على من تراهن؟!
لفترة طويلة ظل المواطن العربي ينظر إلى جامعة الدول العربية كمؤسسة كسيحة وعاجزة، غير قادرة على التجانس مع ما ورد في ميثاقها، والوفاء بما جاء في المعاهدات والإتفاقيات اللاحقة، التي وقعها القادة والمسؤولون العرب، وبضمنها ميثاق الأمن القومي العربي الجماعي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، واتفاقيات الوحدة الإقتصادية والتجارة الحرة… وعدد آخر، لا يحصى من الإتفاقيات.
مع كل ذلك، كان هناك شعور عام بأن هذه الجامعة هي الخيمة التي تجمع كل العرب تحت سقفها. وأنها أحد التعابير عن الشعور الجمعي بالإنتماء إلى أمة واحدة وثقافة واحدة وتاريخ واحد، ومعاناة مشتركة واحدة. وكانت كل القرارات التاريخية العربية، تتحصن بميثاق الجامعة وتتكيء عليه. وكانت هناك ثوابت.. ووقفات إيجابية منسجمة مع تلك الثوابت.
وقف العرب جميعا موقفا موحدا من قرار التقسيم، واستيلاء الصهاينة على أرض فلسطين عام 1947، ودخلوا حربا هزمتهم عسكريا، ولكنها لم تستطع النيل من إرادتهم. وواجهوا العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وكان لجامعة الدول العربية دور تحريضي على الصمود والمقاومة في تورسعيد. وساندت الدول العربية مجتمعة نضال شعب الجزائر وأبطال الأوراس، كما ساندت نضال الشعب المغربي، ووقفت موقفا صلبا من العدوان الفرنسي على قاعدة بنزرت في تونس، وناصرت نضال شعب اليمن في الجنوب للتحرر من نير البريطانيين. وحين انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة فتح أولا، ثم منظمة التحرير الفلسطينية لاحقا عام 1965، لم تتردد جامعة الدول العربية عن منح التأييد والمساندة. ووقفت في حرب تشرين/ أكتوبر تقدم الدعم المعنوي للجنود الأبطال الذين عبروا القناة ومرتفعات الجولان عام 1973. وفي منتصف السبعينيات اجمع القادة العرب في مؤتمر قمة عقد بالرباط على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
من هذه المقدمة، نستطيع القول أن نشاطات جامعة الدول العربية في الثلاثة عقود الأولى، بعد تأسيسها قد تركزت على ثوابت أساسية هي دعم حركات التحرر الوطنية، ورفض الإستعمار والإحتلال والتدخلات الأجنبية، والعمل على صياغة ميثاق شرف عربي يتعهد بموجبه القادة العرب بأن أي عدوان يقع على بلد عربي سوف يواجه بموقف عربي جماعي ضده. لكن هذا الميثاق على كل حال بقي شعارا، يفتقر إلى التنفيذ.
ومع دخول المنطقة العربية نفق التسوية، تراجعت ثوابت، وخرقت اتفاقيات، ولم يعد هناك مكان لـ “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما” في أدبياتنا. وأصبح مقبولا طعن مفهوم الأخوة العربية، ولم يعد مستنكرا التشكيك في الإنتماء والهوية. ولا شك أن وقوف العرب متفرجين على صيحات أطفال فلسطين، وعلى أول عاصمة عربية، بيروت وهي تدمر بشكل منهجي، في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، كان هو الدليل الصارخ والقاطع على مستوى العجز العربي، وانكسار الإرادة.
وكانت صورة العجز تبرز فاضحة، من خلال الصمت المروع على حرب استمر أوارها طيلة ثماني سنوات بين العراق وإيران دون أن تحرك الجامعة العربية ساكنا. وبرز العجز مرة أخرى، في حرب الخليج الثانية، حين جاءت الأساطيل الأجنبية من كل حدب لتحسم الصراع في مسألة عربية محضة، عجز العرب مجتمعين عن حلها.
وبالقدر الذي يعجز فيه العرب عن حل مشاكلهم، بالقدر الذي يتيحون فيه المجال للأجنبي للتسلل وفتح ثغرة في جبهتهم، ما تلبث أن تتوسع وتتمدد لتشكل عبثا بالمقدرات والثروات وتهديدا حقيقيا للأمة العربية بأسرها.
هكذا في ظل العجز العربي والسبات الطويل لجامعة الدول العربية بدأت مسيرة مدريد، وحوصر العراق، ووقعت اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وتنادى “مثقفون عرب” وإسرائيليون في كوبنهاجن للتوقيع على بيان منحوا لأنفسهم فيه حق التنازل عن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، كقربان لا بد من تقديمه من أجل السلام. وهدد الأمن في السودان، حيث خلقت مشكلة إثنية في جنوبه ومشكلة آخرى قبلية في غربه بدرافور، واستمرت الصراعات بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء.. وشل العجز العربي كل محاولة جدية للتنمية والبناء وتأمين الإستقرار.. مساهما في اغتيال العقل وتعطيل الوعي وحجب المشاركة الوطنية عن المساهمة في صناعة القرار، وتغييب دور المجتمع المدني، وهيمنة نهج الإستبداد في كثير من بقاعنا العربية.
وتوج العجز بوقوفنا جميعا متفرجين، بينما الزحف العاصف يتجه حثيثا نحو عاصمة العباسيين، ليتم احتلال العراق، بعد قصف وتدمير شمل الأخضر واليايس، وليسقط هذا البلد العربي كيانا وهوية، ويعتدى على إرثه وتاريخه.. ولتتساوى محاولات السطو على النفط بمحاولات السطو على التاريخ.. من كان سيصدق أن يتزامن السطو الأمريكي على النفط، بتفجير غادر من غدر على نصب تذكاري لأبي جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، باني مدينة السلام؟!
وأثناء كل ما حدث في الرمادي وتلعفر والقائم وسامراء وهيت وبلد من تدمير شامل للبيوت، وتشريد لمئات الألوف من الأهالي، لم نسمع صوتا، حتى وإن كان هامسا وخجولا من جامعة الدول العربية وأمينها العام، مستنكرا ما جرى ويجري من تدمير وتخريب، على يد قوات الإحتلال الغاشمة والقوى والميليشيات العميلة التي تعمل معها. لم يقم حتى تلك اللحظة وقد من الجامعة لزيارة أي من المقابر الجماعية التي صنعها الأمريكيون الذين بشرونا بالحرية والديمقراطية في عشرات المدن العراقية، ولم تذهب بعثة استقصاء واحدة لتطلع على حقيقة ما يجري على الأرض. ولعل مبرر الجامعة العربية أن الذهاب إلى بغداد يحتاج إلى تأشيرة دخول، وتأشيرة الدخول تحتاج إلى رسوم، وأنها بحكم التزامها بالثوابت القومية ليست على استعداد لدفع الرسوم المطلوبة، وذلك منطق مقبول على أية حال، وربما أمكن احتسابه إيجابيا كرصيد للجامعة ولأمينها العام.
لكننا في غمرة ارتفاع أنين وشكاوى الأمريكيين من عدم قدرتهم على التصدي لمقاومة الشعب العراقي، وتصريحات كثير من الضباط الأمريكيين من أن المقاومة تصعد من أدائها كما ونوعا. وانخفاض شعبية بوش التي بلغت 70% حسب آخر الإستطلاعات. وجدنا الجامعة تستيقظ من سباتها. وتتجه في شخص أمينها العام إلى العراق.
لا بأس إذن، ولا داعي للعتب طالما أن جامعة الدول العربية قد تنبهت لما كان مغيبا وبدأت فعلا بالإهتمام بموضوع العراق، وباشرت بالتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن السؤال الذي يقفز في الذهن بماشرة يتركز على “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”. ما هو هذا الشيء الذي تسعى جامعة الدول العربية، ممثلة في شخص أمينها العام السيد عمرو موسى لتحقيقه في العراق، الشيء الذي يمكن أن ينال ضوءا أخضر من قوى الإحتلال، والذي يستحق فعلا، من أجله وبناء عليه، منح وفد الجامعة تأشيرة الدخول الأمريكية إلى العراق..
ولا شك أن أي تحرك لاتتجه بوصلته نحو هدف التحرير والإستقلال سيخدم في نتائجه المشروع الأمريكي، وسوف يخفف من الإختناقات والضغوط والأزمات التي تعاني منها إدارة الرئيس بوش داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لم تعد سرا على أحد.
إن التحرك نحو التحرير ينبغي أن ينطلق من التسليم بمشروعية المقاومة العراقية، ومشروعية وحدانية تمثيلها للشعب العراقي، تماما كما هو الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية التي اعترف القادة العرب والعالم أجمع بوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
سنكون هنا مضطرين للعودة إلى بعض من البديهيات المستنبطة من حكم التاريخ… والتاريخ له قوانينه التي لا تخطئ في غالب الأحيان… طرفا المعادلة في الصراع المحتدم الآن فوق بلاد الرافدين هما المحتل من جهة وجبهة المقاومة للإحتلال من جهة أخرى. وأي عملية سياسية تستوجب، من أجل أن تكون ناجحة فعلا، أن يتواجد فيها الطرفان. أما البحث عن قوى رديفة للمحتل أو المقاوم، فإنه لا يتجه للتعامل مع المعضلة بشكل مباشر. وحين نقرر ذلك فإننا لا نأت بشيء جديد من عندياتنا. هكذا كان الحال مع معظم البلدان التي وقعت تحت هيمنة المحتل.. يتصدى لها الشعب المقاوم، وتكتسب الجهة التي تقود المقاومة مشروعية تمثيل الشعب، وتتفاوض مع المحتل باسمه ونيابة عنه.
وبموجب هذا القانون تفاوضت جبهة التحرير الوطنية الجزائرية مع الفرنسيين ووقعت معهم اتفاقية ايفيان التي اعترفت بالجزائر بلدا عربيا حرا مستقلا.. وتفاوض البريطانيون مع سعد زغلول كزعيم وطني للشعب المصري، يتصدى بقوة للإحتلال، وتفاوضوا أيضا مع الجبهة القومية في الجنوب اليمني. وفي فياتنام تفاوض الأمريكيون مع ثوار الفيتكونج. وفي كل مرحلة يرحل المحتل ترحل معه القوى التي تردفه. وبموجب هذا القانون رحلت حكومة فيشي عن فرنسا بعد انتصار الحلفاء على النازية، كما رحل فان ثيو من فياتنام ولون نول من كمبوديا. وتوج قادة حركات التحرير كقيادات شرعية للبلدان المحررة.
ضمن هذا القانون، لا يتوقع العرب، وفي مقدمتهم شعب العراق، من جامعة الدول العربية أن تعتبر من خانوا وطنهم مدخلا للتفاوض من أجل حرية واستقلال بلاد الرافدين، فإن أقدمت على ذلك، كما هو الحال فعلا، فإن ذلك ليس له معنى سوى أنها اقترفت سابقة خطيرة، وطعنت في الصميم آمال العراقيين والعرب جميعا في التحرر والإنعتاق وتقرير المصير. إن الذين يتآمرون على وطنهم ويأتون إلى بلادهم على ظهور دبابات المحتل، ويضربون بعرض الحائط كل القيم الإنسانية والدينية والدولية مصيرهم مزبلة التاريخ. وهم بالتأكيد غير جديرين بالتفاوض أو التوقيع باسم العراق، فضلا عن منحهم صلاحية اختيار من يحضر أو من يغيب عن مؤتمر مهمته مناقشة وتقرير حاضر العراق ومستقبله.
ليس مقبولا أبدا، من جامعة الدول العربية، استعارة المفاهيم الأمريكية عن الإرهاب. فالمقاومة ضد الإحتلال حق طبيعي كفلته شرائع السماء والأرض، وهي ليست إرهابا حتى وإن كان ثمنها تدمير المدن والبلدان العراقية على من فيها من المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال، حتى وإن أطبقت الطائرات والأساطيل ومختلف أسلحة التدمير الأمريكية على القيعان والسفوح. ولسوف يخرج الأبطال، في كل مرة، من بين ركام الأطلال، ليحيلوا الأرض جحيما تحت أقدام الغزاة.
إن الذي يبحث عن مخرج للأزمة عليه أن يتفاوض مع طرفي المعادلة: المحتل والقوى التي تتصدى باستبسال لمواجهته، وهي ليست موجودة في المنطقة الخضراء أو المدن المقدسة، وليست في شقلاوة والسليمانية أو أربيل.. كل الجولات إن لم تتجه مباشرة إلى أحد طرفي المعادلة ستضل بوصلتها ولن تصل إلى قرار.. فإذا غيبت أحد هذين الطرفين، فعلى من تراهن إذن؟!
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-11-09
2020-05–1 1-:04
عبدالحليم المجالي من الاردن
الدكتور الفاضل تحيه طيبه وبعد ، من اصعب مايعانى منه المواطن العربي تكوين رأى محددحول قضاياه , ومن الملاحظ انه يغير رأيه في الجلسة الواحده مرات ومرات ، من الامثلة على ذلك انك تتهم الجامعه بالتقصير ثم تعود لتبين انها عملت ماتشكر عليه وانت تعلم نظرة المواطن العربي الى الجامعة ومدى ثقته بها فاين تريد ان يقف ؟ مثال اخر انا مواطن اردني من الارياف وقد هز وجداني ما حصل في عمان واستنكره من باب زعزعة الامن وقتل الابرياء ولكنني اجد في نفسي ما يدعو الى التساؤل عن ظلم عمان للريف والباديه وانا ارى الامكانيات التى توضع فى عمان والاحوال المميزه لها الى درجة اننى لااستطيع المبيت فيها ليله او استئجار سكن للغلاء الفاحش كما واننى اتألم وانا ارى الفوارق الكبيره بين مواطن يسكن عمان واخر يسكن الريف . وفى الحالة العراقيه لااعتقد ان مواطنا عربيا يرضى بالاحتلال ولا يؤيد المقاومه ولكن الامر صعب فى اتخاذ رأى ونحن نرى اصحاب الشأن منقسمون فى ارائهم الى حد التناقض وفى هذه الحالة على من يحدد رأيه ان يتخذ موقفا من جهة دون اخرى ولهذا نرى السكوت والاعتزال سمة الغالبية الساحقه، وليت ان الجامغه العربيه تتنبه الى هذا الاشكال وتسارع الى وضع ضوابط ومرجعيات لكل الافكار المطروحه وتقوم بدور تشريعى اكثر منه سياسي يقرب ويوافق عسى ان نجد فى النهايه قاسما مشتركا فى التفكير . ولك ولاسرة التجديد خالص التقدير .
2020-05–1 2-:03
من
شكراً لكم