عبدالحميد المهري: المناضل الباسل والمفكر الرصين
هناك أفراد نلتقي بهم، في مسيرة حياتنا ثم نغادرهم من غير أن يتركوا في ذاكرتنا شيئا يستحق الذكر. وهؤلاء هم الغالبية من الناس. وهناك قلة من الناس تلتقي بهم، ومن أول وهلة تشعر بقوة حضورهم، وكلما تعددت لقاءاتك بهم شعرت بالاقتراب منهم أكثر فأكثر، وهؤلاء يمثلون القلة القليلة بين الناس.
المناضل الجزائري، الأستاذ عبدالحميد المهري، هو واحد من هذه القلة، التي تتميز بقوة الحضور ووالأريحية والتواضع ورحابة الصدر، والالتزام الأخلاقي والنبل الإنساني. وفوق هذه الصفات جميعا، فإنه مجاهد بارز، ساهم في قيادة النضال الوطني الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. وقد عرفه زملاؤه في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وكما وصفه بيان النعي الذي أصدره المؤتمر القومي العربي، بأنه القائد والسياسي والحكيم، والنقي، وصاحب الخصال الجميلة.
تعرفت على القائد الراحل، والصديق المهري قبل أكثر من عقد من الزمن، حين عقد المؤتمر القومي العربي دورته عام 2001 في المنامة بالبحرين. ومنذ عقد المؤتمر دورته في صنعاء باليمن عام 2003م، وانتخابي عضوا في الأمانة العامة للمؤتمر أصبحت لقاءاتي به متكررة، حتى رحيله، حيث كان بحكم كونه أمينا عاما سابقا للمؤتمر يحضر باستمرار اجتماعات الأمانة العامة للمؤتمر القومي، كعضو دائم بها. وخلال هذه اللقاءات تعززت قناعتي بخصال الفقيد وفضائله. ووجدت فيه الأخ الكبير والصديق العزيز، المتفاني في الدفاع عن قضايا أمته، وحقها في الكرامة والتطور والنماء.
ولد الراحل الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري في 3 نيسان/ أبريل عام 1926 بقرية الخروب التابعة لمدينة قسطنطينة عاصمة الشرق الجزائري. ونما وترعرع في وادي الزناتي، حيث دخل مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، حفظ فيها الكتاب الكريم، وتلقى أوائل دروسه.
وفي هذا المناخ، أدرك الراحل مخاطر المحاولات الفرنسية الحثيثة لتذويب الهوية الدينية والوطنية والقومية لشعب الجزائر. وأدرك أن الرفض السلبي للسلوك الفرنسي ستكون من نتائجه فقدان الجزائر لعروبتها ولهويتها الإسلامية، وأن الرفض الحقيقي للسياسة الفرنسية، لن يكون مجديا إلا برفع راية الكفاح عاليا في وجه هذه السياسة، والمطالبة بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير. ولم يتردد أن يكون في مقدمة قافلة المناضلين من أجل تحقيق هذه المطالب الوطنية المشروعة.
لقد ظل الراحل المهري، طيلة حياته فارسا شجاعا، ناضل وهو لا يزال في ريعان شبابه من أجل تحير وطنه، عرف بجرأته وصلابة موقفه، وقدرته على اقتحام الصعاب. انتسب وهو لم يزل شابا يافعا إلى حزب الشعب، أحد الأحزاب الوطنية التي ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، ثم انتقل لحركة أنصار الحريات الديمقراطية. وبعد مضي سنوات قليلة، ساهم الراحل الكبير، في تأسيس جبهة التحرير الوطني الجزائري التي أطلقت الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954م.
اعتقل في الأيام الأولى لاندلاع شرارة الثورة، وبقي في السجن حتى نيسان/ ابريل 1955. وبعد إطلاق سراحه بعدة أشهر، بعد أشهر أصح عضوا في وفد جبهة التحرير الوطني بالخارج، وسمي عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ثم في لجنة التنسيق والتنفيذ. وعندما تم تشكيل الحكومة المؤقتة بقيادة جبهة التحرير الوطني، تقلد منصب وزير شئون المغرب العربي في الحكومة المؤقتة قبل الاستقلال في التشكيلة الأولى، ومنصب وزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في التشكيلة الثانية. وصدر لاحقا مشروع جزائري عرف باسمه؛ هو مشروع مهري للرد على مشروع ديغول. وقد شارك الراحل المهري في مفاوضات معاهدة “ايفيان التاريخية” التي أنهت 130 عاما من حكم الاستعمار الفرنسي للجزائر.
بعد استقلال الجزائر عام 1965م، تسلم الأستاذ المهري وظيفة الأمين العام لوزارة التعليم الثانوي وبقي في هذه الوظيفة حتى عام 1976م. وفي آذار/ مارس عام 1979م، صار وزيرا للإعلام والثقافة. ثم سفيرا للجمهورية الجزائرية في فرنسا 1984-1988م، ثم في المغرب حتى استدعائه إلى الجزائر وتوليه منصب الأمانة الدائمة للجنة المركزية، وليصبح في أوائل التسعينات، بالفترة الممتدة من 1988- 1996م، في ظل التحول الديمقراطي الأول، أميناً عاماً لجبهة التحرير الوطني التي قادت الكفاح من أجل الاستقلال. وهى الفترة التي شهدت اندلاع الحرب الأهلية بالجزائر بعد إلغاء انتخابات1991م، التي كان من المتوقع أن تفوز بنتائجها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وأثناء الحرب الأهلية، عرف المهري بمناصرته للمصالحة الوطنية، والمطالبة بوقف الحرب الأهلية التي اندلعت في أعقاب إلغاء الانتخابات، وأدت لمصرع 200 ألف شخص، حسب الإحصاءات الرسمية، وبرز دوره من خلال المشاركة في أول محاولة مصالحة من خلال التوقيع على اتفاق سانت إيجيدو بروما في 1994، إلى جانب حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية المعارضة، وأنور هدام عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال وآخرين.
كان الراحل المهرى من دعاة المصالحة خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في أعقاب إلغاء الانتخابات، وأدت إلى مصرع 200 ألف شخص، حسب الإحصاءات الرسمية، وبرز دوره من خلال المشاركة فى أول محاولة مصالحة من خلال التوقيع على اتفاق سانت إيجيدو بروما عام 1994، إلى جانب حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية المعارضة، وأنور هدام عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال وآخرين.
وعرف أيضا بين الجزائريين، بأنه رجل التقريب بين كل التيارات المتصارعة. كان جسرا مقبولا للتفهم والتفاهم بين العرب والأمازيغ، وبين الإسلاميين والقوميين والليبراليين. وكان ينادي دائما بتغليب المشتركات بين أمته وبين العالم، مع التزام مبدئي وثابت بقيم الحرية والعدالة.
لعب الراحل أدوارا بارزة في تأسيس العديد من الهيئات العربية، وانتخب أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي في الفترة الممتدة من 1955 – 2000، وعضو لجنة متابعة للمؤتمر القومي – الإسلامي، وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية، وعضو الهيئة التوجيهية للمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، وعضو لجنة تحضيرية في ملتقيات دولية حول القدس، وحق العودة، ودعم المقاومة، ونصرة الأسرى في سجون الاحتلال، وشارك في الأعمال التحضيرية للملتقى الدولي لمناهضة التمييز العنصري الصهيوني (الأبارتايد) الإسرائيلي.
لقد خسرت الأمة برحيله، مقاتلا باسلا ومفكرا رصينا وصفه رفاقه بالمؤتمر القومي العربي، بأنه المرشد والموجه والحكيم في الأزمات الصعبة، والقيادي الشجاع الذي لا يجامل في حق، ولا يساوم في مبدأ، ولا يهادن في قضية عادلة، مستعداً لتحمل المعاناة والتضحيات في سنوات عمره الأخيرة، كما تحمّلها بكل بسالة في أيام الثورة الطويلة. إنه العقلاني في مواقفه والرصين في أحاديه، مفكراً يلهم السياسيين، وسياسياً يغني المفكرين. بوفاته خسرت الأمة أحد مداميك نهضتها واستقلالها، ورموز كرامتها، وعنفوانها.
توفى الأستاذ المهري يوم الاثنين من هذا الأسبوع، عن عمر ناهر 85 عاما، بعد صراع مع المرض. وبالنسبة لي شخصيا، فقد فقدت برحيله الأستاذ المعلم والزميل والأخ الكريم والصديق النبيل الذي لا يعوض. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.