خواطر حول الحراك الشعبي العربي
اعترف أن الأحداث الدراماتيكية، التي تداعت ولا تزال تتداعي عربيا، تسببت في اهتزاز قناعات استقرت يقينا في النفس لفترة طويلة. لقد تغيرت خلال هذا العام نظم عربية عديدة، ولم تتضح بعد ملامح المستقبل بالبلدان التي شهدت هذه الأحداث. المؤكد أن انشطارات حادة على المستويين الأفقي والعمودي، أخذت تفصح عن نفسهاـ على المستويين الرسمي والشعبي.
ففي تونس ومصر وليبيا، تسلمت أنظمة جديدة السلطة، لكن الأمور لا تزال في بداياتها، والتحالفات بين مختلف القوى السياسية سرعان ما يعلن عنها ليأت نبأ آخر بانهيارها.
ينتظر التونسيون حكومة وحدة وطنية، لا نعلم بالدقة كيف ستتكون، وما هي برامجها الاجتماعية، وبشكل خاص ما يتعلق بمكافحة البطالة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتضيق الفجوة بين الغنى والفقر. وهذه باعتقادنا أمور جوهرية، فالتونسيون لم ينتفضوا فقط من أجل الإطاحة بنظام جثم على صدورهم، منذ حقبة ما بعد الاستقلال، ويستبدلوه بنظام لا يحقق تطلعاتهم في الحرية والعدل والمساواة، بل يتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، ليس أقلها وضع الشعارات التي طرحوها في الشارع، وكانت مبرر ثورتهم، قيد التنفيذ.
هذا القول يصح على أرض الكنانة، التي تمر بأمواج عاتية تتقاذفها يمنة ويسرة. والموقف بين الثوار الشباب التي صنعوا ثورة 25 يناير والحركات السياسية التقليدية المعارضة ليس على ما يرام. وبالمثل لا توجد قواسم مشتركة بين القوى السياسية التقليدية المعارضة. والتحالف الذي نشأ بين المجلس العسكري وحركة الإخوان المسلمين، أمسى مرشحا للانفضاض، بعد اتضاح نية العسكر في ترشيح رئيس المجلس العسكري المشير طنطاوي لرئاسة الجمهورية، وهو ما يضيق من فرصة الإخوان لإنجاح مرشحهم، أو مرشحيهم.
والحال أصعب بكثير، في ليبيا، فالصراعات في هذا البلد الشقيق تكاد تعصف بمستقبله جملة وتفصيلا. هناك صراع بين المجلس الانتقالي وبين الذين قادوا عملية الفتح من بقايا الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، في مواجهة نظام العقيد القذافي. والصراعات بين الليبراليين والإخوان لم تعد سرا، بل أصبح الحديث عنها مألوفا، في الفضائيات وعلى صفحات كبريات الصحف العربية، وهناك قبائل تتصارع فيما بينها. وعند كتابة هذا الحديث تكون قد مرت سبعة أيام على الصدام العسكري بين قبائل لا تزال تعلن تأييدها للقذافي، حتى بعد رحيله وقبائل موالية للمجلس الانتقالي الليبي. كما برز على السطح صراع آخر على تقاسم التركة الليبية بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وبقية أعضاء التاتو التي شكلت التحالف الدولي، الذي أسهم في إسقاط النظام السابق، تحت شعار الحماية الدولية للمدنيين.
والأوضاع في اليمن وسوريا، مرشحة للمزيد من الانهيارات، ما لم تتحقق مصالحة تاريخية بين القوى الحية في البلدين الشقيقين، تسهم في حمايتهما من التفتت، وتعيد الاعتبار لحضورهما التاريخي العربي.
المتفائلون، يرون في ملاحظات كهذه تشاؤما، وركونا إلى التحليل الجامد، غير المتفاعل مع ما يجري من تحولات تاريخية حوله. ويرون أن الأجدى هو التحريض على البناء والدعوة لفتح صفحة جديدة من التعاون بين مختلف أبناء الشعب في البلدان التي شهدت التغيير. ويذهب البعض الآخر، إلى ما هو أبعد من ذلك فيصف مقالتنا الاستشرافية عن المستقبل الليبي، التي نشرت قبل عدة أسابيع بأنها تماه مع لغة المثقفين الغربيين، الذين لا يجدون في أمتنا سوى قبائل، تتصارع فيما بينها على الكلأ والماء.
ويقيني أن مهمة المثقف والباحث، هي أبعد من ذلك بكثير. إن المثقف ينبغي أن يكون ضمير الأمة والعين الفاحصة المؤتمنة على قراءة الواقع وتشخيصه، وفقا للمعايير العلمية الصارمة والدقيقة. وتلك قضية تقتضيها الأمانة العلمية، والموقف الأخلاقي والمصلحة الوطنية والقومية. وحتى إذا بدت النتائج التي يتوصل إليها التحليل ولتقييم غير واعدة، فإنها تفتح آفاقا جديدة، وتسهم في التحريض على اصطناع طرق ومخارج وأدوات تمكن مشروع النهضة من أن يواصل مساره التاريخي. وأن يصل في النهاية لتحقيق الأهداف العظيمة التي هي مبرر انبعاثه. وذلك هو جوهر الالتزام بما نطلق عليه مجازا بـ “الواقعية الجديدة”.
يسرف البعض إغراقا في التفاؤل، ويرون في ما جرى بالوطن العربي، تحريكا لمياه راكدة. لكن مثل هذا القول يتناسى أن مشروع الأمة للنهوض بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان تحريكا لمياه راكدة، انتهى بسايكس بيكو، ووعد بلفور، وسقوط المشرق العربي تحت مجنززات الغزو البريطاني والفرنسي، وصناعة ملوك الوصاية في مراكز النهضة، وقيام الكيان الصهيوني، ومن ثم فشل ثورات 1919 في مصر وثورة العشرين في العراق، و1936 في فلسطين، وانتفاضات أخرى كثيرة.
ولم تكن كرنفالات الفرح آنذاك بأقل منها الآن، لكن غياب القراءة الصحيحة للواقع، تسبب في اندحار الطبقة المتوسطة، ليرتد معها مشروع التنوير الذي برز بين الحربين الكونيتين، وليتسلم الراية الشبان اليافعون في للمؤسسة العسكرية العربية، التي انبثق منها لاحقا عدد لا يستهان به من أنظمة الاستبداد. رغم تسليمنا بأن هذا القول ينبغي أن لا يؤخذ على علاته، وأن لكل قاعدة استثناء.
يبر البعض تفاؤلهم، بالقول أن ما يجرى من انهيارات سياسية واجتماعية، واقتصادية، ومن احترابات داخلية في البلدان التي شهدت تحولات في هرم السلطة، منذ بداية هذا العام، أمر طبيعي. ويستدلون على ذلك، بأن انبثاق النظام الديمقراطي الأوروبي استغرق خمسمائة عام، وحروب أهلية وأخرى بين بلدان القارة الأوروبة، ذهب ضحيتها ملايين من البشر، ولكن أوروبا في النهاية وقفت على قدميها، وشقت طريقها كقوة صاعدة، استطاعت أن تتحول إلى قلب العالم، وأن تدحر الممالك والامبراطوريات التي وقفت ضدها.
إن ما يجري الآن بالبلدان العربية، من وجهة النظر هذه يشبه إلى حد كبير ما شهدته أوروبا، قبيل وأثناء انفجار الثورة الصناعية. ويتناسى هذا القول جملة من الحقائق أهمها أن التحولات الكبرى في القارة الأوروبية هي نتاج تطور تاريخي، وانتقال في مراكز القوى، وبروز قوى اجتماعية جدية، وجدت في البنى القائمة معوقا لانطلاقتها، فقامت بكنس كل الترسبات التي تحول دون انطلاقتها. وقد انطلقت من قوالب فكرية وبرامج سياسية، عبرت عن نفسها في الأدب والفنون والفلسفة. وكان الصراع الاجتماعي، يتفاعل مع عوامل ذاتية محركة، لم تتأثر سلبا بالمناخات المحيطة بالقارة الأوروبية وبهيمنة القوى العظمى السائدة، التي كانت هي الأخرى في طريقها للأفول.
والنتيجة أن الصراع في القارة الأوروبية، كان صراعا يتجه نحو المستقبل، من جوانب كثيرة. كان الصراع يصهر الإمارات الصغرى، ويخلق منها أمما حية، وفي معمعانه يندحر الإقطاع، والكنسية وتبرز فلسفة الأنوار، وتتعزز أطروحة فصل الدين عن الدولة، ويتعمم مبدأ فصل السلطات بين المؤسسات الثلاث، ويعلن بشكل لا لبس فيه أن الناس ولدوا أحرارا، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون. وتتحول العلاقات من طابعها البطركي، إلى الطابع التعاقدي. وكلما تصاعد الصراع، ضمن هذه السياقات كلما تعززت المكاسب الديمقراطية.
في الوطن العربي، تأثرت الحركة السياسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالعوامل المحيطة، ولم تكن نشأتها بتأثيرات ذاتية، وبقيت كذلك عقودا طويلة. وكان التأثير الكولونيالي واضحا على مسار حركات الاستقلال. يكفي أن حركة التحرر بنت تحالفاتها على النوايا الحسنة بالمندوب السامي البريطاني في القاهرة، مكمامون، وأن النخب العربية انخرطت في كتائب الجيش العربي الذي يقوده لوارنس العرب، وكان الأمل أن يكون التحالف مع الغرب مقدمة لاستقلال المشرق العربي، لكل النتائج جاءت كارثية ومخيبة للآمال. هل لنا أن نعيد تكرار التجربة، بسياقات أخرى، بعد أن أكدت تجارب أكثر من قرن من الزمن على أن الرجعية العربية غير مهيأة تاريخيا لقيادة أي مشروع يتجه نحو المستقبل، خاصة وأن أدواتها ووسائلها، لا زالت هي ذات الوسائل التي تسببت في الماضي في هزيمتنا وسحق كرامتنا.
وعلى الصعيد الانتقال الاجتماعي، ساهم ارتباط البلدان العربية، بالاقتصاد الأوروبي، إلى جعل التشكل الاجتماعي مشوها، فلا هو بقي في حدود العلاقات البطركية والاقطاعية التي سادت من قبل، ولا هو استطاع تجاوزها لمرحلة تشكيل الدولة المدنية الحديثة. وذلك ما يستحق منا تسليطا أكبر، لعلنا نتمكن من الإسهام مع غيرنا في خلق رؤية تمكن من الخروج من النفق، وتعيد بعضا من الأمل واليقين والثقة في المستقبل.