ستون عاما على النكبة…

0 206

 

 

كان من نتائج الحرب العالمية الثانية تراجع الدور البريطاني العالمي، على كل الأصعدة، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي (السابق) كقوتين رئيسيتين من غير منازع. وفي سياق تراجع الدور البريطاني، وخروج حكومتها من الحرب مثقلة بالديون، وانسجاما مع وعد بلفور المشؤوم، أبلغت الحكومة البريطانية، عام 1947 عن عزمها التخلي عن انتدابها لفلسطين، وطلبت منها معالجة الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة.

 

وقد أسفرت المداولات في الأمم المتحدة عن تبني جمعيتها العامة في 29 نوفمبر من نفس العام، القرار رقم 181، الذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: الشطران الأولان يقسمان بالتساوي بين الفلسطينيين واليهود. وقد رفض الفلسطينيون والعرب هذا القرار، لأنه لم يأخذ بالاعتبار وضع الفلسطينيين كغالبية تشكل ما يقرب من الـ 70% من تعداد السكان، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، في حين لا يشكل اليهود أكثر من 30% من سكان فلسطين، غالبيتهم لا تحمل وثائق فلسطينية. أما الشطر المتبقي فيضم مدينة القدس، وقد اقترح أن تجري إدارته بنظام دولي، وقد نص القرار على قيام “… دولتين مستقلتين: عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب.”

 

وأثناء احتدام الجدل العربي حول قرار التقسيم، أعلن الصهاينة في 14 مايو عام 1948، من جانب واحد قيام دولة إسرائيل. وكان طبيعيا أن ترفض الحكومات والشعوب العربية الاعتراف بهذا الكيان. واندلعت الحرب مباشرة بين العرب والدولة الصهيونية، وانتهت بهزيمة الجيوش العربية. وكانت نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب، نتج عنها تشريد 775 ألفاً من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة في الأردن وسوريا ولبنان ومصر.. وبقيت أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري المباشر. ومع حدوث النكبة، انتهى الفصل الأول في مأساة الشعب العربي الفلسطيني، لتتبعه فصول أخرى أكثر قسوة ومعاناة ومرارة.

 

ولا شك أن نجاح الصهاينة في مشروعهم، وفشل الحكومات العربية في الدفاع عن عروبة فلسطين، لم يكونا صدفة أو قدرا. بل كانا نتيجة فشل عربي واضح في صياغة استراتيجية عملية وواضحة في مواجهة المشروع الصهيوني. ونجاح ذكي وباهر من قبل الصهاينة في توظيف مجمل الممكنات المتاحة أمامهم.

 

لم تكن الولادة عسيرة للكيان الصهيوني… وكان المخاض طبيعيا، وفرت له كل مستلزمات النجاح، وكانت البداية النظرية للمشروع قد صدرت عن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام 1897م، بالبرنامج الذي صدر عن ذلك المؤتمر والذي جاء فيه: “أن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين، يضمنه القانون العام. ويقترح الاجتماع التدابير التالية من أجل تحقيق هذا الهدف. 1) دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين بواسطة العمال المزارعين والحرفيين والتجار اليهود، 2) تنظيم جميع اليهود وتحشيدهم، بواسطة الفروع المحلية، والتجمعات العامة وفقا للقوانين المسموح بها، 3) تقوية المشاعر القومية اليهودية والوعي القومي، 4) اتخاذ الخطوات التمهيدية، مع مراعاة الحصول على موافقة الحكومة لتنفيذ الخطوات الضرورية لتحقيق الاستراتيجية الصهيونية”.

 

كان ذلك برنامجا عمليا واضحا، بدأ العمل بموجبه فور انتهاء المؤتمر الصهيوني الأول، حيث تم تأسيس الصندوق القومي اليهودي، لدعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وللمضي قدما في الاستيلاء على الأراضي الزراعية بها. ومع مرور الوقت تمكن المهاجرون الجدد من تثبيت أقدامهم، وحيازة مواقع اقتصادية هامة بفلسطين.

 

ومنذ عام 1902، اندفع قادة الصهاينة باستخدام مختلف وسائل الضغط على الحكومة البريطانية، لدعم برنامجهم. وبشكل خاص، أرسل زعيمهم، ثيودور هرتزل رسالة إلى وزير المستعمرات البريطانية، جوزيف شمبرلن، يحرضه فيها على تأييد الاستيطان اليهودي في فلسطين. وخلال عامي 1915 و 1916، ضاعف الصهاينة من ضغطهم على الحكومة البريطانية، وطالب زعيمهم، حاييم وايزمن، الذي خلف ثيودور هرتزل في قيادة الحركة الصهيونية، من الحكومة البريطانية، تبني فكرة قيام وطن يهودي في فلسطين.

 

وإذا كان البرنامج الذي تبناه المؤتمر الصهيوني الأول، الذي أشرنا له آنفا، هو البداية النظرية للمشروع، فإن وعد بريطانيا المعروف بوعد بلفور هو البداية العملية، الأكثر وضوحا على طريق تنفيذ ذلك البرنامج. لقد جاء ذلك الوعد في صيغة رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني، أرثور بلفور إلى اللورد روتشيلد طالبا منه توزيع الوثيقة التالية على العصبة الصهيونية، وكان النص كما يلي: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يسمح بأي إجراء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها المجتمعات غير اليهودية القائمة في فلسطين، ولا بالحقوق أو بالمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.

 

وعلى الرغم من أن وعد بلفور، في نهج ديماغوجي واضح، قد أشار إلى حقوق المجتمعات الأخرى، المدنية والدينية، وليس الوطنية فإن ذلك لم يكن ليعني شيئا، طالما أن الهدف هو إحلال سكان جدد مكان السكان الأصليين، بما يعني استحالة المحافظة على حقوق أصحاب الأرض في الحفاظ على هويتهم والهوية الوطنية لبلادهم. كيف على سبيل المثال، يمكن تأمين حق الفلسطينيين في أرضهم وممتلكاتهم، مع فتح الأبواب على مصاريعها للهجرة اليهودية؟

 

وكيف تتسق حقوق العرب في فلسطين، مع تأكيد بلفور في نص آخر، على أن الحكومة البريطانية “تعتبر قضية اليهود، خارج فلسطين، كواحدة من أهم القضايا العالمية، ذلك لأننا نعتقد أن اليهود لهم حق تاريخي في أن يكون لهم وطن في بلادهم القديمة”.

 

الخلاصة أن قادة العرب، بمن فيه القادة المحليون في فلسطين، كانوا يشهدون عن قرب مراحل تنفيذ المشروع الصهيوني، دون أن يحركوا ساكنا. ودون صياغة برنامج مضاد لمواجهة هذا المشروع، وهو لما يزل في مهده. وقد فرض غياب مشروع المواجهة هذا على الفلسطينيين العزل، أن يتصدوا لإدارة الاحتلال البريطاني، والمهاجرين الجدد إلى فلسطين، في آن معا، دون امتلاك مقومات هذه المواجهة. فكانت النتيجة تقهقر النضال الوطني الفلسطيني، رغم جسامة التضحيات التي بذلت، وتقدم المشروع الصهيوني بثبات نحو أهدافه.

 

والنتيجة أن التوازن في الصراع لم يكن لصالح الفلسطينيين العرب، ذلك أنهم في صراعهم مع الصهاينة، لم يكونوا مفتقدين للتنظيم والقيادة المقتدرة فقط، ولكنهم كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة. وقد أدى غياب التنظيم، والقيادة المقتدرة ووحدة العمل إلى استحالة تحقيق الهدف الفلسطيني، في الاستقلال ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وهكذا انتهت معظم الحركات الاحتجاجية ضد البريطانيين والهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينيات إلى نتائج مأساوية. وقد أضيف إلى هذه المأساة، أسباب أخرى، في مقدمتها كون بعض الحكام العرب آنذاك، في غالبيتهم، موظفين رسميين معينين من قبل سلطات الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، ولم يكن في مقدورهم تقديم أي دعم مؤثر للمحاولات المبكرة لحركة التحرير الفلسطينية.

 

أما خصومهم الصهاينة، فقد نجحوا في التبشير بأفكارهم من خلال توظيف ميثولوجيا عجيبة، ربطت بين الحداثة والأسطورة، وأنطولوجيا مزجت بين عناصر متنافرة، اعتمدت على استحضار تاريخ انتقائي ومزيف، وعقدة اضطهاد أذكتها كوارث الحرب العالمية الثانية، وغذتها بشحنات عاطفية قوية، وثقافة عنصرية، ساعدت في تعميمها أنها انطلقت من مركزية أوروبية، جعلت من العقيدة الصهيونية استمرارا لتلك المركزية.

 

كيف تم توظيف جملة هذه العناصر في صياغة المشروع الصهيوني، والإسهام في تقدمه، وتقهقر مشروع التحرر الفلسطيني، ذلك ما نأمل أن تكون لنا معه وقفة في أحاديث أخرى، بإذن الله…

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة عشر − ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي