خطوة إلى الأمام… خطوتان إلى الخلف
نجاح أي مشروع وطني أو تحرري أو سياسي تقدم عليه أية حركة، يعتمد إلى حد كبير على الإرادة ووضوح الرؤية وتبني برنامج طويل المدى يتضمن أهدافها الكبرى، وآخر مرحلي، قابل للإنجاز، يتضمن ما ينبغي عمله في حقبة تاريخية محددة، ويأخذ بعين الاعتبار القدرة على إقناع مختلف الأطراف، محلية ودولية، بعدالة القضية التي يجرى النضال من أجلها، وتوسيع دائرة المؤيدين والمتعاطفين، وفرض العزلة على الخصم، وتقليص دائرة حركته.
هذه الشروط تبدو مقدمات بديهية لا بد من الأخذ بها في العمل السياسي، ويتضمن تحقيقها بالتأكيد قدرا كبيرا من المهام الشاقة والتضحيات. ولا شك أن قدرة حركة التحرر الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير، ووعيها لهذه البديهيات قد مكنها من استنهاض الأمة في معظم الأقطار العربية، وكسب تأييد عالمي واسع لحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني.
لقد تطور الفهم الفلسطيني لطبيعة الصراع بعد هزيمة حزيران عام 1967م، وأصبح التمييز واضحا بين الصهيونية، كعقيدة استيطانية وعنصرية، وبين الديانة اليهودية. وغدت الخصومة ضمن هذه الرؤية المتقدمة، ليست بين العرب ومعتنقي الديانة اليهودية، ولكنها بين الأمة العربية، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني، وبين أولئك الذين قدموا من مختلف أصقاع الأرض واغتصبوا أرض فلسطين وشردوا شعبها. وكان لهذا الفهم الجديد أثر كبير في صياغة مشروع النضال الوطني، حيث طرحت منظمة التحرير في مطلع السبيعينات شعار الدولة الديمقراطية التي يتعايش فيها الفلسطينيون، المسلمون والمسيحيون مع اليهود، ضمن كيان واحد، وحقوق متساوية.
ورغم أن الحقائق المتوافرة على الأرض لم تكن تسمح بتطبيق هذا الشعار في تلك المرحلة، لكن تبنيه من قبل المقاومين الفلسطينيين قد أعطى بعدا حضاريا إضافيا لقضيتهم، وساهم في اتساع محيط تأييدها.
ولاشك أن وصول زعيم الليكود، أرييل شارون إلى الحكم، والمنهج العنصري والإرهابي الذي اعتمده في مواجهة الإنتفاضة الفلسطينية، وقدرة الإنتفاضة على الصمود، رغم كل محاولات التذويب والقتل واستمرار حرب الإبادة، قد منحت الفلسطينيين تأييدا واسعا، في أماكن كانت تعتبر مغلقة أمامهم، ومؤيدة بشكل مطلق للكيان الصهيوني.
ولعل نتائح الإستطلاع الأوروبي الذي أكد من خلاله الأوربيون على أن الكيان الصهيوني يتصدر لائحة الدول التي تهدد الأمن والسلام في العالم، يشكل أكبر دلالة على تراجع التأييد للدولة العبرية، وتنامي التأييد للفلسطينيين.
لقد أوضحت نتائج استطلاع، جرى في منتصف شهر أكتوبر الماضي، بين مواطني الاتحاد الأوروبي، أن غالبية الأوروبيين يرون إن الكيان الصهيوني يشكل تهديدا للسلم العالمي أكثر بكثير من دول عديدة، تعتبرها الإدارة الأمريكية والغرب خطرا على العالم.
وحسب هذا الاستطلاع الذي تضمن رؤية الأوروبيين إلى حرب العراق والسلم العالمي، والذي شمل 7515 شخصا من مختلف الدول الـ15 المكونة للمجموعة الأوروبية، ونشرت نتائجه الكاملة يوم الاثنين 3 نوفمبر، فإن 50% من الأوروبيين أجابوا حين طلب إليهم اختيار دولة واحدة من أصل 15 تهدد أمن وسلامة العالم، أنهم يرون إن الكيان الصهيوني يتصدر لائحة الدول التي تهدد أمن وسلامة العالم. والملفت للانتباه أن إسرائيل احتلت هذا المركز بفارق كبير عن دول أخرى يجري الحديث عنها في وسائل الإعلام الغربية كمصدر خطر للسلم العالمي مثل كوريا الشمالية وإيران.
وكانت نتيجة الاستطلاع مفاجأة صاعقة للصهاينة في العالم. ولذلك لم يكن مستغربا أن ترتفع أصوات الاحتجاج والتنديد من طرف اللوبي الصهيوني، حيث بادر مركز سايمون فازينثال اليهودي النافذ الذي يوجد مقره في الولايات المتحدة إلى ترديد الأسطوانة المملة، متهما الاستطلاع بالتحيز والعنصرية، والادعاء بتجذر معاداة السامية في القارة الأوروبية.
لقد قام الكيان الصهيوني، إثر صدور نتائج هذا الإستطلاع بحملة ترهيب واسعة النطاق داخل القارة الأوروبية، متهما كثيرا من العناصر القيادية البارزة في ألمانيا والنمسا وبلجيكا بمعاداة السامية، وعاملا بإصرار على عزل العناصر المتعاطفة مع القضايا العربية، في محاولة يائسة لاستعادة مواقعه التي فقدها في القارة.
وتضامن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، هو الآخر، مع محاولة الكيان استعادة مواقع التأييد التي فقدها، على مستوى العالم، فبدأ بالتركيز على ما يدعيه بحملة الإضظهاد التي تعرض لها اليهود في الأقطار العربية التي تواجدوا فيها قبل هجرتهم إلى فلسطين. وفي هذا الإتجاه، بدأ عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي حملة شرسة لحشد التأييد لصدور قرار، يوقع عليه أكبر عدد من النواب قرار يطالب المجتمع الدولي بالاعتراف “بالوضع الصعب” الذي واجهه اليهود الذين هاجروا من الدول العربية لفلسطين. ويدعي مشروع القرار الذي قدمه عضو مجلس النواب الأمريكي عن ولاية فلوريدا الياناروس رقم 311 .أن نحو650 ألف لاجئ يهودي نزحوا من دول عربية إلى الكيان العبري خلال السنين العشر الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني، وإنهم اضطروا، أمام ما دعاه المشروع، بحملة التطهير العرقي التي جرت ضدهم في الدول العربية، أن يتركوا وراءهم أملاكهم ومنازلهم وأعمالهم وآلاف السنين من التراث اليهودي والتاريخ اليهودي. وطالب مشروع القرار بالاعتراف بما “بما حدث” لليهود في الدول العربية.
وعلى صعيد تحسين صورة الصهاينة أمام العالم، طالب مشروع القرار بتعديل الكتب المدرسية والمناهج التعليمية التي وصفت بمعاداة السامية، والتي ترفض قبول اغتصاب الصهاينة لفلسطين، باعتبارها مناهج تساهم في زيادة التوتر وتعميق الكراهية بين العرب والصهاينة. وقد أطلق “التحالف الوطني من اجل الكيان الصهيوني” وهو منظمة ترعي أكثر من 200 جماعة مسيحية يمينية على امتداد الولايات المتحدة حملة لتبني هذا المشروع وطرحه أمام الكونغرس لمناقشته وإقراره.
في ظل هذا التنامي الواسع لتأييد القضية الفلسطينية والمحاولات الصهيونية لاحتواء هذا التأييد والإلتفاف عليه، تطالعنا الأخبار بقيام تنظيم إسلامي متطرف بتفجير معبدين يهوديين في العاصمة التركية اسطنبول، والتي ذهب ضحيته العشرات من القتلى والمثات من الجرحى من المدنيين اليهود، الذين كانوا يمارسون عباداتهم وطقوسهم الدينية. لقد واجه العالم المتحضر بأسره هذا العمل، بحملة استنكار وغضب بالغين.
وبالنسبة لنا نحن العرب، فإن هذا العمل، في نتائجه، يشكل طعنة لنضالات الحركة الفلسطينية وإنجازاتها التاريخية، كما يشكل ضربة قاصمة لدائرة التأييد التي تمكن الفلسطينيون، بصمودهم واستمرار انتفاضتهم الباسلة، من تحقيقها على الصعيد العالمي، وبخاصة في القارة الأوروبية. إضافة إلى ذلك فإنه مدان أخلاقيا ودينيا كونه يشكل اعتداء على عناصر ليس لها علاقة مباشرة بالظلم الذي لحق بأهلنا في فلسطين، وهو قتل عمد ليس له ما يبرره، وترفضه الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، تحت كل الظروف.
ومن المؤكد أن الجهة الوحيدة المستفيدة من تلك التفجيرات هي الكيان الصهيوني، لأنه من جهة، يساهم في تخفيف طوق العزلة الدولية الخانقة التي يمر بها هذا الكيان الآن، والتي أشرنا لها في صدر هذا الحديث، ويوسع من دائرة التعاطف مع منطلقاته العنصرية، ويساهم في ترويج فكرة الإضطهاد الدائم الذي تعرض له اليهود على مر التاريخ، التي ينظر لها الصهاينة. ومن جهة أخرى، فإنه إشارة إلى اليهود الذين يرفضون الهجرة إلى الأراضي المحتلة، بأنهم ليسوا في مأمن، خارج أرض الميعاد، وأن مكانهم الطبيعي هو الهجرة إلى “وطنهم القومي” فلسطين، وبذلك يساهم الذين قاموا بعملية التفجير، أيا كانت نواياهم، في حل أزمة الكيان الصهيوني الديموغرافية الحادة، بضخ المزيد من القدرات البشرية له. وهم بذلك أيضا، ينسجمون تماما مع المنطلقات الصهيونية التي تجعل من دولة إسرائيل ممثلا لجميع اليهود في كافة أنحاء العالم وناطقا باسمهم، ومطالبا بالتعويضات نيابة عنهم، وهو تفويض لم يمنحه أو يقل به أحد سوى أولئك الذين نظروا للمشروع الصهيوني، وتبنوا وعد بلفور وعملوا على تنفيذه، بتشريد الفلسطينيين وطردهم من ديارهم. وهو إضافة إلى ذلك كله، تراجع خطير إلى الخلف بعد أن تمكن الفلسطينيون بفعل كفاحهم المرير من تحقيق خطوة إلى الأمام… إنه في أحسن أحواله خطوتين إلى الخلف..
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-11-19