صناعة البطل
احتدم الصراع بين الفلاسفة الألمان حول صناعة التاريخ، فقال البعض بأن التاريخ هو تدوين ما لدينا من معلومات عن حياة الإنسان. بمعنى شموله لما نعرف. وما نعرف شيء عنه لا يتجاوز السبعة آلاف عام من عمر هذا الكوكب، الذي يتجاوز ملايين السنين. وهذا بحد ذاته تعبير عن نسبية المعرفة. وهل يحمل أيضا معنى متضمنا، بعجز الإنسان حتى اللحظة عن معرفة تاريخه.
قال البعض الآخر، إن التاريخ هو تعبير عن صعود قوى اجتماعية جديدة وهبوط أخرى. وأن الذي يحكمه هو التطور الاجتماعي، وصراع الطبقات. وكان ماركس هو رائد هذا التنظير في نظريته عن مادية التاريخ. وذلك مكون أساسي في نظريته المعبر عنها بعلم حركة المادة. لكن هيجل يخالف ذلك، فيعتبر أن التاريخ يقوم على أكتاف رجال عظماء. ويتفق فيبر مع هيجل، في هذه النظرة فيركز على دور القائد التاريخي، معتبرا بسمارك، موحد ألمانيا، أهم صناع التاريخ. لكنه لا يتناسى دور القبيلة، في مرحلة تاريخية أولية، مع تقرير بأن قمة التاريخ هي سيادة العقلية القانونية..
واقع الحال، أن معظم النظريات تشير إلى دور الفرد. وربما اعتبرت نظرة أنطونيو غرامشي في هذا السياق محطة انتقال رئيسية في الفكر الماركسي. وقد تساوق التاريخ مع هذا الموقف، فلم يحتفظ في ذاكرته سوى أسماء العظماء، أنبياء ومصلحين ومفكرين وأدباء روائيين وشعراء وخطباء، ومخترعين وزعماء دول وثوار ضد الاستعمار، وقادة حروب.
لقد أسهمت نتائج الحروب الأهلية في أوروبا وتأسيس الدول القومية في بروز عدد من الأبطال الذين قادوا التحولات السياسية في بلدانهم، وكانت لهم أدوار بارزة في صياغة تاريخها. عرفنا روبسبير خطيبا للثورة الفرنسية، وبسمارك موحدا لألمانيا، وبرز هيجو في ملحمته البؤساء، وكان شكسبير قمة عبقرية الأدب الفيكتوري، وديكنز الروائي الذي أرخ لتحولات اجتماعية حاسمة بمرحلة سقوط سجن الباستيل في باريس. وفي التحولات الفكرية، سمع العالم ﺑ روسو بعقده الاجتماعي، ومونتيسكيو في روح القانون ولوك في اتفاقتين وفيبر في الأخلاق البروتستانية…. وبرز علماء في الاقتصاد كآدم سميث وريكاردوا. وكينز… وكانوا جميعا أبطالا في مجالات إبداعاتهم وعطاءاتهم.
وعلى صعيد الزعماء السياسيين، شهدت الحرب العالمية الثانية، بروز عمالقة قادوا شعوبهم نحو النصر: روزفلت وتشرشل وستالين وديجول. وكان الجيل الأبرز بعد هذه الحقبة هم قادة حركات التحرر الوطني بأسمائهم التاريخية المعروفة: نايكروما وسنغور وسيكوتوري وبن بله في أفريقيا، وهوشي منه في فيتنام وماو في الصين وكاسترو في كوبا… وهكذا..
خلاصة ما نصل له من هذه المقدمة، هو استعادة القول العربي المأثور، بأن لكل زمن رجاله. وهو قول يؤكد على أن طبيعة المرحلة هي التي تحدد خصائص القادة وليس العكس. والزمن هنا ليس حالة مجردة. فالحياة المعتادة، خارج الأزمة، ليست بحاجة لأشخاص من نوع استثنائي، إذ ليس هناك ما يستدعي حضور البطل. إن لحظة التحول والغليان والصخب هي التي تنجب أبطالها وتحدد مواصفاتهم.
بمعنى آخر، إن تناول مرحلة انتقال تاريخي معينة، بالقراءة والتحليل، تستتبع بالضرورة كتابة سيرة أبطال بعينهم ساهموا في صياغة مآلاتها، وتركوا بصمات كثيفة منحتها هويتها. وإذا فالبطل بقوة حضوره بالأدوار التي يؤديها، يمثل استجابة لنداء التاريخ والضمير في مفترق طرق. وبالقدر التي تكون فيه الأزمة كبيرة ومتشعبة بالقدر الذي يتعدد فيه وجود الأبطال. وواقع الحال، أن التاريخ الإنساني لا يحتفظ في ذاكرته سوى هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين. فنحن لا نعلم من التاريخ سوى أسماء العظماء، أنبياء ومصلحين ومفكرين وأدباء روائيين وشعراء وخطباء، ومخترعين وزعماء دول وثوار ضد الاستعمار، وقادة حروب.
على أن هذه الخلاصة، ينبغي أن لا تدفع بنا للظن، بعدم وجود أي تأثير للقادة الذي لا يعيشون حالة الأزمة. فمثل هؤلاء يؤكدون حضورهم عبر المراكز الحيوية التي يضطلعون بها. لكنهم في النتيجة لا يتساوون في قوة تأثيرهم. فليس كل قائد يتمتع بالجاذبية والمقدرة و”الكاريزما” التي يمتلكها نظيره.
وهذا ينقلنا إلى قضية أخرى، هي دور الصورة في صناعة البطل. وهو دور حديث ارتبط بعصر الفضائيات. وقد برز هذا الدور بوضوح بعد بروز الشاشة الفضية، خلال العقود الخمسة الأخيرة. وكلما تطورت صناعة التلفزة وتوسعت آفاق استخداماتها، وتضاعف عدد مشاهديها، كلما تطورت أكثر فأكثر صناعة البطل.
وفي صناعة البطل عبر الصورة، تغيب الحاجة إلى الموهبة والإبداع في الهدف المراد الترويج له، حيث تضطلع الصورة بالتعويض عن ذلك. والصورة في هذه الحالة ليست حيادية بل منحازة، كونها تهدف لتحقيق غاية محددة. في الغرب بشكل خاص، أصبح استخدام الصورة في صناعة البطل، يهدف في غالب الأحيان لتحقيق هدف أو جملة من الأهداف السياسية. ويمكن أن تخدم الصورة في بعض الحالات الشيء ونقيضه.
في حملة انتخاب الرئيس الأمريكي، رونالد ريجون بمطلع الثمانينات من القرن الماضي، ضد منافسه الرئيس الديمقراطي، جيمي كارتر، ركزت الصور عليه كشخص تجاوز السبعين من العمر، بما يجعله أكثر حكمة وحنكة وتجربة وروية. وكان الإعلام يركز باستمرار على هذه النقطة بالذات. لكن ذلك لم يكن الحال ذاته عام 1996، عندما ترشح زعيم الأغلبية في الكونجرس الأمريكي، بوب دول عن الحزب الجمهوري لمنافسة الرئيس بيل كلينتون في دورته الثانية. فقد جرت الإشارة إلى تقدم دول بالسن، كعامل سلبي يحول دون نجاحه كرئيس قادم للبلاد. ولم يتورع منافسوه عن التقاط صورة له وهو يسقط من خشبة منصة خطابة، أثناء حملته الانتخابية ليستخدموها كدليل على عدم قدرته في حال انتخابه رئيسا على إدارة شؤون الحكم.
في الوطن العربي، كان للصورة حضورها القوي أثناء الحروب العربية مع الكيان الصهيوني، كما هو الحال في معركة العبور، بحرب أكتوبر عام 1973م. وكان لها حضور أيضا في احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان. فتقهقر الجنود العراقيين والأفغان أمام قوة النيران الأمريكية، كان عاملا رئيسيا في الحرب النفسية التي مكنت قوات الاحتلال من تحقيق أهدافها بسرعة قصوى.
ولعل الكثير منا، لا يزال يستحضر صورة الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، مستقبلا رصاص الجنود الصهاينة، وهو في حضن والده. هذه الصورة كانت من العلامات البارزة في انتفاضة الأقصى. لقد اقتنص أحد المصورين لحظة إطلاق النار على الشهيد، فالتقط الصورة، وعممت في الفضائيات كاشفة وحشية الكيان الصهيوني الغاصب. لكن واقع الوحشية الإسرائيلية هو أكثر رعبا وقسوة من تلك الصورة. لقد تمثل هذه الوحشية، في بعض صورها محاصرة مخيم جنين، ومنح الدواء والغذاء عن سكانه. وحملة إبادة بحق الأطفال والنساء بالمخيم. لكن الصورة لم تكن حاضرة، ومع غياب الصورة غابت القصة الكاملة للفاجعة.
في حالة محمد الدرة، استقبل والد الشهيد في معظم العواصم العربية، من قبل الملوك والقادة ورؤساء الأحزاب السياسية والجمعيات النقابية استقبال الأبطال، وأقيمت له المهرجانات والاحتفالات. وحظي بالهبات والهدايا والأموال، وكأن ابنه هو الشهيد الوحيد بين الأطفال الفلسطينيين. وكان ذلك مبعث استياء بالغ من قبل عدد كبير من عائلات الشهداء الفلسطينيين، الذين فقدوا معيليهم، فصاروا يتحدثون عن ارستقراطية استشهادية، مستنكرين استئثار والدي الشهيد الدرة بكل هذه الرعاية، وغياب اهتمام أشقائهم العرب بأوضاعهم.
وأخيرا مشهد انتحار البوعزيزي في تونس بحرق نفسه احتجاجا على الأوضاع الاجتماعية المتردية وعلى المهانة التي تلقاها من شرطية منعته من ممارسة مهنته كبائع خضار على عربة متنقلة, وقد اعتبرت هذه الحادثة الشرارة التي فجرت الثورة التونسية. ترى كم فرد انتحر في عدد من الأقطار العربية، وفي العالم قبل وبعد حادثة البوعزيزي، دون أن يترك ذلك أي أثر، ومن غير أن نتمكن حتى من استحضار أسمائهم. إنها إذا اتحاد اللحظة التاريخية، والصورة في صناعة البطل، لتؤكد مجددا أن لكل زمن أبطاله.
*****
yousifmakki@yahoo.com