على هامش الانتخابات الرئاسية المصرية
تقترب حملة الانتخابات الرئاسية في مصر من نهاياتها، وينتظر المصريون أن يعلن اسم الرئيس القادم، قبل نهاية هذا الشهر. والمفترض أن تمثل نتيجتها نهاية حقبة، وبداية حقبة جديدة في تاريخ أرض الكنانة. فهذه الانتخابات تأتي بعد ثورة شعبية، انتهت موجتها الأولى بتنحي الرئيس مبارك عن الحكم، وتسلم المجلس العسكري أعباء السلطة.
ولا تزال أحداثها تتداعى، منبأة بقدوم موجات أخرى، ربما تكون أكثر راديكالية وعنفا وصخبا، رغم أن الوقت مبكر جدا للتنبؤ بمسارات تلك الموجات ونتائجها.
لكن المؤكد، أن نجاح أو فشل التجربة السياسية الحالية، بشقيها البرلماني والرئاسي، هو الذي سيحدد شكل وطبيعة الموجات القادمة، والتي يتوقع أن يكون هدفها الرئيس هو استكمال الثورة. المشهد السياسي الحالي في مصر، ونتائج الانتخابات البرلمانية ومجلس الشورى، وانتماءات المرشحين المتنافسين على كرسي الرئاسة لا تجعلنا نتفاءل كثيرا بأن المستقبل سيحمل آمالا كبيرة للمصريين، الذين تطلعوا بثورتهم إلى تأسيس الدولة المدنية التي تؤمن لهم الحرية والكرامة، والبناء والنماء وتأمين المتطلبات الأساسية للعيش.
فرغم أن عدد المرشحين تجاوز ما هو معهود بالانتخابات الرئاسية بالبلدان العربية، ومن ضمنها البلدان التي عصف بها “الربيع العربي”، إلا أن بالإمكان تصنيفهم لثلاثة خطوط. وواقع الحال أن نسبة المرشحين الذين ينتمون لتيارات الإسلام السياسي، إما بالارتباط تنظيميا بالإخوان أو بالسلفية، أو التعاطف معهما، يمثلون النسبة الأكبر بينهم. أما الخط الثاني، فيمثله مرشحان ينتميان سياسيا، ووظيفيا لعهد مبارك، وينتظر أن يحظيا بدعم الحزب الوطني المحظور، والرجالات التي تحلقت واستفادت من النظام السابق. والتيار الإخواني كما يبدو من الاستفتاءات العشوائية ربما هو الأكثر حظوظا بالفوز بالمعقد الرئاسي.
أما الخط الثالث، ويشمل بقية المرشحين، ويمثلون بقية التيارات السياسية السائدة بالمجتمع المصري، لكن حظوظهم جميعا واهنة، باستثناء الأستاذ حمدين صباحي، رئيس حزب الكرامة المعروف بتوجهاته القومية. وقد وضعته نتائج انتخابات المصريين في الخارج في المقدمة، متنافسا مع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح على المقعد الأول. وحمدين هو الأوضح في برنامجه السياسي، ورؤيته لمستقبل علاقات بلاده العربية والدولية، كونه يمثل امتدادا للحقبة الناصرية. ولكنه الأقل دعما من القوى المتنفذة في الاقتصاد، وصناعة المال في مصر. مع ترجيح كفة الفوز للدكتور أبو الفتوح، من قبل كثير من المتابعين لحملة الانتخابات، لكن أحدا لا يمكنه استبعاد حدوث مفاجآت في اللحظات الأخيرة.
وبعض النظر عن الفائز، فإن المرء لا يمكنه إلا أن يشفق عليه. فالشعب المصري الذي خرج بعشرات الملايين، في 25 يناير والأيام التي أعقبتها من العام الماضي، يحلم بالكثير ويتوقع الكثير، من قادته الجدد. لا يتوقع أحد من الذين تجمعوا في الساحات بالمدن المصرية الرئيسية، وبشكل خاص ميدان التحرير، أن يكون البديل عن النظام السابق هم رجالاته، أو من هم على شاكلتهم. فليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان، وليس بالخبر وحده أيضا تتقرر المصائر والأقدار.
يتطلع المصريون بعد حراكهم الملحمي، وانتصار ثورتهم أن يحلق مشروع نهضتهم بجناحي الحرية والعدالة. وشرط ذلك هو قيام دولة مدنية، ترفع شعار الكرامة والخبز، وتسندها مؤسسات قادرة على الاضطلاع بتحقيق هاتين المهمتين. وذلك يفترض وجود برنامج سياسي عملي، يرتقي فوق الأيديولوجيات، وينأى بنفسه عن سياسة الإقصاء. بمعنى أن وجود دولة المؤسسات المدنية، شرط لازم وسابق، على تحقيق أية خطوة باتجاه تلبية المتطلبات الرئيسية، التي من أجلها أكد شعب مصر مجددا حضوره التاريخي.
ولأن شرط نجاح مشروع الثورة، هو التفاف المصريين حولها، بعد انتهاء المهرجان، واتجاه القاطرة نحو العمل، فإن النأي عن الديكتاتورية والإقصاء يتطلب بروز ما يطلق عليه مجازا في العلوم السياسية بـ “دولة التراضي”. وفيها تصبح اللوائح والقرارات نتاج توافقات ومواءمات، وحصيلة تفاعل مستمر، لمنفعة الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجا. وتلبية تلك الاحتياجات لا ينبغي أن تتم في صيغة مكارم وترضيات، لحيازة رصيد من التأييد لصالح البرنامج السياسي الخاص، بهذه الفئة أو تلك، بل ينبغي أن تكفله دولة القانون، وأن يكون جناحا الحرية والعدل معبران عن ما أطلق عليه مونتيسكيو “روح القانون”. وتعبيرا عن العلاقات التعاقدية بين قمة الهرم وسفوحه ووديانه.
لم تتحدد حتى اللحظة طبيعة دور رئيس الجمهورية الذي سيجري الإعلان عن اسمه بعد أيام قليلة، لكن المنطق يقتضي أن يعمل المصريون على إقامة نظام رئاسي، لا يكون فيه دور الرئيس هامشيا أو شكليا. فليس من سبيل لمواجهة تغول البرلمان، بالصبغة الأيديولوجية الواحدة، وتجنب ديكتاتورية الأغلبية، سوى تقاسم السلطة بين الحكومة وموقع الرئاسة. فذلك وحده الذي يؤمن فعالية دولة القانون، ويحقق العدالة الاجتماعية، وينمي اقتصاد البلاد، ويقوي استقلالية القرار، ويمنع القرارات التي تضر بمصلحة الآخرين.
قلنا إننا نشفق على رئيس مصر القادم، بغض النظر عن التيار الذي يفد منه، لأن التركة التي أمامه ثقيلة، وهي لشدة ثقلها، تنوء بحملها الجبال. كيف لنا أن نتحدث عن جناحي النهضة، قبل أن يكون المجتمع متحفزا ومندفعا نحو القيم الجديدة… قيم الحرية والعدالة. وهل لهذه القيم أن تتحقق، من دون صياغة استراتيجية عملية للقضاء على الأمية، وتأمين العلاج الصحي والمأوى، والبطالة والمتطلبات الأساسية للكرامة الإنسانية، ونشر العلم الحق والعمل الحق. وهل بالإمكان التحدث عن الندية والتكافؤ، وتجنب سياسات الإقصاء مع وجود النعرات الدينية والمذهبية والطائفية والمناطقية.
وليس ترفا التأكيد على أن التكافؤ والندية في التعليم هما كلمة السر، لتحقيق النمو والتطور بالمجتمع المصري. وهما وحدهما السبيل لخلق جيل جديد، يغلب مفهوم المواطنة، على ما عداه من الهويات الجزئية. كما أنهما الأداة العملية للتنشئة الاجتماعية والسياسية ولوعي كل فرد مسؤوليته، في المشاركة ببناء الدولة المدنية، وانتقال الولاء المجتمعي من العشيرة والمذهب إلى ولاء للوطن والدولة.
إن تعميق الوعي الوطني بمتطلبات بناء الدولة الحديثة، هو الذي ينقل نضال شعب مصر، من حالته الرومانسية، إلى واقعية تستوعب حقيقة واقع مصر، وشروط انتقاله من حال إلى حال. فينتقل الشعب في حراكه من الشعار إلى البرنامج، ومن الحالة الأدنى، إلى الحالة الأفضل، بتصميم ومثابرة وجهد. فيجري التسليم بمبدأ التراكم التاريخي، وقانون الحركة. وأن يكون الهدف دائما وأبدا هو الارتقاء بمصلحة الوطن، وجعل هذا الأمر فوق كل اعتبار. وذلك يقتضي استبعاد الوعود الوردية التي يطلقها المتنافسون على حلبة الوصول لكرسي الرئاسة، لأن أمام المصريين طريق طويل وشاق، لن يتمكنوا من عبوره إلا بالعرق والتضحيات، وروح التفاني، والأريحية، ونبذ المصالح الفردية… وتلك صفات جديرة بشعب أثبت في ثورته عشقه وتشبثه بالحياة.
yousifmakki@yahoo.com