الشيخ عام 2009، حيث تسلمت مصر منذ ذلك الحين رئاسة هذه الكتلة، لحين انعقاد هذه الدورة. وتعيد هذه المناسبة الظروف الدولية والإقليمية

التي تكونت في ظلها حركة عدم الانحياز، وتتيح لنا الخروج بمقاربة بين الدور الذي تضطلع به هذه الكتلة في صناعة السياسة الدولية بالأمس واليوم.

 

جاء تأسيس حركة عدم الانحياز استجابة لواقع موضوعي، حيث استعرت في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم الحرب الباردة بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية. وانقسم العالم في ولاءاته وتحالفاته بينهما. وفي خضم هذا التنافس برزت فكرة النأي عن الارتباط بأي من المعسكرين المتنافسين.

كان الزعيم الهندي جواهر لال نهرو أول من تنبه لمخاطر الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي الذين تحتوي ترسانتهما العسكرية على سلاح الرعب النووي. فقد صرح بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أثقالها، بفترة وجيزة، وكان يشغل أثناءها يشغل منصب وزير الخارجية آنذاك أن بلاده تعمل على تبني سياسة النأي عن الصراع الدائر بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية.

في مؤتمر باندونج، باندونيسيا عام 1955، أعاد نهرو تأكيد رفض بلاده الانحياز لأي من المعسكرين، ورأى أن الارتباط بأي منهما، يعرض بلدان العالم الثالث للمخاطر، ويفقدها صفة الاستقلال. وقد تبني المؤتمر المذكور مصطلح الحياد الإيجابي، لكن ذلك لم يستمر طويلا، حيث تم استبداله لاحقا بمصطلح عدم الانحياز. لكن المبادئ الأساسية لهذه الكتلة قد تحددت في هذا المؤتمر وعرفت بمبادئ مؤتمر باندونج.

نصت مبادئ باندونج على احترام حقوق الإنسان الأساسية وميثاق الأمم المتحدة. وأكدت على احترام سيادة كل الدول وسلامة أراضيها. وطالبت المجتمع الدولي بالاعتراف بمساواة جميع الأمم والأجناس، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، وحق كل أمة في الدفاع عن نفسها فرديا أو جماعيا. ودعا بيان باندونج إلى منع استخدام الأحلاف العسكرية للضغط على أية دولة. وبالمثل طالب بمنع استخدام العنف ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لأي بلد، وتسوية المشاكل الدولية بالطرق السلمية. وأكد على أهمية تنمية المصالح المتبادلة والتعاون بين الدول، واحترام العدالة والالتزامات الدولية.

في مؤتمر بريوني بيوغسلافيا عام 1956م تبنى زعماء مصر ويوغسلافيا والهند فكرة “عدم الانحياز” لأي من المعسكرين. ورغم معارضة زعماء بعض الدول النامية لهذا التوجه، بقيت الكتلة قائمة، وواصلت الكتلة عقد مؤتمراها بشكل منتظم. وقد شكلت الدول التي استقلت حديثا إثر هزيمة الاستعمار التقليدي بالحرب الكونية الثانية، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية قاعدة الكتلة العريضة. وكان أثر ذلك واضحا في توسع أعضاء الكتلة من 21 دولة عام 1961م، عندما عقدت القمة الأولى إلى 47 دولة بالقمة الثانية عام 1962م ، وتضاعف أعضاء الكتلة إلى أن بلغ 113 دولة.

وعبر هذه المؤتمرات تطورت أهداف ومبادئ الكتلة، محرضة على تبني سياسات مستقلة قائمة على تعايش النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، وتشجيع حركات الاستقلال الوطني في المناطق المستعمرة. والأهم أنها رفضت بشكل حاسم سياسة الأحلاف العسكرية، وعدم الارتباط باتفاق ثنائي مع أي دولة من الدول الكبرى، أو السماح لدولة كبرى بإِقامة قواعد عسكرية على أراضي الدول غير المنحازة.

ومع بروز حالة الاسترخاء في العلاقة بين العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إثر تبني الحزب الشيوعي السوفييتي بشكل عملي، لسياسة التعايش السلمي في نهاية الستينيات، تبنت كتلة عدم الانحياز مواقف إجرائية لتطوير صيغ التعاون فيما بين أعضائها. وضمن تلك المواقف الدعوة لإِنشاء مصارف لدول عدم الانحياز، وتنمية التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتشجيع روابط منتجي المواد الأولية، كما حدث في مؤتمر كولومبو في سيريلانكا عام 1975م، والدعوة لإِقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، أكثر عدالة، كما حدث في مؤتمر قمة الحركة بالجزائر عام 1973م.

المقاربة بين خصائص ومواقف كتلة عدم الانحياز بين الأمس واليوم، لن تكون صحيحة ما لم توضع في إطار تاريخي وموضوعي، بسياق التطورات في السياسة الدولية. وفي هذا الاتجاه، ينبغي التذكير أن نشوء الحركة جاء في الأصل ردا على استعار الحرب الباردة بين القطبيين العظميين، وذلك يتضح من المسميات المختلفة التي حملتها الكتلة. فتعابير الحياد والحياد الإيجابي وعدم الانحياز، تشير إلى أن الكتلة تقف في وسط الطريق بين طرفين أو كتلتين، ولا تنحاز لأي منهما. والحياد وعدم الانحياز، في مضمونهما كما أوضحت أدبيات الكتلة يعنيان عدم الانخراط بالأحلاف العسكرية التي نشأت نتيجة ذلك التنافس، وبشكل خاص حلفي الناتو ووارسو والتكتلات العسكرية التي نتجت عنهما وهي عديدة. ويعني ذلك ضمنا عدم تقديم قواعد أو تسهيلات عسكرية لأي من الطرفين المتنافسين في البلدان المنضوية بكتلة عدم الانحياز.

في مجالات أخرى، لم يكن ممكنا تحقيق مطامح الكتلة، بسبب ارتباط معظم دول العالم اقتصاديا وسياسيا بهذا الفريق أو ذاك. فقد ظلت العلاقات متينة بين دول مؤسسة لكتلة عدم الانحياز مثل مصر ويوغسلافيا بالاتحاد السوفييتي. كما بقيت العلاقات الاقتصادية متينة بين الهند وبريطانيا، من خلال ارتباط الأولى بالكومنويلث البريطاني. وحتى على المستوى العسكري، استمر العلاقات وطيدة بين أعضاء الكتلة بأحد المعسكرين المتنافسين. فكوبا التي كادت علاقتها العسكرية مع الاتحاد السوفييتي أن تتسبب في حرب عالمية ثالثة، بين السوفييت والأمريكان أثناء حقبة الرئيس الأمريكي، جون كنيدي هي عضو في كتلة عدم الانحياز. وهناك دول أخرى متحالفة عسكرية مع الغرب، كالعراق أثناء الحكم الهاشمي.

وحين نأتي إلى موقف القوى العظمى، من كتلة عدم الانحياز نجده مرتبكا وقلقا وخاضعا لقانون المنفعة. فالسوفييت يرون فيه أداة أمريكية لمنع دول العالم الثالث من الارتباط بالمعسكر الاشتراكي، ومشروعا ضد حركة التحرر العالمي. والأمريكيون ينظرون له كمخلب قط لمساندة المشاريع السوفييتية بالعالم. ويستدل كل فريق على أطروحته بمثل ينتقيه ليعزز وجهة نظره.

فالسوفييت على سبيل المثال، رأوا أن يوغسلافيا هي جزء من المنظومة الاشتراكية، فرطت منها والتحقت بالمعسكر الأمريكي، بالتحاقها بكتلة عدم الانحياز رغم أنها احتفظت بهويتها الاشتراكية, والأمريكان يطرحون اسم كوبا ليدللوا على أن الكتلة تابعة للاتحاد السوفييتي. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، والحديث عن الخصائص والمواقف والمقاربات بين الأمس واليوم، لم يكتمل بعد، وبحاجة إلى المزيد من القراءة والتحليل ووضعه في سياق الحاضر. وهو ما نعد باستكماله في أحاديث قادمة.

yousifmakki@yahoo.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × 1 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي