صراع إرادات..
ترددت كثيرا في اختيار عنوان لحديث هذا الأسبوع، ومصدر التردد أن المتغيرات السياسية والأحداث تجري بسرعة البرق، تكتظ وتتزاحم من حواليك، ولا تمنحك فرصة للتأمل. ويسودك اعتقاد أن كل حدث فيها هو من الأهمية بحيث يستحق أن تفرد لعنوانه حديث خاص.. ولكنك ما تكاد تبدأ بذلك حتى تنتابك الخشية من أن بوصلتك ضلت هدفها، وأن ما حسبته مهما طغى عليه ما هو أهم منه بكثير. والقائمة زاخرة بأحداث ومتغيرات مفاجئة ودراماتيكية، لعل نقطة التحول فيها قد بدأت مع حالة الإستهجان التي قوبلت بها مرافعة وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول والتي قدم فيها أدلته “الدامغة” والمثبتة لخروقات القيادة السياسية في العراق لقرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بنزع أسلحة الدمار الشامل. وكذلك معلومات عن علاقات القيادة العراقية بتنظيم القاعدة، ومنظمات أخرى تعتبر إرهابية من وجهة نظر الإدارة الأمريكية.
لقد سعت الإدارة الأمريكية من وراء مرافعة وزير الخارجية الأمريكي إلى تحشيد الدول الأعضاء في مجلس الأمن من أجل استصدار قرار يجيز العدوان على العراق، ويمنحه المشروعية الدولية، لكن كافة الدول الأعضاء، باستثناء التابع البريطاني، رفضت بشكل أو بآخر ما جاء في تلك المرافعة، وطالبت بمنح فرق التفتيش وقتا أطول لاستكمال مهماتها. ولم يبق سوى أن تنتظر تلك الإدارة إلى أن يصدر تقريري رئيس وكالة الطاقة الذرية، محمد البرادعي، ورئيس لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، هانز بليكس. وكانت إدارة الرئيس بوش مطمئنة إلى حد كبير إلى أن نتائج التقريرين لن يكونا في صالح العراق، خاصة بعد أن قام الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه بالإتصال هاتفيا ببليكس وطلب إليه أن يكون قاسيا في تقريره. وكانت المفاجأة التي لم يحسب وزير الخارجية الأمريكي حسابها أن التقريرين جاءا في صالح العراق، وأثبت تقرير البرادعي خلو العراق من أي برامج تسلح نووية، فيما أكد تقرير بليكس على أن فرق التفتيش تتلقى العون والمساعدة من قبل الحكومة العراقية، وأن بالإمكان التوصل إلى نزع أسلحة الدمار الشامل من العراق دون الحاجة إلى حرب تشنها أمريكا عليه.
إن الذين شاهدوا وضع وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول أثناء قيام البرادعي وبليكس بقراءة تقريرهما، لحظوا بوضوح حالة الإحتقان والإرتباك على وجهه، وذلك مفهوم جدا. فوزير الخارجية كان بين أفراد القلائل، في إدارة الرئيس بوش، الذين طالبوا رغم معارضة طاقم الصقور الممثلين في نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي كونداليزا رايس ووزير الدفاع رامسفيلد، بأن لا تنفرد الإدارة الأمريكية باستخدام القوة على العراق، وأن من الأفضل أن تحصل على قرارات من مجلس الأمن تؤيد عدوانها وتمنحه المشروعية، وقد أيده في ذلك مجموعة من السياسيين المخضرمين الذين كانوا في سدة الحكم أثناء ولاية جورج بوش الأب. لقد جاءت تقارير البرادعي وبليكس لتنهي بشكل قاطع مراهنة كولن باول في الحصول على غطاء دولي يشرع للعدوان. وليس مستبعدا أن يكون الوزير ذاته أول من يكون ضحية هذه المراهنة.
وكان الموقف الآخر الذي فاجأ الإدارة الأمريكية هو رفض حلف الناتو والإتحاد الأوروبي الإستجابة لطلب الحكومة التركية إرسال قوات من الحلف لحمايتها من أي عدوان عراقي محتمل عليها. وقد علق وزير الخارجية الألماني على هذا الطلب بأنه نكتة سخيفة، إذ كيف يمكن للعراق الذي تحاصره الجيوش والبوارج والقاذفات الأمريكية من كل جانب أن يعتدي على بلد بجيشا ضخما يبلغ تعداده مليون مجند، ويتحالف مع أعتى قوة على الأرض أن يتعرض لعدوان من بلد يئن تحت وطأة الجوع والحصار منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما. ولا شك أن المواقف الصلبة لحكومات ألمانيا وفرنسا وبلجيكا واليونان قد شكلت عقبات كأداء أمام المشروع الأمريكي للعدوان على العراق، مما دفع بوزير الدفاع الأمريكي، رامسفيلد، في عملية تعريض واضحة بهذه الدول، إلى تصنيف أوروبا القديمة بأوروبا العجوز، في محاولة لتمييزها عن دول أوروبا الشرقية التي انضمت حديثا للناتو، والتي حظيت من قبل رامسفيلد بلقب أوروبا الجديدة.
وكانت المفاجأة الأكثر إيلاما، هي خروج أكثر من خمسة عشر مليون متظاهر ضد الحرب في أوروبا. فقد قال الأوروبيون حكومات وشعوبا كلمتهم.. لا أحد يريد الحرب على العراق. ففي إيطالبا، وهي دولة أيدت حكومتها الموقف الأمريكي خرج في مدينة روما وحدها أكثر من مليوني متظاهر، وفي مدريد عارض غالبية الأسبانيون موقف حكومتهم وخرجوا في مظاهرة تجاوز المشاركون فيها المليوني شخص، رفعت شعارات مناوئة للحـرب. وكلك فعل البريطانيون، والألمان واليونانيون والبلجيكيون.. وعمت مظاهر السخط والغضب على السياسة الأمريكية مدنا أسيوية وأفريقية. وأصبحت السياسة الأمريكية العدوانية في وضع لا تحسد عليه.
لم تفاجأ الإدارة الأمريكية وحدها بهذه التطورات، ولكنها فاجأت أيضا القادة العرب الذين كانوا يتوقعون التفافا دوليا حول مشروع العدوان الأمريكي، وكانوا يهيئون أنفسهم لعقد قمة عربية بالقاهرة في نهاية هذا الشهر. وقد جرى الترويج لنتائجها مقدما في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وخلاصتها مناشدة القيادة العراقية التنحي عن السلطة ومغادرتها إلى مكان آمن، حتى يجنب الشعب العراقي ويلات حرب مدمرة، ويتمكن الأمريكيون من احتلال العراق سلميا، دون حرب. وكان القادة العرب يتصورون أن موقفهم هذا، سيكون متقدما وله أرجحية على المواقف الأخرى، إذا ما قرعت طبول الحرب. وأنهم بذلك سيبدون أكثر حرصا على شعب شقيق. لكن موقفهم جاء متخلفا بأشواط كبيرة على مواقف الحكومات والشعوب الأوروبية التي وقفت بشكل حاسم ضد العدوان. وفي هذا الإطار لم يكن مستغربا أن يفشل اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد هذا الأسبوع في القاهرة، وأن لا يتوصل إلى تحديد موعد لاجتماع القمة العربية القادمة، ويكتفي بإصدار عبارات طنانة، مؤيد للعراق، ولكنها لا تسمن أو تغني من جوع. فلا أحد يتوقع من أية دولة عربية تتواجد قوات أمريكية على أراضيها أن تمنع الإدارة الأمريكية عن استخدام تلك القواعد اثناء المباشرة بالعدوان، خاصة وأن البيان لم يشأ حتى هذه اللحظة أن يغضب الإدارة الأمريكية، فامتنع عن ذكر اسمها كجهة لا تلوح فقط بالعدوان، بل باشرت عمليا في تنفيذه. وقد حمل البيان ذاته، عبارات استرضاء لهذه الإدارة حين سجل ضمان المجتمعين لأمن دولة الكويت، وهي البلد الذي يتحشد فيه أكثر من مائة ألف جندي أمريكي، والذي ينتظر أن تنطلق منه جيوش المعتدين في حربهم على العراق.
رد الفعل الشعبي العربي، رغم حالة الإحتقان الذي يمر به، كان متماهيا مع موقف الحكومات العربية، ففي القاهرة، قلب العروبة النابض خرج ألف متظاهر ضد الحرب من أصل ثمانين مليون مواطن. وبالمثل خرجت مظاهرات خجولة هنا وهناك في دمشق وبيروت والبحرين.. وحدها المقاومة الفلسطينية، خرجت عن حالة التماهي هذه، حيث قامت بعملية موجعة بالكيان الصهيوني، فجرت خلالها دبابة هي الرابعة من نوعها خلال عام واحد، لتعلن أن هذه الأمة لا تزال حية، وأنها مستمرة في المقاومة والقتال، ولتقدم الرد العملي على مشاريع الإستسلام والتسوية. ولتؤكد من جديد أنها تقف بالمرصاد لمشاريع الهجرة والتوطين التي تجري على قدم وساق الآن في الأراضي المحتلة، حيث يجري استقدام الآلاف من يهود الفلاشا بعد أن تم التنسيق والإتفاق مع الحكومة الأثيوبية حول ذلك.
ما الذي يجمع إذن بين هذه الأحداث. إنه صراع إرادات بين الشعوب والدول، تحاول فيه كل قوة أن تثبت وجودها، وأن تتشبث بمواقعها، وأن تحقق أقصى المكاسب لصالحها. فأوروبا تثق بأن الحرب الأمريكية على العراق لا تهدف، كما تدعي إدارتها إلى نزع أسلحة الدمار الشامل لديه ومنعه عن الإعتداء على جيرانه، بل الإستيلاء على نفطه وثرواته. وتعلم أيضا، أن احتلال العراق من قبل أمريكا، إذا ما تحقق، سيكون تهديدا مباشرا لها ولأمنها. إنه يعني أن أمريكا سوف تكون قادرة على تحديد حجم النمو الإقتصادي في البلدان الأوروبية وفي الصين والهند واليابان والعالم بأسره، من خلال تحكمها بأسعار النفط وبالكميات المنتجة منه في المشرق العربي بأسره.
ولهذا فإن شعوب العالم ودوله، وبضمنه شعوب القارة الأوروبية، حين تقف في وجه الغطرسة والهيمنة الأمريكية، فإنها لا تدافع فقط عن مبادئ الحق والعدل، ولا تساهم فحسب في إرساء الأمن والسلام الدوليين، ولكن أيضا تدافع عن أمنها ومصالحها ومستقبلها.
فمتى سيعود الوعي لقادة الأمة العربية وشعوبها، فيدركون أن أمنهم الحقيقي وضمان مصالحهم ومستقبلهم لن يتأتى بحالة التماهي والإستسلام للمشاريع الأمريكية المشبوهة، بل بالإنخراط في صراع الإرادات، والدفاع عن مبادئ الحق والعدل والإنتصار لأهلهم وأشقائهم في العراق.
yousifsite2020@gmail.com
تاريخ الماده:- 2003-02-22