زيارة للتاريخ
بعد عشرة أيام مزدحمة وحافلة، قضيتها في زيارة المغرب العربي لحضور الدورة السابعة عشرة للمؤتمر القومي العربي، عدت إلى ربوع الوطن.. ما أحلى الرجوع إليه. خلال فترة انعقاد المؤتمر شاركت في جزء يسير من جلساته، الذي حضره ما يقارب الـ 350 من أعمدة الفكر العربي، والمهتمين بالشأن العام، بين مشارك ومراقب.
والمؤتمر القومي العربي، هو مرجعية فكرية، وليس حزبا أو حركة سياسية.. إنه تجمع يضم جملة من الأطياف والتوجهات الفكرية والسياسية، شرط العضوية به هو الإيمان بحق الأمة العربية في الاستقلال والتنمية والوحدة، حالها في ذلك حال الأمم الأخرى، ورفض مشاريع الهيمنة والعدوان على الأمة، والعمل على المشاركة بتوفير مستلزمات القضاء على التخلف والنهوض بالأمة. وقد شهد المؤتمر في نهاية اجتماعاته انتخاب أمانة عامة جديدة للمؤتمر، روعي أن تضم أعضاء من معظم الأقطار العربية.
وكعادتهم ناقش المؤتمرون، تقريرا عن حال الأمة شمل قراءة مستفيضة وشاملة للواقع العربي في هذه المرحلة، وخاصة القضايا الساخنة، في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان. وتبنوا توصيات بشأنها، وقد وردت الخطوط العامة لتلك التوصيات في بيان الدار البيضاء الذي صدر عن المؤتمر في السابع من يونيو عام 2006.
الجديد في هذا المؤتمر هو احتضان الإخوة المغاربة لأنشطة أطلق عليها الموازية. حيث استقبلت الجمعيات والنقابات المهنية والقانونية والسياسية عددا من الناشطين في المؤتمر، وأدارت حوارا مفتوحا معهم حول قضايا الساعة. وقد كان لي شرف المشاركة في حوار مفتوح مع الصحفيين والفنانين المغاربة، في مقر نقابة الصحفيين بمدينة الرباط، استمر لأكثر من أربع ساعات، وشاركت فيه معي المخرجة المصرية المتألقة السيدة إنعام محمد على التي عرفت بالتزامها القومي والوطني من خلال إخراجها لمجموعة من الأفلام والمسلسلات الهادفة، يأتي في مقدمتها المسلسل الشهير، أم كلثوم، ومسلسل عن أحد رواد الإصلاح في الحركة الوطنية المصرية السيد قاسم أمين، كما أخرجت فيلم الطريق إلى إيلات. وشارك معنا أيضا الأستاذ عوني فرسخ، وهو من الكتاب المعروفين بالتزامهم بالقضايا الوطنية، وفي المقدمة منها قضية فلسطين، والأستاذ ماهر مخلوف، من الناشطين في الحركة الوطنية المصرية.
كان هناك عتب مغاربي علينا نحن المشارقة، واتهام لنا بعدم التركيز على قضايا المغرب العربي، وأيضا بالتقصير في تأييد المطالب المغربية في الصحراء، بل ووقوف البعض إلى جانب ما أصبح معروفا بالبوليزاريو. وكان الغريب أن نواجه ذلك نحن الذين ننتمي إلى مؤتمر يرفض التجزئة، كما يرفض الدخول في مناقشة قضايا النزاعات الحدودية بين البلدان العربية. أبلغناهم أننا نتطلع إلى اليوم الذي تصبح فيه هذه الأمة، من محيطها إلى خليجها كيانا واحدا، ولا يغدو به مكان لمناقشة مثل هذه القضايا.
بقية القضايا التي نوقشت في الحوار المفتوح، لم تخرج عما هو مألوف في مناقشاتنا بالمشرق العربي: العولمة، الانتماء إلى منظمة التجارة الدولية، مشاريع الهيمنة الأمريكية، الديموقراطية، مشروع الشرق الأوسط الكبير، القضية الفلسطينية، العدوان على العراق.. والقائمة طويلة. لم تكن هناك خلافات كبيرة في الرؤية، ولكنه كان حوارا على كل حال..
انتهى المؤتمر، وكان فرصة للاطلاع على معالم هذا البلد العربي العريق. كانت فترة انعقاد المؤتمر قد سنحت بزيارة بعض معالم مدينتي الدار البيضاء والرباط. بعد المؤتمر، كانت رحلة جميلة عبر القطار إلى مدينة فاس التاريخية، ومدينة مكناس الزاهية.
في مدينة فاس، قمنا في اليوم الثاني، لوصولنا بجولة في الأحياء القديمة، أوصلتنا إلى جامع القرويين، الذي تأسس عام 857، وقد شيدته سيدة محبة لفعل الخير، هربت من اضطهاد حكام القيروان، بتونس، هي فاطمة بنت محمد الفهري، حيث وهبت كل ما ورثته من أموال في بناء المسجد. تم توسيعه فيما بعد من قبل يوسف بن تاشفين المرابطي (1061-1060)، بعد استيلائه على المدينة سنة 1069، كما عمل على توحيد الضفتين داخل سور واحد وساهم في إنعاش الحياة الاقتصادية ببناء الفنادق والحمامات والمطاحن. ويتباهى الفاسيون بأن مدينتهم شهدت بناء أقدم جامعة علمية في العالم، هي جامعة القرويين، قبل جامعة الأزهر الشريف، وقبل نشوء أي جامعة علمية في أوروبا.
في مدينة مكناس، كنا بضيافة كريمة من عائلة بروي المغربية، غمرتنا بترحيب ورعاية ودفء يصعب توصيفه. أقمنا بفندق في منتجع جميل، أعاد للفور، إلى الذاكرة مقطعا من أغنية للفنان المبدع خالد الشيخ “شويخ من أرض مكناس”. لقد كان قائل تلك الكلمات محقا في وصفه، أيا تكن مقاصده، فكل شيء على هذه الأرض، ثابت أو متحرك، يشعرك بشيء مختلف، ألوان زاهية، وأشجار باسقة، وأناس يستحضرون في سلوكهم عراقة التاريخ وروح العصر، كرم لا يضاهيه كرم، وأخلاق يندر وجودها في المدينة، حيث يستهلك البحث عن لقمة العيش، والشعور بضنك الحياة، وانشغالنا بأمورنا الخاصة جزءا كبيرا من منظومة قيمنا الجميلة.
في اليوم ما قبل الأخير من رحلتنا، اتجهنا إلى جبال أطلس، وعلى القمة منه أطلت مدينة إيفران.. شلالات وبحيرات، غابات ووديان، تلال وسهول… ثلوج في الشتاء، زهور في الربيع، اعتدال مناخي في الصيف، هدوء في الخريف. وهذه المدينة، هي أشهر منتجع سياحي لعشاق السكينة والطبيعة، في عمق جبال الأطلس المتوسط. ويقال إن “إيفران” كلمة أمازيغية، تعني الكهوف، والتسمية مستوحاة من المغارات المنتشرة حول محيطها الطبيعي، واسمها القديم هو “أورتي” باللهجة المحلية، أي بستان أو حديقة، وهي بالفعل كذلك إذ تظللها الأشجار والنباتات الخضراء على مدار الأيام، وتسكن في رحابها أنواع من الطيور النادرة. وإيفران مدينة ذات طابع خاص، لا تشبه في هندستها ومعمارها بقية المدن المغربية الأخرى.
ويجمع الذين زاروا إسبانيا، على أن إيفران بلدة اقتطعت من أوروبا، وزرعت وسط جبال الأطلس المتوسط، بقرميدها الأحمر، وشوارعها الشاسعة، وساحاتها الفسيحة، وبيئتها الفيحاء، واحترامها التام لخصوصيات زوارها من المواطنين والسياح الذين يقبلون عليها شتاء للتزلج، وربيعا للتنزه، وصيفا للاستجمام والتخييم في ربوعها، وخريفا للتمتع بالهدوء الذي لا يكسره سوى تساقط الأوراق الصفراء المذهبة على جذوع الأشجار.
وقد شهدت هذه المدينة مفاوضات شاقة بين ثوار الجزائر والحكومة الفرنسية، في بداية الستينيات، انتهت بتوقيع اتفاق إيفران- تلمسان لوقف إطلاق النار، الذي كان بمثابة إعلان صريح من الفرنسيين بهزيمتهم وانتصار الثورة الجزائرية، وحصول الجزائريين على الاستقلال.
وبالإضافة إلى مكونات المدينة السياحية والتاريخية، فإنها تضم جامعة الأخوين، التي تعتبر ثمرة للتعاون البناء بين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية، وهي الآن من أشهر الجامعات في البلاد، وتوفر لروادها الطلبة كل وسائل التعليم العالي المتطور، في أفضل الظروف بمنأى عن هدير المدن الكبرى وإغراءاتها.
أيام جميلة قضيتها هي في أفضل توصيف لها “زيارة للتاريخ”، لعل ما يعكرها هو بعد المسافات بين شطري المشرق والمغرب العربيين، وعدم توفر خطوط جوية مباشرة تربط الخليج بالمحيط، حيث تستغرق الرحلة أكثر من خمس عشرة ساعة، ذهابا، ومثلها خمس عشرة ساعة أخرى، إيابا، وهي مشكلة ينبغي أن تتضافر جهود الجميع لتجاوزها. إن توفير مناخات تسهل من عملية الانتقال، سيساهم في تعزيز روابط الأخوة العربية والدينية مع أهلنا في المغرب العربي، وستحافظ على المدخرات العربية، ضمن حدود الدائرة العربية.
الجانب الآخر، هو أن المغرب العربي، بلد غني، في تركيبته وإمكاناته السياحية، لكنه بحاجة إلى استثمارات مالية، لعل رجال الأعمال العرب، يتنبهون إلى أهمية استثمار أموالهم في هذا البلد العربي. لكن ذلك على أي حال، مرهون بتسهيلات وبمرونة تقدمها الجهات المعنية في المغرب لضمان تدفق الأموال العربية، وإنجاح عمليات الاستثمار، فعسى أن يتنبه الجميع إلى هذه الجوانب، وصولا إلى تحقيق تكامل اقتصادي عربي.. ولكي نبقي لتاريخنا العريق بهاءه وشموخه.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2006-05-17
2020-06–0 5-:03
فؤاد محمد السايس من اليمن
لكي نبقي لتاريخنا العريق بهاءه وشموخه< كلمات تحمل في طياتها المعاني الكبيرة التي يتوجب علينا فعلها ,وهذا يترتب عليه جهدا كبيرا ومثابرة ولن يتأتي الا من خلال نشر ثقافة حب الوطن وحب الانتماء له, وعدم الاخلال بأمنه وسلامة اراضيه والمحافظة علي نسيجيه الاجتماعي والعمل علي تحقيق اهداف الامة المنتمية اليه والعمل علي رفع الظلم والمناداة بالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة بين ابناء الامة العربية من محيطها الي خليجها من خلال الاستثمار هنا وتنقل الايدي العاملة من هنا الي هناك وبناء مجتماعات متعافية والتعاطي في الشأن العام بما يصلح حال الامة بأثرها وعوامل اخري في مقدمتها معاناة اهلنا في فلسطين وعدم تحويل قضيتهم الي لاجئين او منكوبين بحاجة الي دعم مالي وعوني, فهم اصحاب قضية واصحاب ارض, وكشف زيف الاحتلال في العراق وبناء جسور من التعاون الايجابي بين عرب المشرق والمغرب فجلهم يشاركوننا في حب فلسطين ولهم ما لهم من تأييد قضية العراق ولك الف تحية ولمنبرك الحر الديمومة وللتجديد العربي التمنيات بالارتقاء والانتشار وعند بعضا من كتاباتي في الصحف المحليه يزيدني شرفا ان استذكر التجديد العربي وما يكتب فيها اتناوله مشاركة مني للقراء الاعزاء.
2020-06–0 5-:04
ألقرعاوي من
لا بأس بوصلتك السياحية الجميلة ، ولكن ماذا عن وصلتك التقريظية الغريبة وكأنك تعتذر عن قصور المؤتمر القومي العربي ، فتصفه بأنه مجرد مرجعية قومية . هل تعني أنه يوحى إليه ؟ من لا يمارس ولا يلتزم عمليا بتنظيراته لا يحق له أن ينظر . أم أن المفكرين عندنا شريحة سيادية تلقائية مثل الشيوخ والوعاظ والأمراء والملوك ورؤساء الجمهوريات ؟ بعض الكلام يصيبني بالإحباط .
2020-06–0 5-:01
عبد المالك البوهالي من المغرب
المفاوضات التي تمت بين الثورة الجزائرية وفرنسافي بداية الستينات جرت في مدينةافيانevian الفرنسية وليس فب مدينة افران المغربية