صراع أمريكي روسي على سوريا

0 377

قاعدة مهمة في السياسة، تؤكد أن أي صانع قرار سياسي ناجح، لا بد وأن يكون قرأ ميكيافيلي، وتعلم من كتابه ذائع الصيت “الأمير”. وفي هذا المضمار، فإن أهم درس يتعلمه الكبار في مجال العلاقات الدولية، أن الأخلاق وقيم الحرية والديمقراطية مهمة بقدر خدمتها للمصالح الحيوية والمتطلبات الإستراتيجية، وأنه ليست هناك صداقات دائمة. القانون الدولي، ليس وحده الضامن لحسم الخلافات والتنافس، بين الدول الكبرى، ولكنه صراع الإرادات. ولا يستثنى من هذا التوصيف شرق أو غرب.

 

في الأحداث الدراماتيكية التي عمت عددا من البلدان العربية، حضرت من جديد نصوص ميكيافيلي بقوة. وكان صراع الإرادات قد بدأ بالميل رأسيا بقوة، منذ سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. سقط النظام الشيوعي، ومع سقوطه سقطت الإمبراطورية السوفييتية. وبرزت الاتجاهات القومية، وأعلنت جمهوريات السوفييت السابقة استقلالها الواحدة تلو الأخرى. وبالتزامن مع ذلك، تفاعلت أوروبا الشرقية مع الإعصار، فأعلنت “ربيعها”، ملتحقاقها بركب المنتصرين، وانضمامها للوحدة الأوروبية وحلف الناتو.

لقد تم إلحاق تركة الإمبراطورية السوفييتية سريعا، بالغرب وخرجت روسيا الاتحادية خالية الوفاض. ولم يبق لديها، على صعيد القوة ما تعتد به، سوى ترسانة نووية كبيرة وأسلحة فتاكة، يحتاج تأمين صيانتها إلى دعم اقتصادي أمريكي وأوروبي مستمر. وحتى في الهند الصينية، سارع التنين الصيني لتحقيق اختراقات واسعة في تلك البلدان، وأحكم قبضته بقوة عليها، مزيحاً عنها حليفه الروسي.

في الوطن العربي، تراجع الجرف الروسي كثيرا، فاليمن الجنوبي، توحد مع الشمال. ومع الوحدة اختفى عن الواجهة للأبد الحكام الذين تعلموا مبادئ الثورة في جامعة باتريس لومونبا في موسكو. وخسر الروس القواعد والتسهيلات العسكرية، التي تمتعوا بها أثناء حكم الرفاق. وكانت اليمن برئاسة علي عبدالله صالح، قد بدأت مبكرا في تطبيع علاقتها بالغرب عموما، وبالولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. ومع التطبيع تراجعت العلاقة مع الروس، وتغيرت أنظمة تسليح الجيش اليمني، ولم تعد مقتصرة على السلاح الروسي.

وكانت مصر، قد اتجهت باندفاعة قوية إلى الغرب. وتم طرد الخبراء الروس، بطريقة مهينة أثناء التحضير لمعركة العبور عام 1973. ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر عام 1978 بين مصر والكيان الصهيوني، انتقلت العلاقة بين مصر والولايات المتحدة إلى مستوى إستراتيجي، كان من نتائجه حدوث قطيعة اقتصادية شاملة مع الاتحاد السوفييتي السابق، وتغيير في أنظمة التسلح. وكانت الحرب العراقية – الإيرانية فرصة للنظام المصري ليتخلص من ترسانته العسكرية، السوفييتية الصنع، بتقدميها بأغلى الأثمان للعراق، وليتم استبدالها مصريا بالسلاح الأمريكي والأوروبي. ولم يتبق من التحالف الإستراتيجي السابق بين مصر والسوفييت سوى علاقة دبلوماسية باردة، تكتنفها جفوات وأزمات.

ولم يكن وضع روسيا في الجزائر والسودان، وكلاهما حليفان سابقان للاتحاد السوفييتي ولروسيا لاحقاً، بأفضل من أوضاعهما مع اليمن ومصر. فقد سالت مياه كثيرة على تحالفاتهما السابقة، ولم تعودا تقدمان أية تسهيلات عسكرية.

وباحتلال الأمريكيين للعراق عام 2003، خسرت روسيا حليفا إستراتيجيا آخر، تشعبت علاقاته معها لتشمل جميع المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والتجارة والصناعة والتعاون في المجال العلمي والزراعي. وكان العراق، المعروف بضخامة احتياطه من النفط، يعتمد حتى تاريخ احتلاله، في تسليحه العسكري، واحتياجاته التكنولوجية على روسيا.

وباعلان الثورة الليبية، ضد نظام العقيد القذافي، وتدخل حلف الناتو بقرار من مجلس الأمن الدولي، تحت ذريعة حماية المدنيين الليبيين، خسرت روسيا الاتحادية حليفا رئيسيا آخر من حلفائها. وقد أخذت قيادتها السياسية مؤخرا في التعبير عن ندمها على عدم استخدامها لقرار حق النقض، أثناء التصويت في مجلس الأمن على تدخل حلف الناتو جويا في ليبيا.

الآن يجري صراع شرس في الخفاء بين الروس والأمريكيين، فالإدارة الأمريكية، الحالية كما هي حال سابقاتها، تسعى إلى تجريد روسيا من أي قدرة على الحركة، بعد أن قامت بتطويقها بشكل شبه شامل، في جميع الاتجاهات. والروس يدركون أن تحررهم من نتائج الحرب الباردة، لن يجعل الأمريكيين يتراجعون عن محاصرتهم. وقد أعلنوا بجلاء أن الدرع الصاروخي، الذي تعمل الإدارة الأمريكية، على نصبه في أوروبا الشرقية، هو موجه ضد الصواريخ الروسية وليس لأي هدف آخر. وهم يدركون أيضا حجم النجاحات التي حققها الأمريكيون وحلفاؤهم الأوروبيون، في حرمان روسيا من منابع وطرق النفط الحيوية في منطقة القوقاز والبحر الأسود.

ويرى الروس، أن الحديث عن الحرية والديمقراطية في سوريا، وإدانة قمع الأمن والجيش للشعب السوري، ليس سوى محاولة أخرى، في مسلسل التطويق الإستراتيجي العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا الاتحادية. ولهذا تبدو روسيا مصممة على رفض أي قرار دولي، يجيز للغرب التدخل في الشؤون الداخلية السورية. وإذا ما أصرت الإدارة الأمريكية وحلفائها على مناقشة فرض أية عقوبات على النظام السوري، في مجلس الأمن الدولي، فإن الأكثر احتمالا هو استخدام روسيا لحق النقض، الفيتو ضد أي قرار مقترح بذلك.

فسوريا بالنسبة لروسيا، هي الحصن الأخير المتبقي في البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط. وهي المكان الوحيد بالمنطقة العربية، الذي تقدم فيه تسهيلات للبحرية الروسية، بميناء طرطوس. كما أن سوريا هي البلد العربي الوحيد، الذي لم تتأثر علاقاتها العسكرية بروسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وظلت حتى هذه اللحظة، تعتمد في تسليح جيشها على السلاح الروسي.

إن حيوية العلاقة بين البلدين، وأهميتها الإستراتيجية، هي التي دفعت بالروس لإعادة النظر بمواقفهم السابقة المترددة في تزويد سوريا بالسلاح الدفاعي المتطور. وقد تضمن ذلك منظومة متطورة من الصواريخ البالستية والمضادة للطائرات وغيرها من أنواع الأسلحة وكانت هذه الصفقة هي ثمرة هذه المراجعة. لقد أقدمت القيادة الروسية على ذلك، غير عابئة بردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية الغاضبة.

في سياق آخر، تعزز التعاون العسكري بين البلدين، في مجال العسكرية البحرية. وأعلن عن زيارة قائد الأسطول البحري الحربي السوري، اللواء طالب الباري على رأس وفد عسكري كبير لروسيا ومحادثاته مع القائد العام للأسطول البحري الروسي، الأميرال فلاديمير فيسو تسكي في موسكو لتطوير قدرات البحرية السورية، وميناء طرطوس ليتمكن من تقديم التسهيلات البحرية الضرورية للسفن الروسية وقطعه الحربية البحرية، التي تجوب البحر الأبيض المتوسط، بهدف خلق حالة من التوازن مع الأسطول السادس الأمريكي، بعد أن تم تأهيل الميناء لذلك، بدعم روسي.

تقودنا هذه القراءة إلى التداعيات والمواقف السياسية، تجاه حالة الغليان التي تشهدها المدن والأرياف السورية منذ ثلاثة أشهر. فالواضح أن الروس يعملون بقوة على ضمان استمرار النظام السياسي الذي يقوده الرئيس بشار الأسد، لضمان احتفاظهم بالحصن المتبقي لهم قرب مياه البحر الأبيض المتوسط، بينما يعمل الأمريكيون على استثمار حالة الغليان، ليحققوا في آن معا، جملة من أجنداتهم السياسية بسوريا والمنطقة.

الأهداف الأمريكية أكثر اتساعا، من التدخل في الشؤون الداخلية السورية. فبينما ترتكز السياسة الروسية، على التصدي لحالة التطويق التي يفرضها الأمريكيون بحقهم، ومواجهة نزعاتهم التوسعية، تعتمد السياسة الأمريكية على المبادرة وسرعة الحركة. وإسقاط النظام في دمشق يحقق لها جملة من الأهداف. لعل في أعلى قائمة الأهداف القضاء على قوة حزب الله اللبناني، وإبعاد إيران عن البحر الأبيض المتوسط. وكلاهما حليف إستراتيجي لدمشق. يضاف إلى ذلك، اضعاف المقاومة العراقية، التي يتمركز كثير من مقراتها في دمشق.

يعتمد التحرك الأمريكي الجديد في المنطقة، على استثمار “ربيع الثورات العربية” لتحقيق ما عجز الاحتلال المباشر عن تحقيقه. وللعودة مجددا لصياغة الخارطة السياسية لعموم البلدان العربية. إن الأسلحة التي توجه من إيران عبر دمشق، إلى لبنان لدعم قوة حزب الله، والأسلحة التي تهرب عبر الأراضي السورية للعراق، لمنظمات المقاومة العراقية، سيجري تعطيلها، من خلال إشغال النظام السوري بمواجهة حالة الغليان التي تمر بها البلاد، تمهيدا للإطاحة به. وتجري الآن جولة معاكسة من تهريب السلاح، فبدلا من تهريب السلاح من خلال سوريا، إلى العراق ولبنان، أصبح السلاح يهرب بالاتجاه الآخر، لدعم المعارضة السورية، عبر الحدود من مختلف الاتجاهات.

ويتوقع الأمريكيون أنه إذا ما تمكنوا من إسقاط النظام السوري، سيضمنون وصول نظام حليف في دمشق، يسهل عملية التوصل إلى اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني. وسينهون وجود حزب الله اللبناني، وفي أسوأ الأحوال، سيجري تحويله، من قوة عسكرية، إلى حزب سياسي، شأنه في ذلك شأن بقية الأحزاب اللبنانية الأخرى. وبذلك يتمكنون من تطويق إيران.

ستتواصل لعبة القط والفأر بين الروس والأمريكان، ويستمر صراع الإرادات. أما النتائج فهي رهن لمبادرات عملية، وخطوات سريعة تقدم عليها القيادة السورية، باتجاه تحقيق المصالحة مع المعارضة والشعب. وما لم يتحقق ذلك، فإن المنطقة برمتها، مقدمة على تحولات أكثر دراماتيكية… ولن يطول بنا الانتظار…


اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة عشر − 10 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي