رحلة إلى اليمن السعيد
كان “اليمن السعيد” توصيفا تعلمناه بالمرحلة الابتدائية. وسكن في الذهن شأنه شأن كثير من الأشياء، ولم يختلف عن القول أن العراق هو بلد السواد، ووصف حلب بالشهباء، والموصل بالحدباء، والقاهرة بأرض الكنانة.
وفي مراحل لاحقة، بعد قراءاتي عن حالات التخلف والبؤس والفقر التي يعاني منها هذا البلد، وبضمنها قصائد للشاعر البردوني، التي كانت صرخة مدوية في كشف الواقع المزري الذي يعيشه هذا البلد العريق: ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي، مليحة عاشقاها السل والجرب… أقول بعد جملة من القراءات تكون لدي شعور خاص بأن لفظة “السعيد” هي حيلة دفاعية جمعية وعملية تعويض، يتمترس خلفها مجتمع بأسره، شأنها في ذلك شأن لفظة “البصير” حين تقال للأعمى، “وكريم العين” التي تقال عادة للأعور…
لكن زيارتي هذه، قد أكدت تطابق المسمى بالمعنى. لقد استقبلنا اليمن بأمطاره الموسمية.. وكان الرذاذ منعشا وأخاذا. وكانت إقامتنا في فندق موفينبيك الجميل الذي يقع فوق تلة جبيلة، تطل على صنعاء… عروسا جميلة، تلبس حلتها القشيبة، تظللها مختلف أنواع الشجر.
كان الكرم اليمني حاتميا، وكانت الدعوات التي تلقاها المؤتمر لتناول طعام الغداء من الزعامات السياسية والاجتماعية قد فاقت عدد أيام المؤتمر، جعلت الصديق العزيز الأستاذ معن بشور يقترح، بخفة ظله المعهودة، تمديد أيام المؤتمر لكي نستطيع تلبية كل الدعوات. وكان الأهم من الدعوات هو الرحلة التي نستغرقها في الوصول إلى مقر الداعي. استقبلنا الشيخ حمير بن عبدالله بن حسين الأحمر، نائب رئيس البرلمان، والدكتور محسن العيني رئيس الوزراء السابق، ويحيى بن محمد بن عبدالله الصالح، ابن شقيق رئيس الجمهورية، ورئيس جمعية كنعان، وأقطاب أحزاب المعارضة. وفي كل زيارة تظل الجبال الشاهقة بمدينة صنعاء الجميلة، مؤكدة حضورها القوي. كانت أشجار المانجا، واللوز وكروم العنب، والقات والبرتقال، تصطف بأدب جم، وتقاليد عسكرية بهية، لاستقبال الزوار، دونما عناء أو كلل.
وخلال مشاهداتي، تذكرت أنني قبل عامين، أثناء زيارتي للمغرب كتبت حديثا تحت عنوان زيارة للتاريخ، ربطته بزيارتي لمديني فاس ومكناس. أما في اليمن، فإنك تعيش التاريخ كله، وتصبح يقينيا، بالشعور والمعايشة جزءا من هذا التاريخ. وتجد نفسك تعيش بهجة وفرحا، تشاطرك فيه الجبال، والنوارس وحبات الرمل، والسواعد القوية التي أشادت سد مأرب وبنت القلاع والحصون، وتصدت للغزاة منذ فجر التاريخ… ليتأكد لك أن “اليمن السعيد” هو توصيف دقيق، وضارب في العمق.. حيث كل شيء في طبيعة هذه البلاد، ينطق بالفرح، رغم ما عاناه هذا الجزء من وطننا العربي الكبير، من ويلات وحروب وكوارث.
استمر انعقاد المؤتمر القومي العربي أربعة أيام، من 10 مايو حتى الثالث عشر من الشهر. ولم يكن هناك شيء استثنائي، في مناقشاته. كانت مواضيع اللحظة، هي ما يشغل المواطن العربي بالوطن الكبير… الاحتلال الأمريكي للعراق، وانقسام اللبنانيين إلى موالاة ومعارضة، وأوضاع الصومال، وقضايا التدخل الأجنبي في السودان، جنوبه وغربه. والمحاولات الاستعمارية الدؤوبة لتعميق الانقسامات والنعرات الطائفية والعرقية بهدف تفتيت البلدان العربية. وإضعاف النظام الإقليمي العربي بكل مستوياته، وإحلال نظام شرق أوسطي يخدم المخططات الأمريكية الصهيونية، بديلا عنه. وفي هذا السياق، تعمل الإدارة الأمريكية على شل مؤسسة القمة العربية، وتعطيل عملية تطويرها، بالتزامن مع محاولة تعطيل الانعقاد الدوري لها.
وقد تعرض البيان الختامي للمؤتمر، الذي أطلق عليه إعلان صنعاء، للضغوط المستمرة على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ومحاولات استئصالها وتدمير بنياتها، أو تفجيرها من الداخل، وأكد على أن هناك سعيا حثيثا من قبل الدوائر الصهيونية، والقوى التي تقف إلى جانبها للحيلولة دون قيام أي وحدة أو تنسيق بين أطرافها. وأشار البيان إلى الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني ومحاولات تجويعه، وبشكل خاص ما يحدث في قطاع غزة، مؤكدا أن ذلك تجاوز كل الحدود، وكل القيم. وطالب قادة الدول العربية بالتصدي الشجاع للحصار الجائر المفروض على الشعب الفلسطيني. كما طالب بالتصدي للمحاولات الصهيونية الهادفة إلى صهينة مدينة القدس الشريف وتهويد مقدساتها وأبنائها، وإدامة الاستيطان فيها وفي مناطق الضفة الغربية، والاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري، وإغلاق المعابر، إضافة إلى العمل على إسقاط حق العودة باعتباره جوهر القضية الفلسطينية، والجهود المتصاعدة لتكريس يهودية الكيان الصهيوني، وما يستتبع ذلك من عمليات تهجير واسعة النطاق للسكان الأصليين، أصحاب الحق، واستثمار الاحتفال الصهيوني الدولي بالذكرى الستين للنكبة ليكون مدخلا لتحقيق أطماع العدوان التوسعية.
وأدان بيان المؤتمر المحاولات الحثيثة لنزع أسلحة المقاومة العربية، في البلدان التي تتعرض للغزو الاستعماري، وبشكل خاص في العراق وفلسطين.
وأكد بيان صنعاء على أنه لا مخرج للأمة العربية من الأزمة الراهنة إلا بإطلاق مشروع للنهضة يشارك في صنعه كل القوى الحية المؤمنة بوحدة الأمة، والرافضة للاحتلال الأجنبي، وللتبعية والتخلف، وللاستبداد ومنهج الفساد، والراغبة في إقامة مجتمعات حرة، قادرة على الانطلاق والتنمية والمساهمة في صنع نظام إنساني عالمي جديد وعادل ومتعدد الأقطاب، قادر على صيانة حقوق الشعوب واحترام خياراتها. وفي هذا السياق، وجه المؤتمر نداء للنخب العربية ومراكز البحوث الوطنية، لمضاعفة جهودها لصياغة نظرية للأمن القومي العربي، وللتكامل السياسي والاقتصادي.
وقد خلص المؤتمر إلى أن المشروع الصهيوني – الأمريكي هو مصدر التهديد الرئيس لأمن الأمة. ونبه إلى خطورة المخططات الرامية لإثارة الفتن العرقية والطائفية والمذهبية والجهوية، وإضعاف المجتمع المدني. وطالب القوى الحية في المجتمع، ببذل كل ما في وسعها للحفاظ على اللغة العربية، باعتبارها الوعاء الجامع للثقافة العربية والإسلامية، والعمود الفقري للهوية القومية، والعمل على استعادة دورها في كل مجالات العلوم والثقافة، وتفعيل حركة المجتمع المدني الوطني غير المرتبط بالتمويل الخارجي، والعمل على إيجاد دور فاعل لها على الساحتين القومية والدولية.
وأكد على أن المشاركة الشعبية في صنع القرار العربي، والالتزام بحقوق الإنسان، لم تعد ضرورة إنسانية واجتماعية فحسب، بل أصبحت معيارا لصدق نوايا الأنظمة العربية، وأنها الشرط اللازم لخروج الأمة من أزماتها، وتجاوزها إمكانية الانفجار الداخلي، الذي باتت مؤشراته شديدة الوضوح في أكثر من قطر. وفي هذا الإطار طالب المؤتمر بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي بالسجون العربية، وتفعيل دور المرأة في مختلف وجوه الحياة بالمجتمع العربي، وتمكينها من القيام بدورها.
كانت تلك أهم النقاط التي وردت في بيان صنعاء. ولم يكن التوصل لها بالأمر السهل، فقد كانت هناك نقاشات حادة حول الدور التخريبي الإيراني بالعراق، حيث رأى البعض أن تكون الإدانة واضحة وصريحة لدورها التخريبي، بينما طالب آخرون بالتفاهم مع القيادة الإيرانية حول تلك السياسات، بدلا من الصدام معها.
باليوم التالي، الموافق الأربعاء، كان هناك مهرجان خطابي بمناسبة مرور ستين عاما على النكبة، وكان لي شرف المشاركة في ذلك المهرجان. وسوف تكون لنا مع هذا المهرجان عودة بالحديث القادم بإذن الله. وفي يوم الخميس، اليوم الأخير للرحلة، كانت لنا زيارة لموقع أثري، هو دار الحجر، يمثل إحدى معالم العبقرية اليمنية، وتعبيرا عن إبداعاتها وإعجازاتها الكامنة. كما قمنا بزيارة لصنعاء القديمة، وكانت فسحة للعودة بشيء من عسل اليمن… العسل الذي فيه شفاء للناس ورحمة.. لقد كانت حقا رحلة سعيدة لليمن السعيد..