صعود الأيديولوجيا في صناعة السياسية الأمريكية
لم تمر السياسة الأمريكية، بمشاهد تشبه الذي جرى في الأعوام الأخيرة. أخر تلك المشاهد، هو الاتهام المتبادل، بين الرئيس السابق، دونالد ترامب، والرئيس جوزيف بايدن، بإخفاء وثائق سرية، وفي كلا الاتهامين هناك ما يمكن توصيفه بالفضيحة. والأهم في هذا السياق، هو اعتراف البيت الأبيض بالعثور على عدد من الوثائق السرية في منزل بايدن الخاص، في ويمنغتون بولاية ديلاوير، يعود تاريخها إلى فترة توليه منصب نائب الرئيس خلال عهد باراك أوباما.
وكانت وزارة العدل الأمريكية، قد أوضحت في مطالع شهر سبتمبر الماضي، أن عناصر من مكتب التحقيقات الفدرالي، بناء على موافقة قضائية، صادرت 11 مجموعة من الوثائق السرية، إثر تفتيشهم منزل الرئيس الأمريكي السابق، ترامب، في ولاية فلوريدا، من ضمنها وثائق صنفت بالسرية للغاية.
وإذا كان مقبولا إعتبار الحملة المتبادلة بين قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واتهامهم لبعض بخيانة الدستور، جزءا من التنافس، الذي احتدم بين الحزبين بشكل لافت في السنوات الأخيرة، فإن من غير المفهوم، أن ينتقل الصراع لكتل الحزب الجمهوري. وقد بلغ ذلك الصراع أوجه في انتخاب المتحدث باسم الكونجرس، حيث حال وقوف يمين الحزب، بزعامة ترامب، دون فوز الجمهوري، كيفن مكارثي برئاسة مجلس النواب. وتكررت الجولات الانتخابية، خمسة عشر مرة، في ظاهرة فريدة لم يشهدها مبنى الكابيتول منذ أكثر من مائة عام. وجرى فوز مكارثي بعد تلك الجولات، إثر تقديمه تنازلات، بعدم الخروج عن سياسة اليمين في حزبه، وتعهده بالاستقالة مستقبلا، في حال خروجه عن تلك السياسة.
المشهد الآخر، غير المألوف في التاريخ الأمريكي، تسببت فيه هزيمة ترامب، أمام منافسه بايدن، في الانتخابات الرئاسية، حيث قام أنصار ترامب بهجوم على مبنى الكابيتول.
نهتم في هذا الحديث، وأحاديث أخرى قادمة بمحاولة معرفة أسباب هذا التحول غير المسبوق، في مجرى السياسة الحزبية بأمريكا، منطلقين من فرضية مؤداها إن السبب الرئيسي لذلك، هو أولا الضعف المتلاحق في موقع رئاسة الدولة. وانتقال السياسة الأمريكية، عن ما تم توصيفه تاريخيا بالبراجماتية، “قانون المنفعة” إلى التعصب الأيديولوجي، منذ مطالع الثمانينيات من القرن المنصرم، حتى يومنا هذا.
يعود السبب الرئيسي الأول، للأزمة، الذي يتمثل في ضعف الموقع الرئاسي، إلى تغول دور مؤسسات الدولة العميقة، على دور المؤسسة التنفيذية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي يشكل اغتيال الرئيس الأمريكي، جون كنيدى، في مدينة دلاس، بولاية تكساس أحد تعابيره الصارخة. فهناك ما يشبه الإجماع، لدى أجهزة الميديا، والأمريكيين جميعا على ضلوع الدولة العميقة في عملية الاغتيال.
لقد أفرزت نتائج الحرب العالمية الثانية، عصر النجوم، الذي تمثل بوجود قادة تاريخيين، بكاريزما خاصة، على مستوى العالم. كان هناك روزفلت وديجول وتشرشل وستالين وشوآن لاي وتيتو وسوكارنو وعبد الناصر، ولكل من هؤلاء دوره، إما في قيادة بلاده نحو النصر، أو في قيادة حركة تحرير بلاده من الاحتلال، أو في تشكيل كتلة عدم الانحياز. وقد تسلم هؤلاء قيادة بلدانهم بعد الحرب مباشرة، وتربعوا في حينه، على عرش قيادة العالم المعاصر.
بعد الحرب مباشرة، نشط الماركسيون الجدد، بالولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية. وكانت فترة صعود كبير لفكر أنطونيو غرامشي، سكرتير الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي شكل في حينه ثورة في النظرية الماركسية. وطغت شعارات الكتلة التاريخية، والمثقف العضوي، ونقد الانتلنجسيا على ما عداها من الشعارات. وفي مقاومة هذه التوجهات الجديدة، من قبل الغرب الرأسمالي، اعتمدت أمريكا في المراحل الأولى لصعود اليسار، سياسة القمع الممنهج، وبرزت مرحلة استبداد ومصادرة للحريات عرفت بالمكارثية، نسبة إلى جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي وصف عام 1946م، كثير من أعضاء الكونجرس بالعمالة للشيوعية وطالب بإبعادهم، وبتصفية الوجود الشيوعي في مؤسسات الدولة والجامعات، ومراكز البحث العلمي، وحيثما يتواجدون.
لكن المرحلة المكارثية، لم تحقق أهدافها في القضاء على تلك الأفكار. وقد اكتشفت أجهزة الأمن الأمريكية، ومؤسستها الناشئة آنذاك، “السي آي إيه” أن نجاح اليسار في أمريكا والغرب، يعود إلى عدم وجود علم سياسي تحليلي وتفكيكي في الغرب، واكتفاء الحقل الأكاديمي في هذا المجال، على التوصيف، وإنه حان الوقت لتشكيل نظريات سياسية عديدة، على غرار ما هو مألوف بالأسواق الرأسمالية من تعدد السلع، وخضوعها لقانون العرض والطلب. ومن هنا كانت بداية الآيديولوجيا.
ما علاقة ذلك بالتحولات الراهنة، التي تجري الآن في مبنى السياسة الأمريكية، ذلك ما سوف نناقشه في الحديث القادم بإذن الله.
د. يوسف مكي
التعليقات مغلقة.