عبدالله عمران: الممارسة قاطرة الفكر
بخلاف الكثير، ممن سطروا كلمات حزينة، في رثاء فقيدنا العزيز أبو خالد، لم يتسن لي شخصيا، اللقاء به، والتعرف عليه عن قرب. لكن سيرته العطرة، وعطاءاته ومآثره الوطنية والقومية، وتلاحم العقل والعاطفة في سلوكه، لم تكن تجعل المرء بحاجة إلى عناء، لكي يشعر بمدى اقترابه منه.
في شخصية راحلنا الكبير، يصعب الفصل بين الذاتي والموضوعي، فهو يمارس في حياته العملية ما يعتقده ويؤمن به، وما يمثل في وجدانه ووجدان أقرانه ومجايليه، الحلم الأكبر، حلم النهضة العربية، والتنمية والعدالة، وحماية الأمن القومي العربي والوحدة. هذه الأهداف بالنسبة لإبي خالد، ليست ترفا فكريا، بل التزاما، جسده عملا واحترافا، طبع مسيرة حياته.
فهو الوطني الغيور، حين يكون وزيرا، يلتحم المعنى بالممارسة، من خلال الإتقان والتفاني والعمل الدؤوب، ونكران الذات. وهو الرجل الغيور، الذي أسهم، بشهادة الجميع، في تحقيق الوحدة، وبناء دولة الإمارات، باعتبار أن بناء الوطن، خطوة راسخة، على طريق الحلم الكبير، حلم الأمة العربية الواحدة.
وكان التماهي في الحلم والفكر والممارسة بين راحلنا الكبير، عبدالله وشقيقه المرحوم تريم، وسكون القضية الفلسطينية وهدف الوحدة العربية في أعماقهما، قد قادهما، منذ بداية السبعينيات، إلى تأسيس صحيفة الخليج، المنبر العروبي المتميز والملتزم، الذي قدم مع الأيام، زادا وفيرا، لكل المؤمنين بقدر هذه الأمة، وحقها في النهوض، وأخذها المكان اللائق بها بين الأمم.
ولم يكن قرار تأسيس الصحيفة، سهلا. فقد جاء ذلك في مواجهة التيار، حيث تزامن مع انهيارات كبرى، في بنيان الأمة، وأيضا في تغير مفاهيم سكنت في اليقين العربي، عدة عقود، حول الوحدة العربية وتحرير فلسطين. وكان قدر الأخوين، عمران أن يواجها، مع بداية مشروعهما طوفانا جارفا، لا يستطيع مواجهته سوى الرجال الكبار.
فقد بدأت الصحيفة بالصدور، في أكتوبر 1970، بعد حوالي 20 يوما من رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، الزعيم الذي قاد المعارك الوطنية، والذي عرف بقيادته للنضال التحرري والقومي. وأقل من ثلاث سنوات على معركة العبور العظيم في أكتوبر 1973.
وكانت مرحلة صراع إرادات، بين مشروع يسعى لتحقيق الاستقلال، ويرفض التبعية، ويؤمن أن طريق نهوض الأمة، لا يمكن أن يكون في إطار آخر، غير إطار وحدتها، ويرى تلازما لا ينفصل، بين مشروع النهضة، وتحرير فلسطين، وبين مشروع آخر، لا يرى في الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأرض العربية، سوى نزاع على حدود، يمكن حله، عن طريق المفاوضات والاعتراف المتبادل، بين المغتصب والضحية.
كان الراحل أبو خالد، وشقيقه، متمسكان بمبادئهما، ووضعهما في ذلك، في ظل تلك الظروف، أشبه بالقابض على جمر. لم تثن من عزيمتهما وتصميمها على الرحلة الطويلة، رحلة بناء هذا الصرح الثقافي الكبير، جملة التداعيات التي مرت بها الأمة، بعد حرب أكتوبر، ولا الانتقال الرئيسي في الاستراتيجيات والسياسات العربية، تجاه الصراع العربي- الصهيوني، ومفاهيم الاستقلال والحرية، والموقف من التبعية.
كشهاب مضيء، وكما حضوره المليء بالكبرياء والعنفوان والحركة، غادرنا أبو خالد، إلى الرفيق الأعلى، بعد أن ترك لنا زادا كبيرا، وواحة حانية نستظل بظل أغصانها الوارفة. فقيمة صحيفة الخليج، لا تكمن فقط في قيمة المقالات والدراسات والمواد العلمية، التي تتصدر صفحاتها، وهي كبيرة، ولكن أيضا، في كونها ملتقى للمفكرين والمثقفين والكتاب العرب، من معظم الأقطار العربية.
لقد حقق الراحلان الكبيران تريم وعبدالله، جزءً من حلمهما الجميل، في الوحدة العربية، حين جعلا من الخليج، أمة مصغرة، ترفع فيها رايات العرب، في العزة والكرامة. أصبحت الخليج مأوى يلجأ له عشاق الكلمة، والمؤمنون بقدر أمتهم، وبحقها في التقدم والازدهار.
وكانت الصحيفة أيضا، المكان المناسب، لتمثل واع ومسؤول لمفهوم الحرية. فالحرية التي أرادها الأستاذ عبدالله لشعبه ولأمته، لم يكن لها أن تجد مكان في تلك الظروف الحالكة من تاريخ الأمة، سوى صفحات محبوبته ومدللته، صحيفة الخليج.
ولأن الأهداف النبيلة، لا يمكن أن تكون وسائل تحقيقها إلا متماهية مع جوهرها، فقد اختارت صحيفة الخليج، تحت إدارة الراحل الغالي، طريقا صعبا وغير مألوف في الصحافة العربية، طريق الانحياز للوعي. وكهذا طريق، شروط السير فيه، الوعي والإرادة والقدرة، والأمانة والصدق والإحساس بالمسؤولية. وفي مجال الصحافة، تختزل مفردة القدرة على الالتزام بالحقيقة، جميع هذه الصفات.
لقد تواصلت الرحلة، بقيادة أبو خالد لأكثر من أربعة عقود، استوعبت خلالها المئات، إن لم يكن الآلاف من الكتاب، وبقيت محتفظة بهويتها، طيلة هذه العقود، الأمانة والالتزام، والتعبير عن ضمير وتطلعات هذه الأمة. وكان الأداء المميز لهذه التجربة العملاقة، هو دليل أكيد على أن النجاح ليس شرطه الخضوع لقانون المنفعة، وأن الفكر يغدو عدميا، إن لم تكن قاطرته الممارسة، كما علمتنا تجربة وسيرة راحلنا الكبير.
رحم الله فقيدنا الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.