زيارة لشعب يعشق الحياة
انعقاد المؤتمر العربي القومي، دورة واحدة كل عام، في بلد عربي، يمثل فرصة سانحة لأعضائه لزيارة قطر عربي جديد. فمرة كانت لنا فرصة التعرف على بلد المليون شهيد، ولزيارة جبال الأوراس الشامخة. ومرة أخرى، كانت مناسبة للقيام بزيارة للتاريخ، حيث مدينة فاس التاريخية بالمغرب العربي، وأخرى، كانت لليمن السعيد، حيث البهجة ونداء الفرح. الدورة العشرين للمؤتمر أخذت مكانها بالعاصمة السودانية الخرطوم. وكانت فسحة جميلة، وزيارة أولى لبلد عربي عزيز.
كان اختيار الخرطوم لعقد هذه الدورة قد تم تلبية لدعوة كريمة من البرلمان السوداني. وجاءت تلبية الدعوة متسقة مع موقف المؤتمر، في إسناد البلدان العربية التي تتعرض لتحديات خارجية تستهدف أمنها واستقرارها. وقد عكس البيان الختامي الذي أصدره المؤتمرون ذلك الموقف حين عبر عن التضامن مع السودان، في رفضه الاستجابة لقرار المحكمة الجنائية الدولية، بمحاكمة الرئيس البشير.
لم تتح مشاغل المؤتمر، والعودة السريعة إلى الوطن فرصا كثيرة للاطلاع على هذا البلد الجميل. لكن ذلك لم يمنع من القيام بزيارة سريعة لبعض المناطق. وقد لفت انتباهي، بشكل خاص مكان التقاء النهرين: الأبيض والأزرق، الذي يطلق عليه أشقاؤنا “المقرن”، وهو لفظ عربي فصيح يعني اقتران النهرين ببعضهما. ومنظر الاقتران هذا فاتن وجذاب، يأسر القلب والعقل، حيث ترى المياه بلونين مختلفين يصبان في مجرى واحد، ويحتفظان بذلك الاختلاف لعدة كيلومترات، ثم يمتزجان.
وكان اختيار برج الفاتح للإقامة موفقا، حيث يطل الفندق مباشرة على النهر. وعندما تنظر من النوافذ تطل المروج واسعة ومفتوحة في مساحات شاسعة لا يتجاوزها النظر. ويحاصرك العجب، كيف لهذا البلد الثري بموارده وخصوبة أراضيه، يتعرض أبناؤه للقحط والمجاعات. لكن ما يبعث على الأمل أن الذين شاهدوا المدينة قبيل سنوات، يقولون إن البون شاسع جدا بين وضعها قبل عدة سنوات، ووضعها الآن، حيث بدأ بشكل جدي التركيز على تشييد البنية التحتية للمدينة.
بمجرد وصولنا إلى العاصمة السودانية، ووجهنا بنوعين من الحرارة، حرارة الجو التي كانت مرتفعة جدا، ونحن لما نزل في القلب من فصل الربيع، وحرارة الاستقبال البشوش، من قبل الإخوة الذين استقبلونا مسؤولين ومواطنين.
كانت لنا لقاءات عدة مع عدد من المسؤولين السودانيين، في مقدمتهم الرئيس البشير ونائبه، ورئيس البرلمان وعدد من الوزراء وقيادات الحزب الحاكم. وفي جامعة الخرطوم كان لي شرف المشاركة، مع عدد من المثقفين العرب في ندوة مفتوحة، تناولت الوضع العربي العام، بدعوة طلابية جرت خلالها مناقشة التطورات السياسية الأخيرة بالسودان، وركزت خلالها على أهمية وحدة السودان، وتضامن شعبه لإفشال المخططات العدوانية. ونوت إلى أهمية محاسبة المسؤولين عن المجازر التي ارتكبت في إقليم دارفور وتقديمهم للقضاء السوداني، انسجاما مع مبدأ القصاص الذي نصت عليه الشريعة السمحاء، واتساقا مع روح العدل، ولأن ذلك أيضا يفوت الذرائع أمام قوى الشر.
إن تضامن الأشقاء العرب مع السودان، مهما بلغ مستواه، فلن يعوض عن التوافق الوطني بين أهله، وهم وحدهم الذين يستطيعون الدفاع عن أرضهم. لكن حماية السودان تتطلب من قيادته الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي يربطها بجميع المواطنين. وليس من شك في أن تحقيق المساواة وضمان الحقوق، والقضاء على الفساد ومعاقبة المقصرين والمذنبين، ومحاسبة الذين تسببوا فيما آلت له الأوضاع بمناطق التوتر هي السبل لحماية السودان، وتجنيبه ويلات الخراب والدمار، وعدم تمكين قوى الغطرسة من تحقيق اختراقات في جبهته.
من الأمور السعيدة التي فوجئت بها في السودان الشقيق، هي سماحة هذا الشعب وكرمه وأريحيته وبعده عن التعصب ونهج التكفير. فقد تصورت خطأ أن وجود الإسلام السياسي في قمة الحكم، سيؤدي إلى سيادة ثقافة تضيق بالرأي الآخر، وترفض تنوع الأفكار، وتغيب كافة أشكال الفنون، ولكن ما وجدته هو عكس ذلك تماما.
وعود إلى موقف المؤتمر القومي في دورته العشرين من الوضع العربي العام، ركز المؤتمر بشكل خاص على أوضاع السودان، وأكد بيانه الختامي على عدم شرعية قرار المحكمة الجنائية الدولية بطلب توقيف الرئيس السوداني عمر البشير. وأشار إلى أن السودان كان وما زال مستهدفاً في استقراره ووحدته أرضاً وشعباً، وفي ثروته. وأعلن المؤتمرون رفضهم للتهم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية، ومساندتهم الكاملة للسودان، من منطلق أن هذا الموقف يمثل دفاعاً عن الذات والكرامة العربية.
ومع تسليم المؤتمرين بأن العدالة قيمة عليا لا تقبل التقسيم أو التجزئة، لكنهم وجدوا فيها أيضا طريقا لتحقيق الاستقرار والوحدة في السودان وفي كل قطر عربي. إن إقامة ديمقراطية حقيقية مع تعددية سياسية وتأمين حقوق الإنسان في السودان، والتماسك الوطني القائم على الولاء للوطن السوداني، هما الطريق الأمثل لصمود السودان في وجه قرارات المحكمة الدولية، وكل التحديات. وفي هذا الاتجاه، دعا المؤتمرون الحكومة السودانية إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر، والحرص على أن تكون نزيهة وحرة. وأكدوا أن قضية دارفور يجب حلّها ضمن مشروع وطني سوداني يحقق العدل والتنمية ضمن مصالحة وطنية شاملة.
إن إشاعة معايير المحاسبة والشفافية ومحاربة الفساد وتأمين التعددية وكفالة حقوق المواطنين السياسية والاجتماعية، وتأمين التداول السلمي للسلطة، والتلازم بين السلطة والمسؤولية هو الدعامة الأساسية للاستقرار أولاً وللشرعية ثانياً، ولوضع أسس حقيقية لبناء مجتمع عربي قادر على امتلاك العلم والمعرفة والتأسيس الفعلي لمشروع نهضوي حضاري للأمة. ولذلك فإنه لا محيص من قيام القادة العرب بمراجعة شاملة للممارسات التي تسيء إلى هذا الأمل العربي المشروع.
إن الخيار الاستراتيجي للأمة ينبغي أن يرتكز على وجود اقتصاد عربي قوي، وتنمية مستقلة تعتمد على الذات، وبناء هياكل اقتصادية يكون في مقدورها التأسيس لنهضة واندماج اقتصادي عربي يمكن الأمة من تحقيق وحدتها. إن ذلك يتطلب التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، وتوسيع دائرة الاستثمار العربي المشترك في مشروعات إنتاجية زراعية وصناعية، والعمل على بناء قواعد قوية لاقتصادات عربية، تشكل المرتكزات الحقيقية للاقتصاد العربي بكل ما يتيحه من قدرات على الصمود أمام كل الضغوط الاقتصادية الخارجية وما يوفره من موارد لبناء القدرات للدفاع عن الأمة.
تحقيق النهوض العربي، يقتضي المضي قدما في استكمال الاندماج الاقتصادي وبناء مشروع تنموي قادر على تمكين الأمة من تحقيق نهوض اقتصادي حقيقي يجعلها قادرة على المساهمة بنسبة معتبرة في الاقتصاد العالمي.
في اليوم الأخير للمؤتمر، جرت انتخابات عامة، خرج منها أمين عام جديد وأمانة عامة جديدة للمؤتمر. وكان مسك الختام سهرة جميلة رقص السودانيون والضيوف خلالها، وغنوا للوطن.. لكبريائه وعنفوانه، وتباشير انعتاقه… لقد كانت حقا زيارة لشعب يعشق الحياة.
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة احمد الجيدي)
…..
الأعضاء في المنتدى لهــــم الإشراف “””””” فليهنأوا بالزعامة ولهــــــم الهناء.
قيل في المثل القديم وهــــو يحـكـي “””””” صورة المثل الجديد علاقة غوغاء.
إن الإشراف في مواقع المـوقع عــراك “””””” من يزيح الآخر عن المكان إغــراء.
إن علقة على الحدث فانـــت مشاغب “””””” وإن ناقت المشرف فانت هنا بقاء.
رسالة إدارية فيها عنصــــــرية القـــرار “””””” فالتوريث مطبوع في عقل خـــفاء.
العالم فتح المجـال للحـــــوار تواصــــل “””””” لينعم به العالم تحــاورا ولقــــــاء.
فعند المنتدى عقلية لا تتغيـــــر إقـصـاء “””””” مغروسة في طبهم والحال غبــاء.
جوجل معلم العالم مفتوح لكـل العـــالم “””””” فكل المنتديات مسموح لها البـقاء.
احمد الجيدي