طائر الفنيق فوق سماء العراق
حين سقطت بغداد، قبل عام من هذا التاريخ، في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003، كتبت سطورا قليلة خلصت فيها إلى أن الإحتلال الأمريكي للعراق ليس إلا صفحة قصيرة، في سفر ضخم حافل بالبطولات، وأن جريمة العدوان لن تمر دون عقاب، وسوف تشهد بلاد ما بين النهرين أعاصير عاتية وبراكين محرقة، تجعل الغزاة يندمون على فعلتهم، حين لا يجدي الندم. ولسوف يندحر الغزاة، حاملين معهم جثث وأشلاء قتلاهم.
كنت على يقين أن بغداد لن تتيه بوصلتها مهما زلت بها الأقدام، وأن طائر الفنيق سيعود من جديد مرفرفا بجناحيه فوق سمائها. ولم يكن ذلك اليقين رجما بالغيب، بل تؤكده القراءة المتأنية والعميقة لتاريخ العراق، قديمه وحديثه. فقد جاءها الغزاة من كل حدب وصوب، وأمام المقاومة الضارية لشعبها وجدوا أنفسهم في وضع لا يتيح لهم غير الرحيل.
غزاها الإغريق والفرس، ودمرها هولاكو، ووطأت أقدام جنكيز خان ثراها الطاهر، واستولى عليها الأتراك، واحتلها البريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى وجرى تكبيلها بمعاهدات واتفاقيات وأحلاف، لكنها فرضت على الغزاة في كل مرة أن يرحلوا قبل انبلاج صبحها أو مغيب شمسها. وكانت إرادة الحياة، لدى العراقيين، تنتصر من جديد عند كل غزو، حتى اكتسب ذلك وضعا قطعيا في قانون التناوب والتعاقب. وكان الغزو تلو الغزو يضيف للبلاد حصانة ومنعة وقوة. وبذات القدر، كانت المقاومة وروح التضحية تعزز من إبائها وكبريائها وشموخها ووحدتها.
واليوم يسطر العراقيون، من جديد، أروع ملاحم البطولة والتضحية، ويقدمون أنبل المثل في التصدي الشجاع لمخططات العدوان، في التجزئة والتفتيت، وتحويل العراق إلى كانتونات قائمة على أسس ومحاصصات طائفية ودينية وإثنية. ومن المثير للغرابة أن القوى التي حاولت النيل من استقلال العراق ووحدته، لم تقرأ التاريخ العراقي والنفسية العراقية مطلقا، ولم تتعرف على ما يكتنزه المخزون النفسي لهذا الشعب من مقاومات ورفض. فهذا الشعب لا يطيق دخيلا عليه، طامعا في نهبه وتمزيق وحدته والإستيلاء على ثرواته، ولا يقبل صياغة خارطته على أسس غريبة عليه. إنه يدرك أن لوحتة الفسيفسائية، التي تبدو من الخارج نقطة ضعف فيه، هي سر ثرائه وخصبه وإبداعه وفنونه وقوته.
وقد عبر عن هذه الوحدة مرات ومرات… عبر عنها حين رفض أن يكون طرفا في الصراع الصفوي والعثماني، الذي جرى بين الإمبراطوريتين الفارسية والتركية، تارة تحت ذريعة حماية الشيعة وأخرى تحت ذريعة حماية السنة. وعبر عنها الشعب العراقي في ثورة العشرين، حين انطلقت الثورة ضد الاستعمار البريطاني من المناطق الشيعية في الجنوب، والتحم معها كل أبناء العراق من زاخو إلى جنوب البصرة، وانتصرت الثورة وأعلن الإستقلال. وسجلها العراقيون مرة أخرى في عام 1941م في الانتفاضة التي قادها رشيد عالي الكيلاني، ضد الإستبداد والحكم المطلق والتحالف مع البريطانيين، والتي انطلقت من وسط العراق، وكان عمودها الفقري الضباط السنة، والتحم معها العراقيون جميعا، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم، وقومياتهم.
ومن هنا كانت قناعتنا جازمة، بأن ليل العراق لن يطول، وأن الغبار سوف ينجلي كاشفا عن الوجه الحقيقي لشعب العراق، الوجه العربي الناصع، وستندحر مع رحيل جيوش الاحتلال، الشعوبية الحاقدة والمرتزقة والمأجورون، ويعود السلام لمدينة السلام.
ومما لا شك فيه، أن شعب العراق، قد تمكن من تسجيل الهدف الأول في المبارزة مع القوات الغازية، وحقق هزيمة أخلاقية لا لبس فيها لإدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش الذي خرج على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ومبادئ الشرعية الدولية بدخوله الحرب، تحت ذرائع واهية تكشف للشعب الأمريكي وللعالم بأسره زيفها. وثبت للجميع خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وأن الهدف الحقيقي للاحتلال، كان وما يزال، حل الجيش العراقي، الاحتياطي الإستراتيجي العسكري للعرب جميعا في مواجهة المشروع الصهيوني الإمبريالي، وتدمير البنية التحتية للمجتمع العراقي، والقضاء على المرتكزات العلمية والتكنولوجية وتصفية العلماء والخبراء ومراكز البحث العلمي، وفتح الأبواب مشرعة للتسلل الإسرائيلي، وتطبيق المشروع الأمريكي في خارطة الشرق الأوسط الكبير، انطلاقا من البوابة العراقية..
وسجل العراقيون، هدفهم الثاني، حين واجهوا جيوش الاحتلال بالرشاشات وقذائف الهاون والمتفجرات وزرع الألغام والتصدي الأسطوري في بغداد والفلوجة وهيت وبعقوبة والموصل وكركوك وسامراء وتكريت وبلد والمشاهدة ولم يستقبلوه، كما كان يتوقع بالزهور والرياحين. وقيل آنذاك، أن الذين يتصدون للاحتلال هم فلول النظام العراقي السابق أحيانا، أو عناصر القاعدة والمقاتلين الأجانب في أحيان أخر، وأن المقاومة محصورة في منطقة عرفت بالمثلث السني. وتكشف للعالم أن الذين يقاتلون هم العراقيون بمختلف أطيافهم السياسية وتوجهاتهم الوطنية، وأنها ليست حصرا على منطقة معينة.
وكان مرور عام على الاحتلال مناسبة كبرى ليعبر العراقيون بشكل يليق بإبائهم وكبريائهم عن رفضهم المطلق والحاسم للوجود الأمريكي، ولتتجسد وحدتهم من جديد في مقاومة باسلة لقوات الغزو. وكان الصمود الأسطوري لمدينة الفلوجة هو أكبر تجسيد لتصميم العراقيين على طرد قوات الاحتلال من بلادهم. والتحم الشعب العراقي بأسره مع هذا الصمود، وخرجت خمسة عشر محافظة عن سيطرة الغزاة، وهوجمت جيوش الإحتلال في قواعدها ومراكزها، كما هوجمت المقرات التابعة للشرطة ومراكز رجال الحكم المعينين من قبل الأمريكان.
وقد أخذت الانتفاضة الجديدة مكانها بعد أن أعلن رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر دخوله في المقاومة العراقية، وانتفضت النجف والكوفة والحلة والعمارة والبصرة والكوت، وأخذ العراقيون، مسلمون ومسيحييون ويزيديون وصابئة يجمعون المؤن والدواء والملابس لإخوانهم في المقاومة العراقية. وأخذت هتافات الأطفال تتعالى في تكريت وسامراء والموصل وكركوك ومدن الجنوب وقراه “من الكوفة للفلوجة هذا البلد منعوفه”. واتجه المصلون من مختلف المذاهب لإقامة شعائر الجمعة في مسجد واحد يؤمهم في الصلاة جميعا إمام واحد، تعبيرا عن الرفض للتفتيت، وتغليبا للوحدة الوطنية، وإعلانا لتضامن العراقيين جميعا مع أهل الفلوجة وانتصارهم لروح المقاومة.
وخلال المعارك امتزجت دماء العراقيين، ولم يعد الحديث عن المثلث السني، أو الغرباء الذين يحاربون بالنيابة عن العراقيين مجديا. وأصبحت البيانات الرسمية الأمريكية تتحدث عن معارك مع العدو، وأعيد من جديد نشر الخرائط العسكرية في المؤتمرات الصحفية التي يعقدها الجنرالات الأمريكيون. إنها أذن حرب الشعب ومواجهة الشعب لعنف المحتل، وهي بموجب القانون الدولي مقاومة شرعية لاحتلال غير شرعي وغير أخلاقي. وخلال المواجهة تكشف أن الذين يقاتلون دفاعا عن العراق هم العراقيون أنفسهم، ولم يكن بينهم من يمكن وصفه بالغريب أو الأجنبي، مع أن مشاركة العرب والمسلمين لأشقائهم في الدفاع عن العراق ليس سبة على أية حال. وأصبح واضحا للجميع أن الأجانب كانوا في الخندق الآخر، حيث قامت قوات المقاومة بأسر عدد من الجنود من جنسيات مختلفة، وتأكد أن المرتزقة يتحشدون في خندق الإحتلال وليس في الخندق المقاوم له.
وقد اختزلت كلمة العدو، التي أضحت تتصدر البيانات العسكرية الأمريكية، كل ما يفتعل في الذات الإستعمارية من أهداف ومشاريع. لقد كان العراق في تلك الذات مجرد نفط وثروات حان موعد السطو عليها، فإذا بهم يواجهون بغير ذلك. لقد اتضح أن عملية السطو على التاريخ والجغرافيا أعسر بكثير من السطو على الثروات، وبدا ذلك عملية مستحيلة لكل ذي بصيرة. إن الأمريكيين يواجهون التاريخ والجغراقيا والثقافة والنضال المشترك، ومخزون من الإرث والحضارة ممتد لأكثر من خمسة آلاف عام. وهي مواجهة خاسرة بكل تأكيد للمحتل. إنها مواجهة غير متكافئة بين الجيشين، لأن طرفها الأول معتد وخائر جاء لبلاد غريبة عنه من أجل استنزاف ثرواتها، وسوف يرحل هذا الغاشم حتما ويعود من حيث أتى حين تحترق الأرض تحت أقدامه. بينما يدافع الطرف الآخر عن الوجود والمصير والعرض والثوابت الوطنية والقومية، ويخوض معركة خلاصتها أن يكون أو لا يكون، وقد أثبت خلال تاريخه الطويل تمسكه بكينونته واستبساله في الدفاع عنها.
أن طائر الفنيق العراقي، قد يحرق مرات ومرات، وتذروه الرياح، ولكنه يعود من جديد، بألحانه المتسقة، وإيقاعاته الجميلة، معانقا النخلة السومرية، وذراع كلكامش، وقوانين حمورابي، محلقا فوق منارة سامراء، مستظلا بنخيل البصرة، ومناجيا طائر فينق آخر في رام الله وجنين ونابلس والخليل وغزة، حيث تكتب ملاحم بطولة أخرى في فلسطين… ومغردا بلحن عراقي شجي، ولكنة عربية لا يخطئها السامع، تغريدته الأبدية: العراق باق والإحتلال الأمريكي إلى زوال، فيرجع الصدى من بعيد، فلسطين باقية والإحتلال الإسرائيلي إلى زوال.. العراق باق والإحتلال إلى زوال..
طائر الفنيق لن يغادر أبدا ما بين النهرين.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-04-14