خواطر حول مسألة الإصلاح السياسي

0 170

تصاعدت في الأيام الأخيرة حمى السعار الأمريكي، المتجه بعنف نحو فرض أشكال وممثلين جدد على المسرح السياسي في المنطقة العربية، بعد تبني نهج جديد تقوده نخبة مؤثر بالإدارة الأمريكية، ترى أن الخارطة السياسية التي سادت عقب الحرب العالمية الثانية، والرموز المحلية التي تولت مسؤولية القيادة فيها، قد استنفذت أغراضها، أو أن الزمن قد تجاوزها، بفعل التطورات الدراماتيكية والكبيرة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة.

 

وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش في خطاب الإتحاد عن عزمه على السير في اتجاه إشاعة “قيم الحرية والديموقراطية” في الشرق الأوسط. ووعد، في ظاهرة، لم يسبق لها مثيل، في المنطقة، المطالبين بالإصلاح بأنهم سيتلقون الدعم والمساعدة من إدارته إذا ما طالبوا بها. وأشار إلى عزمه على طرح موضوع الشرق الأوسط الكبير، ذو التوجهات الليبرالية والديموقراطية في اجتماع الدول الصناعية الثمانية المقبل، ليصبح المشروع بعد تبنيه، مشروعا عالميا. وتزامن ذلك مع بدأ قناة “الحرة” بث برامجها الموجهة باللغة العربية، والتي سوف تكون مهمتها التبشير بالمشروع الأمريكي، ونشر الثقافة والقيم والمبادئ الغربية. كما تزامن ذلك مع جملة من التهديدات المبطنة أحيانا، والمعلنة في أحيان أخرى، بحق مصر وسوريا والسعودية وإيران، ووسط أنباء، عن احتمال قيام الكيان الصهيوني، بعدوان عسكري واسع بالوكالة، على القطر العربي السوري، تحت ذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل، ومنع القيادة السورية عن مد يد العون للمقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني.

 

يأتي ذلك كله، وسط توتر واضح في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية مصر العربية، وامتناع عدد من الوزراء المصريين عن السفر إلى أمريكا، احتجاجا على أخذ بصماتهم من قبل دوائر الهجرة ومراكز منح تأشيرات الزيارة. وقد عبرت مجموعات من الحكومات العربية، من ضمنها حكومات خليجية، وإن كان باستحياء، عن رفضها فرض أية إصلاحات داخلية عليها من الخارج، معتبرة ذلك متعارضا مع القانون الدولي، وتدخلا غير مقبول في شؤونها الداخلية. وبالمثل، عبر بيان القمة بين ولي العهد السعودي ورئيس الحرس الوطني سمو الأمير عبد الله بن العزيز والرئيس المصري، حسني مبارك عن نفس التوجسات والمخاوف التي عبرت عنها البيانات الأخرى، رافضا أن يكون تحقيق الإصلاح السياسي في البلدان العربية حاصل ضغوط وتدخلات من الخارج. وقد دعا البيان إلى أن يناقش القادة العرب في قمتهم القادمة هذه المواضيع، ويتخذوا موقفا موحدابشأنها.

 

ومع أن الدوافع الحقيقية للنهج الأمريكي الجديد، كما تبرزها الوثائق السرية ذات العلاقة والتي تسربت من داخل دوائر صناع القرار، تشير إلى أن المحرك الأساسي لهذه الإستراتيجية هو إحكام القبضة والهيمنة على المقدرات والثروات والشعوب العربية، والعمل على تفتيت وحدة الأمة، وتحقيق حالة من التشظي والانقسام، والاستيلاء على منابع النفط، وتجريد العرب من السلاح والمصادر الطبيعية للقوة وكل مقومات النهوض والتقدم، وصولا إلى الإذعان الكامل للمخططات الصهيونية والاستعمارية، فإن اليافطات والشعارات التي ترفع، كمقدمات لتنفيذ هذه البرامج، هي الديموقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان.

 

ولا شك أن اليافطات والشعارات المطروحة من قبل الأمريكيين، تبدو براقة وجميلة، إذا انتزعت من إطار النوايا المبيتة ونوازع الهيمنة وجبروت وغطرسة القوة. وهي بالتأكيد ليست مطالب أمريكية خاصة، ولا تحمل أية خصوصية، كونها حاصل تراكم تجارب إنسانية طويلة، وناتج تفاعل خلاق بين مختلف الحضارات البشرية. وقد جرى تبنيها رسميا في العشرينيات من القرن المنصرم من قبل عصبة الأمم، وأصبحت بذلك مبادئ إنسانية عالمية. بل إننا نستطيع القول، بشكل قطعي، أن هذه المبادئ، في جوهرها، وبما ترنو إليه، تتعارض بشكل مطلق مع النوازع والمشاريع الاستعمارية، وهي فوق ذلك كله تمثل صبوات لقاعدة عريضة وواسعة من الطبقات والشرائح الشعبية في مختلف الأقطار العربية.

 

ومن هنا فإن الموقف الطبيعي يقتضي التمييز بشكل واضح بين فضح النوايا والنوازع الاستعمارية، والكشف عن المخططات التي يضمرها الأعداء بحق الأمة، واستنهاض مختلف القدرات في مواجهة التحديات والمخاطر التي تحدق بالوطن، وبين التسليم ببداهة مطلب الحرية والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، والانتقال إلى الشرعية الدستورية وتحقيق الإصلاح السياسي.

 

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الفرق كبير وواضح بين الزيف والقناع والرياء والكذب، وبين الموقف الصادق والواضح والشجاع والملتزم بقضايا الإصلاح. إن التمييز بين الموقفين يتطلب، تحديد الخطوط، وفضح المغيب من النوايا المبيتة التي تضمرها قوى الشر بحق أمتنا، وفرز الخنادق، ورفض خلط الأوراق، وتحديد خارائط وبرنامج العمل المستقبلية على ضوء المصالح الوطنية العليا، والتسليم بأهمية مواجهة التحديات والمخاطر الخارجية، التي يأتي في المقدمة منها مخاطر التجزئة والتشرذم.

 

والقراءة الأولية للأوضاع السياسية في المنطقة، تشير إلى وجود ثلاث قوى رئيسية، تحرك الواقع العربي الآن. القوة الأولى خارجية، بقيادة الولايات المتحدة وبالتضامن والمشاركة مـع الكيان الصهيوني، وقد باشرت فعليا تنفيذ المرحلة الأولى من استراتيجياتها باحتلال العراق، ونزع أسلحة ليبيا، وبالضغوط المباشرة على دول المنطقة. كما أفصحت عن نواياها في عدد من التقارير والبرامج، وتهدف بشكل كامل إلى مصادرة استقلال دول المنطقة، هويات وكيانات، وإحلال رموز بديلة قادرة على التواؤم والتكيف مع المتغيرات الجديدة.

 

أما القوة الثانية، فتمثل منظمات التطرف والعنف، وتعبر عن فكر متحجر انطلق كرصاصة من العهد الوسيط، معارضا للحوار والقبول بالرأي الآخر، ورافضا فكرة التمدين والتطوير والتجديد، متبنيا الدخول في مواجهة واحتراب مع العصر، ساعيا بالقوة المسلحة، إلى الوصول إلى السلطة. وقد باشرت هذه القوى، منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم تنفيذ برامجها في عدد من الأقطار العربية، واقتربت في بعضها من الوصول إلى الحكم. وقد سقط عشرات الألوف من الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال ضحايا لمحاولة وضع برامج هذه القوى قيد التنفيذ. ولا زالت معظم بلدان المنطقة تعاني من وزر أعمالها. وتعارض هذه القوى أي توجه جدي للإصلاح السياسي، متجانس مع روح العصر ومنطقه.

 

أما القوة الثالثة، فهي القاعدة المجتمعية العريضة، وقد عبرت عن نفسها في صيغ مختلفة، من ضمنها تأسيس الجمعيات والمشاركة في الندوات والإجتماعات والديوانيات والحوارات الوطنية، ورفع العرائض المطلبية والإتصال مباشرة بالقيادات السياسية، مطالبة بالإصلاح السلمي التدرجي. وتسعى هذه القوى إلى المشاركة في النهوض ببلدانها نحو التقدم، وتنمية الموارد البشرية والطبيعية فيها، الحفاظ على السلم الاجتماعي، وأن يجرى التطوير والبناء من خلال الاعتراف بالمؤسسات القائمة، والعمل على دفعها لتبني المطالب المشروعة، وتطوير الهياكل والبني القائمة، والتبشير بأهمية قيام المجتمع المدني وتدشين مؤسساته، بما في ذلك جمعيات حقوق الإنسان والجمعيات المهنية والثقافية والسياسية والحرفية، وتطوير النظم البرلمانية العربية، وتحويلها إلى مؤسسات تشريعية ومنتخبة. وهي من خلال برامجها، تساهم بشكل عملي في النهوض بأقطارها وتحقيق الأمن والاستقرار، وتجعل الأنظمة السياسية أكثر شرعية واقتدارا على قيادة السفينة والوصول بها إلى بر الأمان.

 

إن على القادة العرب في اجتماعهم في قمتهم القادمة أن يختاروا في أي من هذه الخنادق يقفون، بين الإستجابة للمطالب الأمريكية والخضوع للصهاينة، أو التسليم لنهج التطرف، أو الوقوف مع شعوبهم في خندق التنمية والبناء، وهو اختيار ليس صعب إذا جرى الإعتماد على الثقة بالطاقات اللا محدودة للشعب, وأن درء الوطن وحمايته من الأخطار الخارجية مرهون إلى حد كبير بمتانة الجبهة الداخلية ووحدتها، وتفويت الفرص على عناصر التخريب والقوى الخارجية التي تضمر الشر والعدوان لنا. وهي فرص سوف تتضاءل وتضمحل وتنهزم بالقدر الذي تتماهى فيه القيادات مع مطالب مواطنيها، ويكون فيه الولوج واسعا ومقداما إلى بوابات الإصلاح السياسي، بكل تفرعاته وتشعباته. إنها لساعة امتحان عسيرة، وسيترتب على نتائجها إما الأمن والإستقرار، والتنافس المتكافئ والمقتدر مع المجتمعات الإنسانية الأخرى، أو النكوص والتمزق والتشرذم، وقبول مهانة الغزو. فهل سنكون بمستوى هذا الإمتحان؟!

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-03-03

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثمانية − 4 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي