رحيل رجل شجاع
فجعت الأمة العربية، والشعب الفلسطيني برحيل “أبو الهادر” الأستاذ شفيق الحوت، المناضل والمقاوم والمفكر العربي والصديق، إلى الرفيق الأعلى، ومعه فقدت فلسطين والأمة العربية واحدا من خيرة أبنائها، عرف بعناده ومشاكساته، حين يتعلق الأمر بالدفاع عن حلم العودة، وعن حق شعبه في الحرية والاستقلال. وصفه المنتدى القومي العربي في لبنان بالجسر بين لبنان وفلسطين، وقال عنه المفكر العربي كلوفيس مقصود بأنه من المناضلين الذين لم تستهوهم “الواقعية” التي تلغي وجدانية وحرمة فلسطين القضية، واصفا إياه بالبوصلة، التي تؤشر دروب النضال. وقال عنه الأستاذ معن بشور بأنه فارس الحق والحقيقة، وساحر الكلمة. ووصفه أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، السيد نايف حواتمه، بـ” “القائد الوطني وابن يافا البار”.
كنت قد سمعت الكثير، منذ ريعان الشباب، عن أستاذنا الراحل، شفيق الحوت المناضل والمفكر، وقرأت له في عدد من الصحف اللبنانية والعربية، وهو يدافع بقلمه عن قضايا التحرر. لكن معرفتي بشفيق الإنسان جاءت متأخرة جدا. كانت أول معرفة عيانية بالمناضل الحوت قد تمت قبل خمس سنوات، حين شارك معنا في لقاء موسع للأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، عقدت بمدينة الدوحة لمناقشة الوضع العربي العام، بعد مضي عام على احتلال العراق. وكانت المناقشات ثرية وواسعة, وخلالها اكتشفت عمق ثقافة، وصدق روية المفكر الحوت. وتتالت لقاءاتنا في القاهرة ودمشق وبيروت، على هامش ندوات عدة عقدها مركز دراسات الوحدة العربية،. والمؤتمرات القومية. وكلما اقتربت منه، زاد يقيني بأنني أمام شخص اسثتثناني، في التزامه ووعيه وتواضعه، وأيضا في رومانسيته وتفاؤله بحتمية انتصار قضيته، قضية تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية.
من مدينة يافا بدأ فقيدها العزيز رحلته، ليدون تلك الرحلة لاحقا في مذكراته، “بين الوطن والمنفى”، الذي صدر عام 2007. ولد شفيق الحوت بمدينة يافا الفلسطينية، 1932، من عائلة لبنانية هاجرت إلى فلسطين، في أثناء الحكم العثماني، حيث أصبح جده مختاراً لحيّ المنشيّة، حاملاً لقب البيروتي.
وكانت الثورة العربية الكبرى التي انطلقت بين عامي 1936 و1939، بداية تفتح وعيه. ومنذ رعيان شبابه وحتى رحيله، عاصر الفقيد كافة المنعطفات التي مر بها الكفاح الوطني الفلسطيني، ابتداء بالمقاومة الباسلة للمشروع الصهيوني، وبشكل خاص ثورة 1939، إلى نكبة فلسطين عام 1948. وكان شاهد عصر على مجمل التحولات التي مر بها النضال الفلسطيني، منذ النكبة حتى يومنا هذا، مرورا بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وتمركزها بالأردن، ثم في لبنان، إلى الاجتياحات الصهيونية المتكررة للبنان، وللمخيمات الفلسطينية عام 1978 و1982، بكل تفاصيلها وأحداثها ومقاومتها الباسلة.
شارك الأستاذ الحوت في تأسيس الكثير من الاطر الوطنية والقومية، بدءا من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، التي بقي ممثلها في بيروت لسنوات طويلة، وانتخب عضواً في لجنتها التنفيذية معّلقاً عضويته بعد اتفاق اوسلو. وخلال وجوده في بيروت حرص على صيانة التلاحم الوطني والقومي، بين الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، مجسدا في سلوكه وعيا عميقا من نمط خاص، مكنه من المزح الخلاق، بين ظروف لبنان الدقيقة ومعاناة شعبه الفلسطيني.
وعلى الصعيد القومي، ساهم أبو الهادر في تأسيس المنتدى القومي العربي في بيروت، عام 1992 وبقي عضواً في مجلس امنائه حتى رحيله وحاز على درع الوفاء والتقدير كأحد “الأمناء على العهد القومي”. كما كان عضوا فاعلاً بالمؤتمر القومي العربي، وانتخب لسنوات عضواً في امانته العامة، كما ساهم في تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي عام 1994 وانتخب عضواً في لجنة المتابعة المنبثقة عنه، وشارك أيضا في تأسيس مؤسسة القدس الدولية عام 2001 وكان عضواً في مجلس أمنائها، إضافة إلى عضويته بالمؤتمر العام لحق العودة.
وخلال رحلة كفاحه، تميّز الفقيد الكبير في كل علاقاته ومواقفه، بصلابة الالتزام في الموقف، والصراحة في الرأي وبالدقة في التحليل، وبالتواضع ودماثة الخلق، وصفاء الروح، وعشق جميل للحياة، وتمسّك بالحرية. وكان مثار إعجاب وتقدير وحب واحترام من كل عارفيه في فلسطين ولبنان وعلى امتداد ساحة الأمة.
مسؤولياته النضالية والسياسية، وإدارته لمركز الدراسات الفلسطينية، لم تحل دون مواصلته الكتابة الدورية في صحف ومجلات عربية، تماماً مثلما لم تحل قبلها مسؤولياته الصحافية الكبيرة دون اضطلاعه بمهمام العمل الوطني والقومي. فكان مناضلا صلبا، وكاتبا سياسيا كبيرا، دافع عن قضيته بمثابرة المناضل والمفكر في آن واحد، وامتزجت مسيرة حياته بنضال شعبه وامته، ثورياً في نهجه وتطلعاته، حكيماً في ادائه وسلوكه. لم يكن شفيق في نضالاته وعطاءاته وإبداعاته، قوميا ويساريا فحسب، بل كان أيضا نهضويا عربيا ومقاوما صلبا منفتحا على كل تيارات الأمة التي تحمل مشروع المقاومة والنهوض. وكانت فلسطين، من وجهة نظره، قضية العرب المركزية، ووطنهم غير المنازع، وعنوان هويتهم، وشموخهم وكرامتهم،
حتى تعود إلى أهلها، أو يعود أهلها لها، فتكون القصيدة التي يطرز بها تاريخ العرب.
في حكايته مع المرض يذكر الأطباء أن الفقيد اعتبر نفسه في مواجهة أخرى من مواجهاته التي لم تتوقف منذ كان طالبا بالجامعة الامريكية في بيروت إلى أن غدا سياسيا وقائدا مؤسسا بمنظمة التحرير، ومشاركا في عدد من مؤسسات العمل القومي العربي، مرورا برحلتة الفكرية والصحافية التي لازمته طيلة حياته. معه كانت الكلمة جمرا، والقلم سيفا، والرأيشجاعة.
لم يجاوز صديقه، الأستاذ بشور الحقيقة حين قال عنه أنه ثالث ثلاثة من كبار مبدعي فلسطين، محمود درويش شاعرها وفيلسوفها، إدوارد سعيد مفكرها وشارح قضيتها للعالم، وشفيق الحوت ضميرها ولسانها. كان الثلاثة يجتمعون في بيروت أو عمان أو باريس، يجمعهم هم واحد وقضية واحدة، هي قضية فلسطين، وكانت إبداعاتهم جميعا، فكر وفلسفة وشعرا، تصب في خدمة النضال الفلسطيني. رحلوا جميعا يحملون حلمهم الكبير، وتركوا إرثا عظيما سيبقى زادا لنا وللأجيال القادمة.
تغمد الله الفقيد برحمته، وأسكنه فسيح جناته، ومنح أهله وذوبيه ورفاقه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.