على طريق فتح آفاق الحوار حول الإصلاح السياسي

0 180

الحديث الماضي الذي نشر على صفحات هذا الموقع تحت عنوان “نحو إعلان ميثاق وطني” كان من أكثر المقالات التي حظيت بردود أفعال من قبل كثير من القراء. فقد وردت على البريد الإلكتروني مجموعة كبيرة من الرسائل، بعضها مشجع ومؤيد للدعوة إلى إستنهاض كل الطاقات والقوى الحية للمشاركة في حماية الوطن، وإعلان ميثاق وطني يمثل منهاج العمل في عملية الإستنهاض المطلوبة، ويوجه عملية الإصلاح السياسي الدستوري التي تشكل حاليا الهاجس الوطني الملح من قبل مختلف النخب الثقافية والقيادية في المجتمع السعودي. والبعض الآخر، كان ينتقد ويعترض، بدرجات مختلفة ولأسباب متباينة على هذه الدعوة. ولا يساورني الشك في أن دافع الجميع، ممن تكرموا بالردود مشجعين أو معارضين، هو الحرص على سلامة الوطن وأمنه ومستقبله.

 

ومن البديهي أن أبواب الحوار إذا ما فتحت على مصاريعها، فسوف تبرز ألوان وأطياف ورؤى ومواقف مختلفة، فتلك هي سنة الحياة، وهي في الأخير تعبير عن وضع صحي ومطلوب، لا غبار عليه إذا ما تم التعامل معه بصيغة القبول والتفاعل والإنتماء إلى الوطن الواحد، وليس بالمواجهة والتضاد والتصادم.. والمؤكد أن المواجهة والتضاد والتصادم تؤديء إلى القطيعة والتكلس والجمود، أما عندما يتحقق التفاعل والحراك الفكري البناء والهادف، فإن الكل يكسب من نتائجه مواقف ورؤى جديدة، تشكل الطريحة، التي هي المستوى الأعلى الناتج عن أي حوار وتفاعل موضوعي ونقدي بناء.

 

وعلى هذا الأساس، ومن منطلق فتح آفاق الحوار، فإنني أسمح لنفسي بتناول ومناقشة بعض الآراء التي وردت بتلك الرسائل، معترضة على ما جاء في مقالة الأسبوع الماضي.

 

لقد تركزت الردود المعترضة على مجموعة من المحاور، بضمنها أن قيم الإصلاح والنماذج المطروحة لتحقيقه، هي قوالب مستوردة وغريبة على مجتمعنا ومعتقداته وعاداته وتاريخه. وأن برنامج الإصلاح إذا لم يتحقق، من خلال المرتكزات الوطنية والثوابت الذاتية وبشكل تدرجي وبطيء ومتحسب، فإن من شأن ذلك أن يحدث زلزالا اجتماعيا في كيان الأمة، ليست البلاد مستعدة له في هذه اللحظة التاريخية من حياتها. وأن مجتمع الجزيرة العربية، بشكل عام، يتكون من قبائل وعشائر وطوائف، بما يعني أن علينا أن نضع في الإعتبار أن الإنتقال بالمجتمع إلى الحالة الدستورية والمدنية، وتأسيس نظام يقوم على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية، ربما يزعزع وحدته. وتمضي بعض الرسائل إلى القول بأن مشروع الإصلاح السياسي قد تأخر تحقيقه لأسباب موضوعية، يأتي في مقدمتها الخشية من الإنفلات، وحدوث خلل في البنيان الإجتماعي الذي يتكأ عليه هيكل الدولة. وتطالب بعض الرسائل ببقاء الوضع على ما هو عليه انطلاقا من التسليم بالقول الشعبي بأن شيئا تعرفه خير من آخر تجهله.

 

والواقع فإن معظم ما ورد في تلك الرسائل، قد سبق وأن قيل على ألسنة كثيرة من مسؤولين ومفكرين، وكتب في مقالات عديدة، وطرح في ندوات إذاعية وتلفزيونية وصحفية، ليس في بلادنا وحدها ولكن في معظم بلدان العالم الثالث التي تعيش مخاضا جديدا وولادة عسيرة، أو تلك التي تعيش مجتمعاتها حراكا واسعا لم تتبلور بعد أبعاده ونتائجه بعد، رغم وضوح جنوحه نحو التقدم والتطوير، والواضح أن الجامع المشترك بين دعاة الحجج التي تحرض على بقاء الأوضاع على ما هي عليه أنها في معظمها تنطلق من “باب سد الذرائع”، ومن نهج وفكر محافظ حكمته المأثورة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”.

 

فالقول، على سبيل المثال، بغرابة قيم الإصلاح عن أوضاعنا، وبأن معتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا ترفض فكرة الإصلاح، هو ادعاء ترفضه السيرورة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية، منذ انبثاق الدعوة للدين الحنيف. وهو إضافة إلى ذلك، يجعل منا كائنات غريبة ومنفرة، تعيش خارج التاريخ وخارج العصر، وهو اتهام يحمل نظرة دونية لمجتمعنا بأسره، حين يجعل منا بشرا ساكنين، وعصيين على التطور والتغيير. وهو على كل حال، قول يفتقر إلى الدليل والبرهان، وتدحضه الوقائع التاريخية والموضوعية أيضا.

 

فإذا استثنينا المطلقات من معتقدات وأديان، فإن ما عداها من العادات والتقاليد هو شأن غير ثابت وخاضع باستمرار لنواميس الكون وقوانين التطور والتغيير. وقد حدثت في مجتمعاتنا تغيرات وتبدلات هائلة في مختلف نواحي الحياة.. فتحت المدارس والجامعات والمستشفيات، وتخرج طلابنا من المدارس وأبدعوا في المجالات التي تخصصوا بها. بدأنا قبل نصف قرن مرحلة الدخول إلى العصر الجديد واستقدمنا الكفاءات من الأقطار العربية المجاورة للعمل في مختلف الحقول، وتكون جيل جديد، استطاع أن يأخذ مكانه وأن يعوض عن نقص الكفاءات، حيث جرى توطين الوظائف في مراحل التعليم الإبتدائي والمتوسط والثانوي، وأصبحت البلاد تعج بعشرات الألوف من الخريجين.. واستلم رجالنا ونساؤنا مهام العمل في المستشفيات والمصارف والدوائر الحكومية، وتعاملنا مع أحدث التقنيات، ودخلت أجهزة الحاسب الآلي كل بيت. ولم تقف الأعراف ولا التقاليد أو العادات حائلا دون ولوجنا في هذا العصر والإنفتاح على سماته واختراعاته وإنجازاته، بل إننا نستطيع القول، دون وجل، بأن كثيرا من تلك العادات والتقاليد والأعراف قد تراجعت مفسحة المجال لحركة التاريخ كي تأخذ مكانها المحتم. فلماذا فقط حين يتعلق الأمر بقضية الإصلاح السياسي، وتأسيس المجتمع المدني، وتحقيق قدر أكبر من المشاركة الشعبية في صنع القرار، تصبح العادات والأعراف والتقاليد معوقات في طريقه. ليس لذلك معنى واحدا، سوى إصرار البعض منا على أن يكونوا على هامش العصر وخارج التحولات التي تعصف بالكون في كل ناحية من نواحي الحياة.

 

وحتى حين نأتي للمعتقدات الدينية، فإننا نكاد أن نجادل بأن ديننا الإسلامي الحنيف يأتي في مقدمة الأديان والعقائد التي شجعت على الإبداع، واعتبرت العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى ولو كان في الصين، وأطلقت نداء الحرية، حين جعلت من الإنسان كائنا حرا ومسؤولا عن أفعاله. أوليست الجنة والنار والعقوبة والثواب هي التجسيد الفعلي لمسؤولية الإنسان عما يقوم به من أعمال؟.

 

كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو المتلقى للوحي من الجليل سبحانه وتعالى، المعلم الأول في ممارسة المشاركة في شؤون الحكم، فقد علمنا، في بيعة العقبة الثانية مفهوم العقد الإجتماعي، حين وقع اتفاقا مع أنصار المدينة حدد فيه شكل العلاقة المستقبلية بينه وبين الأنصار، تضمن واجبات الجميع وحقوقهم، في أول صياغة دستورية عالمية دشنت في أم القرى، وفي مدينة يثرب، أسس نظاما عمليا للمشاركة السياسية، وعود أصحابه رضوان الله عليهم على المشاركة برأيهم، وبما يخالف رأيه في بعض الأحيان، في قضايا خطيرة كقضايا السلم والحرب. ولدينا في التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك.

 

ففي بدر استمع الرسول لأحد أصحابه وهو يسأله إن كان الموقع الذي اختاره قد اتخذه بأمر إلهي أمه أنه الحرب والخديعة، فيجيبه الرسول بل إنه الحرب والخديعة، فيشير عليه الصحابي بما يخالف رأيه، مقترحا أن تكون بثر بدر خلف الجند من المسلمين لا أمامهم. وكانت الحكمة في ذلك أن يتمكن المسلمون من شرب الماء متى ما نال منهم العطش، ولا يتمكن جيش قريش من ذلك. وأمن الرسول على الرأي ووافق عليه، وكان انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى أحد الشواهد المضيئة في تاريخيا التليد. وحدث مثل ذلك في موقعة الأحزاب، حين أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي، رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم بحفر خندق يفصل بين المسلمين الكفار. واستمع الرسول للرأي ووافق عليه، فكانت هزيمة أخرى للمشركين، وانتصارا للإسلام.

 

وتوفي الرسول الأعظم، وخلفه أبو بكر الصديق، خليل الصادق الأمين، وكانت أول خطبة له طلب النصيحة وتقويم الاعوجاج، فيأتيه الجواب: “والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا”. أما الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، فحادثته مع ابن الأكرمين حين استقدم ابن واليه في مصر عمرو بن العاص إلى المدينة المنورة، معروفة في التاريخ، ولا زال نداؤه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” صرخة مدوية تقض مضاجع الطغاة والمستبدين. وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان” ذو النورين، وقف مالك الأشتر أمام الحكم بن العاص قائلا: “أتجعل ما أفاء الله علينا بحد سيوفنا ورؤوس رماحنا بستانا لك ولقومك”. وكانت صرخة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري في الشام أمام قصر معاوية ابن أبي سفيان المعروف بالخضراء، واستنكاره لتكديس الذهب للعبث بمال المسلمين، من العلامات البارزة في شجاعة وإباء بعض الصحابة الأجلاء. وهي صرخة لا يزال صداها قويا ومدويا حتى يومنا هذا.

 

كل ذلك حصل في المراحل الأولى لانبثاق الدعوة الإسلامية، وكان انتقال السلطة إلى الخلفاء الراشدين، من الأول إلى الثاني، بالكتاب المختوم، ومن الثاني إلى الثالث، بطريقة الشورى والإنتخاب الخاص، إلى الرابع بطريقة انتخاب الجمهور ودرأ الفتنة، وبالنماذج المختلفة التي تم فيها ذلك الإنتقال، تعبيرا على سيادة مفهوم الإجتهاد، واعتراف بطبيعة وحساسية الظروف التي مرت بها الدولة الناشئة، وهو في ذات الوقت رفض واضح للتكلس والسكون، وتعامل موضوعي، حر وواع مع جملة المتغيرات التي كانت تجري حول الصحابة.

 

وأخيرا فليست النماذج التي أشير لها دروسا في التاريخ، ولكنها دروسا منه، والفرق بين كليهما كبير وواضح، لأن من التاريخ تستلهم المحفزات والعبر، فعسى أن نتعلم من هذه الدروس. ويبقى أن نناقش بقية المحاور في أحاديث قادمة بإذن الله.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-11-04

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة + 14 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي