عالم يتغير…

0 201

تتسارع وتائر الأحداث، وتتغير خارطة التحالفات بالمسرح الدولي بشكل غير مسبوق منذ عدة عقود. وتبدو التغيرات الدراماتيكية في سياسات الدول، لأول وهلة عصية على التفسير والفهم، ويصبح المشهد برمته، فوق عتبة المسرح، وكأنه أشبه بلوحة سيريالية، يتطلب وعي أبجدياتها قارئاً من نوع خاص.

 

فالدب الروسي تحت زعامة رئيسه السابق، فلاديمير بوتين ورئيسه الحالي، ديمتري ميدفيديف قد أنهى رحلة سباته، وحسم أمره، وخرج من عزلته ليضع حدا للعبث في خاصرته، وليمنع الكبار من اللعب في حدائقه الخلفية. وفي سبيل ذلك يتحالف مع الصين والهند، ويوقعون إعلان شنغهاي.

 

والحكومة التركية، في موقف غير معهود، تقف إلى جانب التدخل العسكري الروسي في جورجيا، بشكل واضح وصريح. ويقوم رئيس حكومتها، رجب طيب إردوغان بزيارة تاريخية لجمهورية أرمينيا لينهي عهودا طويلة من القطيعة والكراهية. ويعود ليستقبل رئيس الوزراء الجورجي مقترحا تأسيس منتدى للاستقرار والتعاون يضم بلاده وروسيا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان.

 

والجنرال الباكستاني، برويز مشرف الذي قاد انقلابه العسكري من الجو، وبقي يحكم باكستان لأكثر من عقد من الزمن، كبيدق شمعي، تحركه الإدارة الأمريكية، وتسنده بصمغها اللاصق، ليكمل دوره المرسوم في الحرب العالمية على الإرهاب، ما لبث أن ذاب شمعه وتبخر، ليترك كرسي الرئاسة، فيما يشبه الانقلاب الأبيض لزميل آخر هو آصف علي زرداري، المثقل بأربع وعشرين تهمة، بينها تهم بالفساد والقتل، جل رصيده أنه زوج الراحلة، زعيمة حزب الشعب، بي ناظير ذو الفقار علي بوتو، التي اغتيلت في ظروف غامضة، في نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي، وبقي سر مصرعها، غائما حتى يومنا هذا.

 

وفي العاصمة السورية، دمشق التقى الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، مع نظيره السوري، بشار الأسد، وعقد مؤتمر قمة ضمهما وشارك فيه رئيس الحكومة التركية وأمير قطر. وكان الموضوع الرئيس في تلك القمة هو مفاوضات السلام غير المباشرة التي تجري بين الحكومة السورية والكيان الصهيوني، برعاية تركية. واللافت في الأمر، أن الرئيس السوري في خطابه بالقمة، وأثناء مؤتمره الصحفي قد أكد على الدور الأمريكي في الدفع بمسيرة التسوية بين بلاده والكيان العبري.

 

ومن جهة أخرى، حطت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس رحالها في العاصمة الليبية طرابلس، واستقبلها الرئيس الليبي، معمر القذافي. وقد وصفت زيارتها تلك، ومقابلتها للرئيس الليبي، باللحظة التاريخية. وأشارت إلى أن ليبيا قد اتخذت قرارا تاريخيا بتخليها عن أسلحة الدمار الشامل، وبتنديدها بالإرهاب. وعلق الناطق باسم الخارجية الأمريكية، شون مكورماك على هذه الزيارة بالقول “إن ليبيا مثال يثبت أن واشنطن مستعدة لإقامة علاقات مع الدول التي تقوم بخيارات تختلف عن خياراتها السابقة”. وأشير إلى أن الزيارة تناولت إمكانية حصول شركات أمريكية على امتيازات بالتنقيب عن النفط بالأراضي الليبية. وكانت المحطة الأخرى لرايس قد شملت تونس والجزائر، والمغرب حيث دعت إلى حل سلمي لمشكلة الصحراء، وتحقيق إصلاحات سياسية في هذه البلدان، ونوهت بدورها الإيجابي في الحرب العالمية على الإرهاب. وأشير أيضا إلى أنه تم التباحث مع الحكومة الجزائرية حول إمكانية تحقيق تعاون أمريكي- جزائري في مجال استخراج الغاز الطبيعي.

 

تلك هي بعض مسلسل الحوادث التي أخذت مكانها في الساحة الدولية، وبالإمكان الذهاب بعيدا في سرد مزيد منها، غير أن ذلك ليس من صلب حديثنا هذا، فالهدف باختصار هو وعي ما يجري بالساحة الكونية من تحولات سياسية، والتهيؤ لمستلزماتها، بما يخدم تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء في منطقتنا.

 

وبالتأكيد فليس بإمكاننا، في هذه العجالة، مع إدراكنا لأهمية ذلك، تناول كل حدث على حدة وقراءته وتفكيكه وتحليله. فذلك يستدعي منا الوقوف عند كل محطة. ولعلنا نتمكن من تحقيق ذلك في مناسبة أو مناسبات أخرى. جل ما نطمح له في هذا الحديث هو إعادة التأكيد على ما سبق أن أكدنا عليه من أنه في العلاقات الدولية ليست هناك صداقات دائمة، بل علاقات تحكمها المصالح، وأن النزاعات بين الحكومات والدول ليست لها علاقة بسوء الفهم لموقف الآخر، ولا بحوار أو صراع الحضارات، ولكنها محكومة بصراع الإيرادات.

 

في الحالة الروسية، شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط إمبراطوريته في شرق أوروبا، وتفكك جمهورياته. فكان أن تقدمت الإدارة الأمريكية بخطى ثابتة وسريعة لتحل محله في أوروبا الشرقية، وفي حديقته الخلفية. وكانت فترة فوضى، ثم حقبة استرخاء، وإعادة تقييم، ثم مرحلة بناء على الصعد الاقتصادية والعسكرية، خلال حقبة رئاسة بوتين، ومن ثم موقف حاسم تجاه الدفاع عن البقية الباقية من الإرث القديم وعن السيادة، والمصالح الاستراتيجية والمناطق الحيوية. وكان آخرها هو التصدي لغطرسة الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكشفيلي الذي وصفته صحيفة الإندبنتدت البريطانية بالمغامر، وأنه هو الذي بدأ شرارة الحرب بالقوقاز.

 

وقفت تركيا إلى جانب روسيا في موقفها من النزاع مع جورجيا. وكان موقفها هذا مستغربا من عدد من المراقبين، كونه يمثل خروجا على تحالفها مع الغرب، ومع الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل خاص. لكن تركيا في موقفها هذا، كانت تنطلق من مصلحتها الوطنية، ومن الحرص على سلامة أمنها القومي. لقد وقفت الإدارة التركية موقفا مماثلا من العدوان الأمريكي على العراق، ورفض برلمانها الترخيص للقوات البرية الأمريكية بالزحف من الأراضي التركية إلى العراق. وكان الموقف التركي واضحا ومفهوما، فالإدارة الأمريكية، أثناء فترة الرئيس كلينتون، من خلال فرضها لمناطق الحظر الجوي في الشمال والجنوب قد أفصحت عن نواياها في تفتيت العراق وتقسيمه إلى دويلات ثلاث: دولة كردية في شمال العراق، وأخرى عربية سنية في الوسط، وثالثة شيعية في الجنوب. بمعنى آخر، فإن وجود دولة كردية في جنوب تركيا سيشكل إسفينا في الخاصرة التركية، وسيشجع النزعات الانفصالية الكردية التي يقودها حزب العمال الكردي، وهو ما لن تقبل به أبدا أية حكومة تركية تضع نصب أعينها مصلحة شعبها وأمنها القومي. إن القبول بوجود جورجيا معادية في خاصرة روسيا، هو موقف مماثل للقبول بدولة كردية جنوب تركيا. إن الوعي التركي بحالة التماثل هذه هو الذي يفسر لنا موقف حكومتها الحاسم والصريح إلى جانب روسيا في نزاعها مع جورجيا، وهو موقف يأتي في سياق تاريخي وموضوعي صحيح. إن إعادة تركيب اللوحة الجيوسياسية لمنطقة القوقاز بأسرها قد استدعت تغيير خارطة التحالفات التركية، وهي بالتأكيد التي أوحت بالمصالحة التركية مع جمهورية أرمينيا.

 

ولأن تركيا في الحسابات الأمريكية لا يمكن تجاهلها، كونها مع إيران وباكستان تمثل القوس الملتف حول العنق السفلي لروسيا الاتحادية، فإننا نجد من جهة، حرصاً أمريكياً على ألا تتأثر علاقاتها الاستراتيجية بتركيا نتيجة لموقفها المغاير من الهجوم العسكري الروسي على جورجيا، ومن جهة أخرى، التحرك السريع في باكستان، لإسقاط برويز مشرف من الرئاسة، بعد أن استنفدت أدواره وأصبح شخصا غير مقبول من معظم الفصائل السياسية الباكستانية. ولم يكن صدفة أن يكون وريثه هو زعيم حزب الشعب الباكستاني.

 

فهذا الحزب يمثل طليعة الليبرالية الباكستانية. ويضم شرائح عريضة من النخب الثقافية والفكرية في هذه الدولة. والأهم أنه يضم مدارس مختلفة من أقصى اليمين، المتحالف مع السياسات الأمريكية، وأقصى اليسار المتحالف مع السياسات الصينية. وكانت رئيسته السابقة، بي ناظير بوتو تتمتع بكاريزما قوية، وبمشروعية وراثتها للحزب الذي أسسه والدها. وقد جرى اغتيالها في ظروف بالغة التعقيد، تناولناها في حينه وأشرنا إلى أن اغتيالها خدم معظم القوى المتصارعة، وأن دمها المهدور في رقبة جميع القبائل، بما في ذلك قبيلتها. وفي ظروف تغير المعادلة الدولية من الشراكة إلى الصراع كان لا بد من احتواء هذا الحزب وتوجيه حركته، قبل أن يفلت من القبضة الأمريكية، أو يجري استثماره لصالح إعلان شنغهاي من قبل الصين. ولذلك تأتي خطوة إزاحة الرئيس الباكستاني، كضربة معلم، ليس فقط من حيث التوقيت، ولكن أيضا من حيث اختيار البديل، المعروف بكونه أحد أقطاب اليمين داخل حزب الشعب.

 

بقي علينا أن نتعرض لقراءة بقية اللوحة التي أشرنا إلى ملامحها في صدر هذا الحديث، وذلك ما ليس بمتناول المساحة المتاحة، فعلى أمل متابعة القراءة والتفكيك والتحليل في حديث آخر بإذن الله تعالى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 − واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي