صعود الإمبراطوريات وسقوطها
د. يوسف مكي
مر التاريخ البشري، منذ بدأ تدوينه، بصعود عشرات من الإمبراطويات، التي اتخذت بعدا عالميا، لكن هذه الامبراطوريات أفل حضورها، مفسحة المجال لبروز امبراطوريات جديدة، في دورات تاريخية متعاقبة. وليس من شك إن لكل صعود أسبابه وبيئته، وبالمثل، فإن لسقوط تلك الأمبراطوريات جملة من الأسباب. وقد دفع رصد هذا الواقع، إلى بروز نظريات سياسية، تناولت من زوايا مختلفة، أسباب الصعود والسقوط. ولعل الأقدم بين هذه النظريات، نظرية أرسطو، في كتابه السياسة، التي شبهت الدول بالكائن الحي، الذي يمر بالطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة، ثم الممات، وأيضا النظرية الخلدونية، التي حددت مراحل نمو الامبراطوريات بالعصبية والعمران والسقوط، وأن الدولة هي تعبير عن عصبية ما.
توالت هذه النظريات لاحقا في تقديم تفسيرات مختلفة لأسباب الصعود والسقوط، معللة بعض تلك الأسباب في قوانين طبيعية، فكما أن في الطبيعة مواسم ربيع وصيف وخريف وشتاء، تتكرر دوراتها كل عام، فإن الامبراطوريات تبزغ بذات السياق، حيث لكل بداية نهاية… “ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك”.
الهيجلية، أعطت أبعادا متقدمة لنشوء الامبراطوريات والدول، حين ربطتها بالجدل وعناصره، المتمثلة في الفكرة ونقضيها وبالمرحلة الأعلى التي هي الطريحة. بمعنى أن أشكال الامبراطوريات ليست متماثلة، وأن التقدم البشري، يدفع بسياقاتها وأدائها إلى الأعلى. وقد كانت تجربة بسمارك بالنسبة لهيجل هي الأعلى، في رصده للتطور التاريخي.
ماركس رفض في ماديته التاريخية، فكرة السكون، واعتبر التاريخ مراحل، انتقال لقوى اجتماعية، وتراجع أخرى. وجاء ماكس فيبير ليصنف الشرعية السياسية في القبيلة والقائد الفذ (الكاريزما) والعقلية القانونية، التي هي من وجهة نظره نهاية التاريخ، حيث سبق فوكوياما بهذه المقولة بأكثر من قرنين من الزمن.
والملاحظ في هذا السياق، هو أن جل الامبراطوريات التي فرضت حضورا عالميا، ساد لديها اعتقاد أنها سرمدية، لا يستثني من ذلك أية أمبراطورية، بما في ذلك الامبراطوريات التي استمدت شرعيتها من معتقدات دينية. ففي العصر العباسي، على سبيل المثال، سادت رواية عن حديث نبوي يقول “الخلافة في عمي العباس إلى يوم القيامة”. وليس من شك في أن هذا الحديث هو من صنع البطانة المقربة من الخلفاء.
وفي العصر الحديث، تكرر الحديث عن نهاية التاريخ، وبشكل خاص بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبرز ذلك بشكل واضح بعد صدور كتاب فوكوياما.
ما يدفع إلى هذا الحديث، هو التصور السائد لدى بعض المثقفين والمهتمين، بالدور الأمريكي، والقول باستحالة تراجع القوة السياسية والاقتصادية الأمريكية. وهو قول لا يسنده برهان، ولا يسنده سوى ما يعشعش في مخيلتهم. وكثيرا ما يبرز في حالة الأزمات الاقتصادية التي تمر بها أمريكا، كأزمة الرهن العقاري، أن النظام الأمريكي، يملك قابلية إعادة ترتيب أوضاعه والخروج منتصرا من أزماته.
لا نجادل مطلقا، في قوة اقتصاد أمريكا، وحضورها السياسي والعسكري، على مستوى العالم بأسره، فمثل هذا السجال، عقيم وغير واقعي. ما نجادل فيه، هو أن أمريكا في راهنها، هي ليست أمريكا ما قبل حركة الحقوق المدنية، في منتصف ستينيات القرن الماضي، حين كان السود يمنعون من الجلوس في مقاعد الحافلات الأمامية، وحين كانت المطاعم تمنع دخولهم. وبالمثل، اختلف وضع المرأة. من كان يصدق أن أحفاد الرقيق الذين جيء بهم مقيدين بالأصفاد، قبل أربعمائة عام، سيصلون إلى هرم السلطة، ويغيرون الكثير من المعالم السياسية والاجتماعية في البلد الذي يتصدر قيادة العالم.
وعلى الصعيد الرأسمالي، غاب انجيل “ثروة الشعوب” لآدم سميت، وباتت دولة الرفاه من مسلمات النظام الأمريكي. وكانت مرحلة السيتينات، من القرن الماضي، قد شهدت بروز نظرية “التلاقي”، حيث جرى التوقع باتجاه أمريكي نحو الاشتراكية، من خلال تعزيز دور دولة الرفاه، وباتجاه سوفييتي نحو الديمقراطية. لكن ذلك التنظير، تلاشى بعد السقوط الدرامي والمدوي للسوفييت، وتفرد الدور الأمريكي، وتنمره بالساحة الدولية.
وبالمثل لن يجادلنا أي كان، بأن أمريكا ستقبل بالدور الصيني، الذي برز خلال العقود الماضية، والذي أصبح مكافئا في قوته الاقتصادية للقوة الأمريكية. لكن هل بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الخلف. ذلك أمر مستحيل، وغير تاريخي. وهكذا فإن نظام أمريكا لا يعيد انتاج ذاته، فما نشهده هو تحول أخر، سيلقي بظلاله سريعا، على الأوضاع في أمريكا، وما حولها والعالم أجمع.. والدورة التاريخية، ستواصل حضورها… والمهم أن يكون ذلك الحضور في خدمة الإنسانية، وصناعة مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.
التعليقات مغلقة.