عدالة أم غطرسة قوة؟!
لم يكن مفاجئا للكثير من المتابعين لتطورات الأحداث بالسودان الشقيق، جنوبه وغربه، مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الأرجنتيني الجنسية، لويس مورينو أوكامبو بإصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس السوداني، عمر البشير. فقد جاءت هذه المطالبة بعد رفض الرئيس البشير تسليم عدد من المسؤولين السودانيين لهذه المحكمة للتحقيق معهم بتهم الضلوع في جرائم إبادة ضد الإنسانية. كما لم يكن مفاجئا أيضا حجم رد الفعل العربي الرسمي، ممثلا في توصيات اجتماع وزراء الخارجية العرب، بالعمل على تأجيل صدور هذه المذكرة لعام آخر، واعتماد الطرق الدبلوماسية في معالجة الموقف. فالزعماء العرب، قبل غيرهم، يعلمون أن هذه المحاكمة، سياسية بجدارة، وليست جنائية كما يحمل عنوانها، وأنها تستمد قوتها من مشروع كوني عملت الإدارة الأمريكية على تحقيقه، منذ تربعت على عرش الهيمنة الدولية، في بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم.
وكانت التعابير عن هذه الهيمنة قد فرضت نفسها، في سلوكيات غير مسبوقة، في مجلس الأمن الدولي، وأروقة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، حكومية وغير حكومية. وقد بدت تلك السلوكيات عنيفة ومتوحشة استغلت حالة الفراغ الذي تسبب فيه غياب القطب الآخر، فراحت تضرب يمنة ويسرة، ترسل الجيوش إلى رواندا ومنطقة الخليج العربي، وتدمر العراق، وتمارس مع حلفائها الأوروبيين تقسيما لأوصال يوغوسلافيا، وتحتل أفغانستان والعراق، وتقوم بتحفيز النزعات القومية والإثنية والطائفية في عدد كبير من أركان المعمورة، تحت ذريعة نصرة حقوق الإنسان. ليس ذلك فحسب، فلولا الدعم الأمريكي، لم يكن بمقدور الحكومات الصهيونية المتعاقبة، متابعة دورها في قتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم، وفرض الحصار عليهم، وبناء المعازل وإغلاق المعابر، وتشييد المزيد من المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، في الضفة والقطاع. إضافة إلى ممارسة نهج مغرق في عنصريته ولا إنسانيته بحق الفلسطينيين الصامدين في الأراضي التي تم احتلالها عام 1948، والذين أصبحت هويتهم مرتبطة بنكبة فلسطين “عرب 48”.
وكانت جملة تلك السياسات قد شكلت خروجا على القوانين والأعراف الدولية التي بشرت بها مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون الأربعة عشر، والتي اعتبرت الاستعمار عملا غير أخلاقي، وطالبت بحق تقرير المصير للشعوب التي ما زالت ترزح تحت الاحتلال. وتبنت ذلك لاحقا، عصبة الأمم. وبعد الحرب العالمية الثانية، أكد ميثاق الأمم المتحدة على أن المنظمة الدولية الفتية قد تشكلت للإسهام في حماية الأمن والسلام العالمي، وأنها ليست أداة عسكرية. وفي كل الحروب التي تدخلت فيها قوات من الأمم المتحدة، كانت ترسل قوات سلام، مهمتها ليس المشاركة في الحرب، بل ضمان سلامة المدنيين، والفصل بين القوات المتحاربة. وكانت قبعات أفرادها الزرقاء، تقدم بعض الأمان للخائفين. وجاءت حروب التحرير الوطنية وإنجاز معظم بلدان العالم لاستقلالها السياسي، لتؤكد سلامة المنهج وصحة المبادئ التي عبر عنها ميثاق الأمم المتحدة، والتي أصبحت من ملحقات القوانين والأعراف الدولية.
أصبحت تلك الصور الزاهية شيئا من الماضي، ونصب الجلاد من نفسه قاضيا، إليه وحده يرجع الفضل في تعطيل المبادئ والمعاهدات والأعراف والمواثيق الدولية. بل إن تعيين الأمين العام للأمم المتحدة أصبح منوطا به. وغدا استمرار الموظفين في الهيئة العالمية منوطا بالرضى الأمريكي عنهم.
بل لقد أصبح استمرار رؤساء العالم وقادتهم في مواقعهم مرهونا أيضا بالاستمرار في بيت الطاعة. ومن له اعتراض على ذلك فليراجع قدرته العقلية.. وليتذكر اسم الأمين العام السابق، بطرس غالي، والرئيس العراقي صدام حسين. فقد الأول وظيفته لمجرد استنكاره لهجوم الصهاينة على مركز الأمم المتحدة في قانا، بينما تم احتلال بلد الآخر، وأصبح الرجل، الذي كان يحمل رتبة رئيس دولة وقائدا للجيش، أسير حرب، وجرى اغتياله في محاكمة افتقرت لكل أصول العدالة، من حيث كونها نشأت في ظل الاحتلال، بما يفقدها استقلالها، وكانت في أدائها صورية وانتقامية، حرم المتهمون فيها من كافة حقوقهم القانونية والإنسانية، بما في ذلك حق الدفاع، وتفنيد التهم الموجهة لهم.
وكانت تكاليف العربدة الأمريكية خلال ربع القرن الذي مضى، ضحايا بلغت الملايين من القتلى والجرحي، وجرائم إبادة لا تحصى، ضد الإنسانية، وأرقاما فلكية من ثروات البلدان المستهدفة، نهبت دون محاسبة أو مساءلة. ومع ذلك لم يرتفع إصبع واحد يطالب بمحاكمة الرئيس بوش كمجرم حرب ضد الإنسانية. ولعل الاحتجاجات والاعتراضات القليلة على تلك السياسات قد جاءت من خارج محيط الضحايا، وبلغة لا تتماهى مع حجم الكوارث الإنسانية والدمار وحالات الفقر التي تسببت فيها تلك السياسات.
لقد جاء الاتهام لجورج بوش من قلب الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبل سلطتها التشريعية بالذات، وكانت التهم الموجهة للرئيس أكبر وأخطر، بكثير من تلك التهم التي وجهت للرئيس البشير. ففي 16 يونيو الماضي، عرض عضو الكونجرس الأمريكي، السيناتور دينيس كوسينيتش، المرشح السابق للرئاسة الأمريكية مشروع قرار من 35 مادة يطالب فيه بتقديم الرئيس الأمريكي جورج بوش للمحاكمة أمام الكونجرس. ومن بين التهم التي تضمنتها العريضة، قيام الرئيس بوش بخلق حملة دعاية سريّة لتدبير قضية كاذبة من أجل شن الحرب على العراق. وربطه هجمات 11 سبتمبر عام 2001 بالعراق كذباً وبنيّة إجرامية واعتبار العراق تهديداً أمنياً خطيرا كجزء من الذرائع الكاذبة لتبرير الحرب العدوانية على العراق. كما اتهمت العريضة، الرئيس بوش بتضليل الشعب الأمريكي وأعضاء الكونجرس لحملهم على الاقتناع بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل لجعل الحرب مبررة ضد العراق، واتهمت بوش بأن غزوه للعراق هو انتهاك فاضح لمشروع قرار رقم 114 الصادر عن الكونجرس وبدون إعلان حالة حرب، وأنه بغزوه لدولة مستقلة ذات سيادة قام بانتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة، وأنه قدم الحصانة من العقوبات القانونية للمجرمين من المتعاقدين الأمنيين في العراق.
في هذا السياق، وعودة إلى المذكرة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس البشير، تبدو المقاربة بين الرئيسين بوش والبشير غير متكافئة وغير متوازنة، لكن العدالة الدولية تستثني بوش وبلير وأولمرت، من لوائح متهميها، لتثبت أنها محكمة غير نزيهة، وأن “عدالتها” مزيفة ومتحيزة. ويغدو ذلك التحيز أشد وضوحا حين نعلم أن رئيس المحكمة الجنائية الدولية قد تصرف فيما ليس لمحكمته صلاحية فيه، حيث ينص القانون الذي أنشئت به هذه المحكمة على عدم ولايتها على من يرفض التوقيع على قرار المشاركة فيها. ويقف عجز هذه المحكمة أمام الإدارات الأمريكية المتعاقبة، دليلا واضحا على صحة استنتاجنا، حيث لم تتمكن هذه المحكمة، حتى هذه اللحظة، من استدعاء أو توقيف أي جندي أو مسؤول أمريكي ارتكب جرائم حرب، مع علمها بكثرة الجرائم الأمريكية وتنوعها.
وحتى في الحالات التي تصدر فيها قرارات من محاكم دولية لصالح العرب، يغض الطرف عنها، وتحفظ في الملفات، ثم ما تلبث أن يلفها النسيان. فقد صدر، على سبيل المثال لا الحصر، قرار عن محكمة العدل الدولية في لاهاي برفض بناء جدار الفصل العنصري، الذي أقرته الحكومة الإسرائيلية، والذي أقيم بالضفة الغربية. وقضت المحكمة بإزالة ما تم بناؤه منه، وبقي الحكم معلقا دون تنفيذ حتى يومنا هذا، برغم أن هذه المحكمة أعلى سقفا وهيبة من محكمة الجنايات الدولية كونها أعلى منبر قضائي كوني يتصل بالعدل.
بالتأكيد لا أحد يتصور إمكانية فرض قرار على الكيان الصهيوني، من أي منظمة دولية، بما في ذلك مجلس الأمن فسيف الفيتو سيكون مسلطا على كل من يعترض على التحيز الأمريكي للكيان العبري. ولا أحد يرغب في مواجهة الغول أو الخروج على طاعته.
بالنسبة للنظام العربي الرسمي، فرغم الترحيب بالموقف النبيل الذي حرض على اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة، وخروجهم بمبادرة لحل الأزمة، لم تعلن تفاصيلها بعد، فإن سياق الأحداث، فيما مضى لا تجعلنا نتفاءل كثيرا بتلك الجهود. فالعرب، للأسف لم ينتصروا لرئيس، اعتقل وأهين، واغتيل بعد محاكمة هزلية، ولم يحركوا ساكناً، باستثناءات نادرة، عندما قطع الصهاينة الدواء والغذاء والوقود عن مليون ونصف المليون عربي في قطاع غزة. وقد وقفوا عاجزين عن إسناد الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، الذي رفض كل الضغوط للتنازل عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة، وقدم نفسه فداء لها.
ليس أمام الحكومة السودانية سوى التعويل على شعبها، وترميم لحمتها الداخلية. وتعميق روح المواطنة، والزج بكل طاقاتها في معركة المواجهة والبناء، والمزيد من الإصلاح وتعميق المسيرة الديموقراطية، أو السقوط في حبائل “العدالة”، وغطرسة القوة.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة ع.ن.خ)
أصلا قضية دارفور من صنع أمريكا وبدل أن كان أهالي دارفور يعانون الجفاف وتبعاته صاروا يعانون التغول السياسي النابع من الأطماع الاميريكية ولكن كما يقال … رمتني بدائها وأنسلت!!!
* تعليق #2 (ارسل بواسطة عمر شربينى)
سيدى كتابة الثلا ثة سطور الأخيرة من مقالك بصيغة الجمع هو الداء الناجع الذى نحن فى حاجة اليه لمعالجة جميع أمراضنا وبدن هذا فاالدول العربية لا تملك المناعةونحن كشعوب ليس لدينا الرغبة فى اكتسابهالصدالأمراض التى تأتى من الغرب والشاهدهوالطوابير من الشعوب والمسئلين أمام السفارات لكى تدخل هذه الدول المسببه لك الصداع المصطنع