شراكة أمريكية عراقية أم انتداب من أجل النفط؟!

0 193

 

 

منذ الحظر النفطي على الدول التي دعمت الكيان الصهيوني في حرب أكتوبر عام 1973، والذي أدى إلى حدوث الطفرة النفطية الأولى، بدأت مراكز الدراسات الاستراتيجية في ستانفورد وهارفرد، بالحديث عن صياغة استراتيجيات جديدة تضمن تدفقا مستمرا لهذا السائل الحيوي لأسواق الغرب. وفي مراحل لاحقة، تطورت الرؤى والاستراتيجيات الأمريكية، منتقلة من العمل على ضمان تأمين تدفق النفط إلى الهيمنة على آباره، وإن كان ذلك بالسطو المسلح.

 

وفيما بعد الحرب، تمت إعادة صياغة نظرية القوة، التي أصبحت ضمن الدروس الأكاديمية بالمعاهد العليا قي أقسام العلاقات الدولية، والتي أسسها هنري كسينجر، مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، لتصبح في زمن المحافظين الجدد ركيزة للأمن القومي الأمريكي. ووفقا للصياغة الجديدة، فإن الإدارة الأمريكية ينبغي عليها شن حروب وقائية، وعدم الإكتفاء بالحروب الاستباقية. والفرق كبير بين الحرب الوقائية والاستباقية. فالحرب الاستباقية تأتي في سياق افتراض عدوان محتم، وليس مجرد احتمال، تأتي الحرب الاستباقية لاعتراضه، ولاحتوائه عسكريا، والحيلولة دون وقوعه، وقد حدثت مثل هذه الحرب في التاريخ مرات ومرات…

 

أما الحروب الوقائية، فإنها تتضمن الزج بقوة عسكرية هائلة، تجاه خصم مفترض، تحت ذريعة تهديد ملفق أو متخيل. ويحاول المعتدي، في هذا النوع من الحروب أن يضمر الأهداف الحقيقية لعدوانه، مركزا على أنه بحربه الوقائية إنما يقوم بعمل إنساني نبيل، دفاعا عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، أو التصدي لجرائم حرب ضد الإنسانية تمارسها أنظمة ديكتاتورية.

 

وبعد فترة وجيزة من وصول السيد جيمي كارتر لسدة الرئاسة، تسارعت وتائر الاهتمام بمنابع النفط في المنطقة، وجرى الحديث عن إمكانية احتلال آبار النفط، وشكلت قوة للتدخل السريع، وبدأت تدريباتها في ولاية أريزونا في صحاري مماثلة للمناطق التي تتواجد فيها آبار النفط ﺒ”الشرق الأوسط”. وأعلن الملك فيصل بن عبد العزيز بأن السعودية سوف تقدم على حرق آبارها النفطية، في حال تعرضها لأي عدوان. وأثناءها برزت دراسات عدة حول العراق، بعضها يتعلق باحتياطياته من النفط، وبعضها الآخر، يتعلق بكيفية تدمير بنية الدولة العراقية، وتفتيتها، تمهيدا للهيمنة على آبار النفط.

 

في المحور الأول، قدر استراتيجيو النفط من الأمريكيين، وعلى رأسهم الخبير الأمريكي الشهير، كنغ هيوبرت أن الاحتياطيات النفطية الثابتة حتى تاريخ صدور التقرير في منتصف السبعينيات تصل إلى 115 مليار برميل من النفط الخام. في حين يشير الكاتب حمدان حمدان في كتابه حرب بوش الديموقراطية إلى أن أكثر التقديرات الأمريكية تشاؤما، تؤكد وجود احتياطيات نفطية بالصحارى الغربية للعراق، لا تقل بحسب الدراسات الحديثة عن خمسين مليار برميل نفط. وهي احتياطيات تزيد على الاحتياطيات النفطية للمكسيك والولايات المتحدة الأمريكية مجتمعة. والواقع أن التقديرات اللاحقة للاحتياطيات، في منتصف التسعينيات قد قدرت الاحتياطي العراقي من النفط ما بين 250 ملياراً إلى 300 مليار برميل من النفط الخام، وأن مناطق أخرى ما زالت تحت الاستكشاف، وتشير التقديرات الأولية إلى أنها تحوي كميات ضخمة مما يسيل له لعاب صانع القرار الأمريكي.

 

أما المحور الثاني، فتناول البنية الاجتماعية والديموجرافية للعراق. وقد ورد الحديث حولها في صيغة دراسات استراتيجية، تحدثت عن العراق، باعتباره أرضا رخوة، قابلة للاختراق، بسبب تكوينه الفسيفسائي، المتمثل في تعدد القوميات والطوائف. وكان الحديث يشير بوضوح إلى أن تأمين هيمنة دائمة على آبار النفط العراقية، يقتضي تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، قسم للأكراد ويضم مدينة كركوك بالشمال، وآخر للشيعة في الجنوب، وتتواجد آبار النفط بكثافة في كليهما. أما القسم الثالث، فهو بالوسط، ويشمل ما أطلق عليه الأمريكيون بعد احتلال العراق ﺒ”المثلث السني”.

 

ولم يكن صدفة هذا التزامن بين تطوير نظرية الحروب، بالدراسات الأمريكية لتشمل الحرب الوقائية، وبين تشكيل قوة التدخل السريع، وقيامها بمناورات متكررة في المنطقة تحت مسمى مناورات النجم الساطع، قبل ثلاثين عاما من احتلال العراق. كما لم تكن صدفة أيضا أن يصعد شاه إيران في تلك الفترة من عدوانه على العراق، وأن يقدم بالتعاون مع الصهاينة، مختلف أشكال الدعم لتمرد البرزاني بالمناطق الكردية العراقية، وبالتساوق مع تلك الإعتداءات كان هناك تحريض على الإحتراب الداخلي، يقوده محمد صالح الحكيم، ابن المرجع الديني السيد محسن الحكيم الطباطبائي، في المدينتين المقدستين، النجف وكربلاء. لقد كانت تلك مقدمات لازمة لإعداد المسرح للأحداث التي أخذت بالتتابع بالعقود الثلاثة المنصرمة.

 

وكان إعصار الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، قد شكل فرصة ثمينة ومناسبة لفتح الأرشيف، ووضع النظريات والإستراتيجيات التي اعتمدت من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وفي المقدمة منها استراتيجية الحرب الوقائية، والاستفادة من نصوصها، وخاصة فيما يتعلق بالذرائع التي يمكن أن تستخدم كمبرر للعدوان على العراق، واحتلاله وتطبيق استراتيجية تفتيته. وكانت التلفيقات جاهزة.. بدأت بدمج العراق، بما أطلق عليه الرئيس الأمريكي، جورج بوش بمحور الشر.

 

وبسرعة تفوق سرعة الضوء، أصبح ما هو ملفق ومتخيل أمرا واقعا يناقش في أعلى المستويات بمجلس الأمن الدولي، وأروقة هيئة الأمم المتحدة، والمحافل الدولية. أسلحة دمار شامل، وعلاقة بتنظيم القاعدة… أضيف إليها لاحقا مقابر جماعية وجرائم حرب ضد الإنسانية.

 

وصدرت قرارات مجلس الأمن بتشكيل فرق للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، لم تترك مكانا في العراق، إلا وتم التيقن من خلوه من تلك الأسلحة، بما في ذلك القصور الرئاسية والمقرات الحكومية والمزارع والمصانع والجامعات، والمدارس الثانوية والابتدائية، وحتى المستشفيات والعيادات العامة لم تسلم من التفتيش. وكان قرار الإدارة الأمريكية باحتلال العراق، قد اتخذ مبكرا جدا، بعد أيام قليلة من أحداث سبتمبر عام 2001، بل بعد أقل من مرور 72 ساعة على ذلك الحدث.

 

في هذا السياق، يشير بوب ودورد في كتابه خطة الهجوم الصادر بالعربية عن مكتبة العبيكان إلى أن قرار الحرب على العراق، قد اتخذ في حينه، باقتراح من وزير الدفاع الأمريكي السابق، دونالد رامسفيلد، وأن المهمة أنيطت منذ الحادي والعشرين من سبتمبر عام 2001، بتومي فرانكس قائد الجيش الذي نفذ مهمة الاحتلال. وعند موعد الغزو في النصف الأخير من شهر مارس عام 2003، كانت الخرائط والقرارات وحاملات الطائرات، قد أعدت بدقة كي تشق طريقها نحو الكنز، الذي أصبح بكل المقاييس الأمريكية، مفتاح الهيمنة على العالم بأسره في القرن الواحد والعشرين.

 

وكان داعية التحريض الأول على احتلال العراق، بول وولفويتز قد أوضح على كرسي الاعتراف، بعد أن أصبح بعيدا عن الإدارة، وعين رئيسا للبنك الدولي بصورة لا لبس فيها إن الحرب على العراق كانت بصورة أساسية من أجل النفط.. لكنه سكت عن علاقة ذلك بالصياغة الأمريكية والصهيونية لشرق أوسط جديد، أو كبير.

 

واقع الحال، أن جل هذه القراءة كانت حاضرة، بشكل أو بآخر في معظم الأحاديث التي نشرناها على صفحات التجديد العربي*، قبل احتلال العراق. ففي حديث نشر تحت عنوان قرار مجلس الأمن الدولي 1441 نزع لأسلحة الدمار أم اختيار للحرب، صدر في 13 نوفمبر عام 2002، واستكمل بالأسبوعين التاليين، أكدنا به أن ذلك القرار هو مقدمة لشرعنة الحرب، بهدف احتلال العراق، واعتبار تلك الخطوة نقطة الارتكاز في مشروع الشرق الأوسط، والانطلاق منها إلى البلدان المجاورة. وأنه ليس لذلك علاقة بالذرائع التي ساقتها الإدارة الأمريكية للذهاب للحرب. وتكشف أنه ليس هناك أسلحة دمار شامل، ولا علاقة للحكومة العراقية التي ظلت قائمة حتى احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003 بتنظيم القاعدة.

 

وكانت النتيجة أن الجنة الموعودة بعراق ديموقراطي جديد قد تبخرت، كما تبخر معها كثير من المشاريع الأخرى، ومن ضمنها التمدد السريع لمشروع الهيمنة الأمريكي. لكن الإدارة الأمريكية، ما زالت تتمسك بغطرستها، وتصر بمختلف الوسائل، على أن يبقى العراق وثرواته رهينة لسياساتها. ومن هنا تكشفت عبقرية صناع القرار في هذه الإدارة عن صياغة معاهدة أمنية مع الحكومة المعينة من قبلها، تضمن لها استمرار احتلال العراق، في صيغة انتداب “قانونية”، تكفل لها ديمومة التواجد العسكري والسياسي والاقتصادي ببلاد الرافدين.

 

وبغض النظر عن التفاصيل، التي سنتناولها في حديث قادم بإذن الله، فإنه يمكن القول إن محاولة فرض المعاهدة الأمنية المقترحة، لن تكون بأحسن حالاً من المحاولات البريطانية في العراق بالنصف الأول من القرن المنصرم، فقد لجأت لربط العراق بعدد من الاتفاقيات والمعاهدات، بدءا من معاهدة الانتداب عام 1922 ومعاهدة 1925 مرورا بمعاهدة عام 1930 وليس انتهاء بمعاهدة بورت سموث عام 1948 التي أسقطها العراقيون في وثبة كانون الشهيرة.

 

وكما واجه البريطانيون، قبل ما يقرب من القرن، مقاومة عراقية ضارية، أرغمتهم على الرحيل، دون قيد أو شرط، سيواجه الأمريكيون ما واجهوه طيلة الخمس سنوات المنصرمة من مقاومة باسلة، لن يجد معها تغيير المصطلحات طالما بقي هدف السطو جاثما فوق الصدور. ولن ينقذ الأمريكيين أن تكون لهم 50 قاعدة عسكرية تجول في طول البلاد وعرضها، ولن تسعفهم مهاجمة المدن العراقية وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، واعتقال أي شخص أو قتله دون مساءلة، حسب ما تسرب عن النصوص السرية للمعاهدة المقترحة، سيعود للعراق وجهه العربي، ويمارس من جديد، حقه في تقرير مصيره، وفقا لمبادئ القانون الدولي، وسوف يكون نهاره طويلا، مسربلا بالبهجة والفرح.

 

cdabcd

 

1-السياسة الأمريكية وضرورة وعي المغيب من التاريخ

 

2-مجلس الأمن الدولي: نزع لأسلحة الدمار أم اختيار للحرب

 

3-القرار 1441: نزع لأسلحة الدمار أم اختيار للحرب (الجزء الأول)

 

4-1441: نزع لأسلحة الدمار أم قرار بالحرب (الجزء الثاني)

 

5-نزع للسلاح أم نزع للإرادة؟!

 

6-تمخض الجبل فولد فأرا!

 

7-الإستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة

 

8-مستقبل الشرق الأوسط بعد الحرب على العراق: قراءة أولية

 

9-هزيمة أخلاقية

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة اطيف الحرية)

 

تحية طيبة…

مقال رائع يتضمن شرحاًتفصيلياً ووافياً لطبيعة واستراتيجسة التفكير الأمريكي للمنطقة وبالأخص العراق ولا عجب فهذه هي طبيعة الامبريالية المعاصرة لكن مالاحظته هو الحالة التفائلية لدى الكاتب من حيث الاطمئنان والتأكيد على أن فجر الحرية قادم للعراق في حين أن الصورة الواضحة تشي بأن وتيرة المقاومة في العراق قد خفت حدتها. فهل لا ابتعدنا قليلاً عن النظرة المثالية للاوضاع والتركيز على الواقع الموضوعي والذي يتطلب حياله وقفة تأملية فاحصة وبالخصوص عندما لا يكون هنالك مشروع تقدمي تغييري على أرض الواقع.

 

مع التحية وخالص الشكر.

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة بلقيس الملحم)

 

وثبة كانون, هي ما نرجوه من البواسل

بارك الله فيك يا دكتور مكي على طرحك الفذ

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

6 − ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي