عام ثقيل رحل…
لكن الإنسان، استخدم الزمن منذ القدم، كما استخدم الثواني والدقائق والساعات، والأيام والأسابيع والشهور والسنين، لتكون ضمن وظائفها، تمكينه من مراجعة أرباحه وخسائره، ما أمكن إنجازه وما لم يتحقق. ومع نهاية كل عام نقوم بجرد حساباتنا، ليس فقط لمعرفة أين نقف، بل لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه مواقع أقدامنا في القادم من الأيام.
وحين نقوم بجرد حسابات عامنا الذي انصرم، فليس بهدف البكاء على الأطلال، ولا لكي نذرف الدموع على الأحبة، الذين سقطوا في ساحات الوغى، في المواجهة مع الإرهاب، في عدد من الأقطار العربية، ليس لجرم اقترفوه، بل لأنهم حملوا هوية وجنسية. وفي كثير من الأحيان، ساقهم حظهم العاثر، في العيش بأوطان بعينها، كانت لهم، لعقود طويلا، الوطن والملاذ الآمن.
عامنا المنصرم، كان عامل حروب أهلية عبثية، تساوى فيها في كثير من الحالات، القاتل والمقتول، وذهب ضحيتها مئات الألوف من الضحايا. وانتهت حتى اللحظة، بتشريد أكثر من عشرين مليون من العرب، عن مساكنهم وأوطانهم، ولينتقلوا إلى المنافي، حاملين معهم حلم العودة والخلاص، والأمل في عودة الأمن والسلم والاستقرار إلى بلدانهم.
فقدت بلدان عربية، كياناتها الوطنية، وأمس الأمن فيها نسيا منسيا. وتحولت إلى كانتونات مجهرية، للإرهابيين ولزعماء الحرب، وأعيدت قوانين الغاب، وصار القتل على الهوية في تلك البلدان، من الأمور المعتادة والمألوفة يوميا.
والأنكى من كل ذلك، أن هذا العام لم يكن معزولا عن سوابقه، منذ خمس سنوات، حين ساد الوهم، بأن الحروب الاقتتال بين الأخ وأخيه، وتعميم الحروب الأهلية، في عدد كبير من بلدان المنطقة، واستعارة قيم التشدد، هي السبيل لقيام دول الحرية والكرامة، بمسمى تغريبي، أطلق عليه بهتانا، بالربيع العربي، فتكشف أنه خريف لم يبق على أخضر ولا يابس، وأن ما تمخض عنه، لم يكن سوى امتهان الكرامة الإنسانية وسحقها، وإعادة الاعتبار إلى شريعة الغاب.
عامنا الجديد، رغم اشتعال الحرائق فيه، بعدد كبير من الأقطار العربية، كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا، فإنه يحمل بواكير أمل بالخلاص. أمل نلحظه في الغضب العارم لدى شعوب المنطقة، من الحال الذي آلت إليه بلدانهم في ظل هيمنة الإرهاب.
نلحظ ذلك في توسع دائرة المطالبة بالقطر الليبي الشقيق، بإنهاء حالة الاقتتال، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبناء دولة العدل والحق والقانون، بعد سنوات عجاف عاشها الليبيون، منذ سقط نظام العقيد القذافي. والملاحظ أن ضغوط الليبيين، ودول الجوار تتصاعد يوميا، باتجاه المطالبة، بإنهاء المرحلة الظلامية، وبناء الدولة الليبية على أسس عصرية.
والحال هذا لا يختلف كثيرا، عن الوضع في سوريا، حيث عقدت عدة مؤتمرات واجتماعات في الرياض وفينا والقاهرة وموسكو، ضمت بعضها أطرافا من المعارضة والموالاة، وصدرت بيانات حملت برامج لتسوية الأزمة. وهناك وعي يتصاعد في أوساط الشعب السوري، بحتمية إنهاء فصل الاحتراب الداخلي، وبناء سوريا الجديدة، على أسس تكفل المساواة في الحقوق، والتكافؤ والندية، والتمهيد لمرحلة انتقال، يشارك فيها كل السوريين، وصولا إلى قيام دولة عصرية، تكفل العدل وسيادة القانون. وينتظر أن تشهد الأيام القادمة انعقاد اجتماع في جنيف، للاتفاق على برنامج المرحلة الانتقالية، وصياغة دستور جديد للبلاد.
وبالنسبة لليمن، فإن مختلف الأطراف أبدت استعدادها للجلوس على طاولة المفاوضات، للتوصل إلى تسوية سياسية، على قاعدة القبول بالقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، فيما يتعلق بالأزمة اليمنية. وقد تحدد موعد انعقاد مؤتمر في جنيف يضم مختلف الغرماء، المنهمكين في الأزمة، لتحديد مستقبل اليمن، بما يتسق مع القرارات الأممية، والشرعية الدولية.
العراق وحده، الذي لا يبدو أن مشهد التفتيت فيه، سيصل إلى نهاية. والمؤمل أن يعي الجميع، مخاطر استمرار الفوضى فيه، وأن تتحقق مصالحة وطنية حقيقية، على قاعدة إلغاء العملية السياسية، التي قسمت العراق إلى حصص بين الطوائف والأقليات الإثنية.
كما نأمل أن تتمكن مصر العروبة، وتونس الخضراء، من الانتصار في معركتهم لمواجهة الإرهاب، وآثاره. والسير على سكة البناء والتنمية، وتحقيق الأمن والازدهار للشعبين الشقيقين.
وحدها فلسطين الجريحة، تبقى مغلقة على الحل، بسبب التعنت الصهيوني، والسياسات العنصرية التوسعية، لحكومة نتنياهو. ولن يتوقف نضال الشعب العربي الفلسطيني، في مواجهة الغطرسة الصهيونية، ما لم يتمكن من إنجاز حقه في الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. إضافة إلى تأمين حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لديارهم، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن.
سوف تتواصل انتفاضة الشعب الفلسطيني الثالثة، وسيتكامل نضال الضفة والقطاع مع أشقائهم، في الأراضي المحتلة عام 1948، إلى أن ينبلج صباح فلسطيني جديد، هو صباح الاستقلال، وحق تقرير المصير، وإنهاء آخر احتلال أجنبي على الأرض العربية.
فعسى أن يكون عامنا الجديد، عام خير وبركة، عاما للبهجة والأمل وتحقيق الأماني في أوطان مستقرة، تحظى بالأمن وتنتصر فيها الكرامة الإنسانية.