على أعتاب انبثاق نظام دولي جديد

14
في مطالع العقد المنصرم، نشرنا عدة مقالات، ناقشنا فيها حتمية انبثاق نظام دولي جديد، وأوضحنا أن مخاض ولادة هذا النظام ستكون عسيرة جدا. ومرد صعوبة هذا المخاض أنه مختلف عن البيئة التي تشكل فيها النظامان الدوليان اللذان أخذا مكانهما في القرن الماضي. فالحرب العالمية الأولى والثانية، اللتان هيئت نتائجهما لانبثاق النظامين الدوليين آنفي الذكر، استخدمت فيهما أسلحة تقليدية، ورغم الخسائر البشرية التي صاحبتهما، لكنهما لم يشكلا تهديدا حقيقيا بفناء الجنس البشري. أما بعد اكتشاف سلاح الرعب النووي، فإن نشوء حرب عالمية ثالثة، ستعني فناء محتما للبشرية جمعاء.
البديل، عن شن حرب عالمية ثالثة، تحمل مخاطر إبادة الجنس البشري هو شن حروب الوكالة، حيث ينخرط أحد أقطاب الدول الكبرى فيها بشكل مباشر، بينما يكتفى الغرماء بتقديم الدعم العسكري. وقد حدث ذلك عدة مرات في الحروب التي جرت بآسيا وأفريقيا بشكل مباشر، كما في الهند الصينية والأزمة الكورية، والصراع بحوض البحر الأببض المتوسط، وفي أوروبا وأمريكا اللاتينية، بأشكال غير مباشرة.
ولن يكون منطقيا، اعتبار حالة الانفلات التي سادت معظم أرجاء العالم، وبروز منظمات الإرهاب التي اتخذت من المنطقة العربية مركز الثقل في نشاطاتها، خارج هذا السياق.
الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأكرانيا، هي من حيث الشكل استمرار لحروب الوكالة، التي أشرنا لها، حيث تلعب روسيا دور الفاعل الرئيسي بالحرب، في حين يقف الغرب كله داعما لأوكرانيا، ومانعا في الوقت الراهن، من إلحاق الهزيمة بقواتها، وموفرا لها كافة سبل الاستمرارية في المواجهة العسكرية. لكن ما يميز هذه الحرب عن سابقاتها من حروب الوكالة التي شنت بعد الحرب العالمية الثانية، أن جميع المنضوين فيها يقرون، بأن ما بعدها لن يكون كما قبلها، من حيث شكل وطبيعة النظام الدولي الذي سوف ينبثق عن نتائجها.
يتفق في ذلك الرئيس الروسي بوتين، ونظيره الأمريكي، ويشاركهما في هذه القناعة الصين وقادة أوروبا. وحتى قادة أوكرانيا، يدركون ذلك، ويتصرفون وفقا لوعيهم بحقيقة دور الحرب التي يخوضونها في التسريع أو تأجيل انبثاق النظام الدولي الجديد. ولعل الأبرز بين التصريحات الأوكرانية التي تشير إلى ذلك، تصريح وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، في مقابلة مع قناة “1 + 1” التلفزيونية، حيث أشار بوضوح إلى أن الجنود الأوكرانيين ينفذون مهمة حلف “الناتو”، ويشاركون في الصراع ضد روسيا بدلا منه. “إننا ننفذ مهمة حلف الناتو اليوم.. إنهم لا يريقون دماءهم بل نحن نسكب دماءنا ولذا فهم مطالبون بتزويدنا بالسلاح.” إن أوكرانيا، من وجهة نظر ريزنيكوف هي الدرع الحقيقي الذي يحمي العالم المتحضر، والغرب بأكمله. ولذلك فإن من الطبيعي أن تعيش كييف في هذا المنعطف، على حساب الموارد الغربية، كونها تنوب بمفردها عن جبهة الحضارة، وفقا لتعبيره.
بيئة الحرب الروسية على أوكرانيا، خلفت أوضاعا اقتصادية مشابهة للأوضاع التي مر بها العالم، في نهاية العقد الأول من القرن الماضي، والتي أوقعت العالم في أزمات كساد حادة، أودت بحياة ملايين البشر، الذين ماتوا نتيجة تضورهم بالجوع والفقر. وهي أيضا مشابهة لأزمة الكساد الحادة الأولى، التي بدأت منذ عام 1928م، وكان من نتائجها اشتعال الحرب العالمية الثانية. بما يعني أن الحرب التي تدور رحاها على الساحة الأوكرانية، لن تكون خاتمة المطاف. والأمر لا يحتاج إلى وقفات تحليلة مطولة، فكل كساد يمر به العالم، هو بوابة حروب جديدة. ولن يكون هناك احتمال لانبثاق نظام دولي جديد من غير حروب.
في سياق ما هو متوقع من شيوع حالة كساد عالمية، نكتفي بتصريح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسبق، آلان غرينسبان، بأن الاقتصاد الأمريكي سيشهد ركودا في العام الجاري، نتيجة لخطوات رفع الفائدة من قبل الفيدرالي الأميركي في المرحلة الحالية. وكان صندوق النقد الدولي، قد خفض في أكتوبر الماضي توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي لعام 2023، ما يعكس استمرار التداعيات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا.
ستكون سياسة بروز المحاور، وانشطار العالم، إلى معسكر شرقي يضم الصين وروسيا والهند، وآخر غربي، يضم الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، من بديهات إعداد المسرح لانبثاق النظام الدولي الجديد، وما قبل انبثاقه، ستكون حروب ضارية تستخدم فيها أحدث ما في الخزائن من مختلف أنواع الأسلحة، وسباق تسلح وفقر ومجاعات، لا أول لها ولا آخر. وعلى أمل أن يدرك الغرماء أن لا بديل عن العودة إلى طاولة المفاوضات وتحقيق السلام، وفقا للاعتراف بحقائق القوة الجديدة.
د. يوسف مكي

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي