خطة الانسحاب الأمريكي من العراق… غموض متعمد
تدشين حقبة جديدة من الدبلوماسية، والتعهد بالعمل لتحقيق السلام بالشرق الأوسط، والتأكيد على الحوار لحل الخلافات، وانسحاب الجيش الأمريكي من العراق، وترك العراق لأهله ليقرروا مصيره. ذلك هو التعهد الذي وسم سياسة الرئيس الأمريكي أوباما الخارجية، منذ بدء حملته الانتخابية، إلى تتويجه رئيسا للولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يمكن قراءة إعلان الرئيس أوباما، خلال هذا الأسبوع، خطته لسحب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011.
خلال أسبوع واحد أعاد الرئيس الأمريكي، تأكيد هذه السياسة أكثر من مرة. فأثناء إلقائه أول خطاب رئاسي له بالكونجرس، أكد تمسكه بهذه السياسة، متعهدا بسحب جميع القوات القتالية من العراق، في غضون ستة عشر شهرا، من توليه مهام منصبه. ومرة أخرى، بعد أقل من أربعة أيام على هذا الإعلان، أعاد الرئيس الأمريكي في خطاب متلفز، تأكيده على هذه السياسة، وحدد 31 أغسطس عام 2010 موعدا لإنهاء العمليات القتالية الأمريكية في العراق. وأشار إلى أنه يعتزم سحب جميع القوات من العراق بنهاية عام 2011.
لكن كلا الخطابين، كانا خطابي نوايا، ولم يبلغا مستوى القرارات الملزمة. فالخطاب الأخير، على سبيل المثال، وهو الخطاب الذي اقترح حدودا زمنية معروفة، لتواجد القوات الأمريكية في العراق، لم يتسم بالصراحة والحسم، وجاء في مضامير رئيسة منه غامضا. فقد حدد جدول الانسحاب الذي أعلنه أوباما لسحب القوات نهاية أغسطس عام 2010، موعدا لإنهاء العمليات القتالية، لكنه أعلن أن ما بين 35000 إلى 50000 عسكري أمريكي سيبقون في العراق.
وهنا تبرز لدينا ملاحظتان: الأولى هي حجم القوات المتبقية، وأسباب عدم سحبها. حجم القوات المقترح بقاؤها، تشكل أكثر من 35% من عدد القوات الأمريكية المتواجدة الآن بالعراق. وهو حجم ليس بالقليل. وبالتأكيد فإن الإدارة الأمريكية تستطيع في أية لحظة زيادة هذا العدد أو نقصانه، وفقا لاستراتيجياتها الخاصة، ومتى ما دعت حاجتها لذلك.
الملاحظة الأخرى في هذا السياق، هي الإشارة إلى إنهاء العمليات القتالية، من قبل الأمريكيين. هنا لا يقدم الرئيس الأمريكي تعهدا واضحا وثابتا بعدم مشاركة الأمريكيين في القتال الدائر بين الحكومة العراقية، المدعومة من الاحتلال وبين المقاومة العراقية، التي تطمح إلى تحرير العراق، والتخلص من الإفرازات والعمليات السياسية التي تمخضت عنه، بما في ذلك مشروع المحاصصة الطائفية والإثنية.
إننا هنا عمليا إزاء لغة فضفاضة، تحتمل الشيء ونقيضه. فكون إدارة أوباما تعلن نهاية العمليات القتالية من جهة، ومن جهة أخرى، تتمسك ببقاء أكثر من 35% من القوات المتواجدة بالميدان داخل العراق، يطرح علامات استفهام كبيرة على الهدف الأمريكي. فلا أحد يتوقع أن يمكث ما يقرب من الخمسين ألف عسكري ببلاد الرافدين بهدف الاستجمام. الأقرب إذن، هو أن القوات الأمريكية لن تبادر بالقيام بالمزيد من العمليات القتالية، ولكنها ستكون جاهزة لمساندة الجيش العراقي، الذي جرى تفصيل تأسيسه وفقا للعملية السياسية، التي نفذها المندوب السامي، برايمر، والتي أسهمت بشكل كبير في تشويه كيانية العراق السياسية وهويته التاريخية، الكيانية التي برزت مع استقلال العراق، والهوية التي بقيت حاضرة، منذ غدت الكوفة مركزا فكريا إسلاميا، أثناء الخلافة الراشدة، وأضحت بغداد صرحا حضاريا عربيا، ومركزا للخلافة بالعصر العباسي.
نقطة أخرى، مهمة في مضمار وعد الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق، بنهاية عام 2011، هو أنه حمل تراجعا واضحا عن وعدة قبل أيام قليلة من خطابه المتلفز، ومن وعود سابقة، أكد فيها على أن القوات الأمريكية ستنسحب نهائيا في فترة لن تتجاوز العشرين شهرا، في كل الأحوال. وقد تراوحت الوعود ما بين اﻟ 16 شهرا كحد أدنى، واﻟ 20 شهرا كحد أعلى. وفي كل الأحوال، لم تخرج الوعود السابقة، ولا الوعد الأخير عن صيغة النوايا. فالخطاب الأخير تحدث عن “اعتزام بسحب القوات الأمريكية”، ولم يتحدث عن قرار أمريكي واضح وصريح وحاسم باتجاه إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق. وذلك يجعل الباب مفتوحا لكل الاحتمالات، بما في ذلك بقاء القوات لفترة طويلة، غير محددة، كما يقترح بعض كبار القادة العسكريين الأمريكيين.
السؤال المركزي الذي نحاول أن نجيب عنه في هذا الحديث يتعلق بحيثيات الغموض، الذي أحاط بجملة تصريحات الرئيس الأمريكي، حول موضوع الانسحاب. لماذا هذا الغموض في الإعلانات الرئاسية حول الانسحاب من العراق؟ بشكل أكثر دقة، هل هذا الغموض يعود لعدم توصل صانع القرار الأمريكي لجدول واضح، يتسق مع البرنامج المعلن للسياسة الأمريكية؟ أم أن تلك الصياغات غير الواضحة، تأتي بشكل متعمد لخدمة أغراض سياسية، ليست لها علاقة مباشرة، بما يجري في ميادين القتال.
قراءتنا للملف السياسي الأمريكي، حول العراق، وللتجاذبات والتداخلات والتفاعلات السياسية المحلية والإقليمية المرتبطة بهذا الملف تشي، بأن الصيغة الفضفاضة في إعلانات أوباما بهذا المضمار، هي صيغة متعمدة، تهدف إلى أن تبقى المبادرة والمناورة بشكل مستمر، بيد صانع القرار.
وإذا ما عدنا إلى خارطة الصراع، والقوى الفاعلة فيه على أرض العراق، يصبح بإمكاننا القول إن هذا الغموض يستهدف من جانب، التعتيم على التفاصيل الحقيقية، للانسحاب ويترك مرونة لصانع القرار الأمريكي، كونه على الصعيد العملي لم يلزم نفسه بشيء. ومن جانب آخر، فإن هذا التعتيم، سيكون عامل ضغط على جميع الأطراف المستهدفة بهذا الملف. وهي على وجه التحديد، حكومة المالكي، وإيران، والمقاومة العراقية.
فيما يتعلق بحكومة المالكي، فإنها تخشى من انسحاب أمريكي سريع من العراق، يجعلها بين ضغوط كبيرة، تؤدي إلى سقوطها، وسقوط العملية السياسية التي فرضها برايمرر، برمتها، نظرا لافتقارها للقوة العسكرية الضاربة المعادلة لقوة المقاومة العراقية. إن الإدارة الأمريكية، في هذا الاتجاه، تهدف إلى إجبار القوى الموالية لإيران في العملية السياسية العراقية، على إعادة الضباط العسكريين الذين أجبروا على ترك وظائفهم بعد الاحتلال، وتحقيق “المصالحة الوطنية”، التي تضمن من خلالها عدم تفرد الإيرانيين بمستقبل العراق.
وبهذا الاتجاه، نذكر بتصريحات نائب الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن التي اتهم فيها حكومة المالكي بالتقصير في تحقيق المصالحة الوطنية، والتي حملت تهديدا صريحا بفرض عقوبات على المالكي إن هو لم يمض قدما في تحقيق ذلك. وقد تناولنا تلك التصريحات في حديث سابق تحت عنوان الانسحاب الأمريكي من العراق والملف الإيراني في 11 فبراير الماضي.
فيما يتعلق بإيران، فقد تناولنا الملف النووي الإيراني بالمناقشة والتحليل في أحاديث سابقة*، بشكل مكثف، ولا نجد حاجة لتكرار ما ذكرناه. لكن الجانب الذي نرى أهمية معاودة التأكيد عليه، هو أن الإيرانيين، يجدون في بقاء القوات الأمريكية في العراق، صيدا ثمينا، يجعل منها رهينة بأيديهم عند حدوث أية مواجهة عسكرية مع الإدارة الأمريكية. إن الإدارة الأمريكية بهذا التعتيم، تحقق جملة من المكاسب، لعل أهمها أنها لن تقبل ببقاء قواتها رهينة في يد الإيرانيين، وأن الأمريكيين جاهزون للانسحاب، وتحويل الإيرانيين أنفسهم إلى رهائن في المستنقع العراقي، بما يمكن هذه الإدارة بشكل مباشر، أو الكيان الصهيوني وكالة بضرب إيران، وجعلها عمليا بين سندان المقاومة العراقية، ومطرقة الآلة العسكرية الأمريكية، إن لم تقبل بالحوافز التي تقدمها أمريكا والأوروبيون لها، مقابل إيقاف برنامجها النووي. وتشير معظم توقعات الخبراء في وكالة الطاقة النووية، أن إيران لن يكون بمقدورها استكمال بناء برنامجها النووي قبل الانسحاب الأمريكي من العراق.
الرسالة الأخيرة، التي تهدف لها صيغة إعلان أوباما الفضفاضة، موجهة مباشرة للمقاومة العراقية، التي اختارت، منذ أكثر من عام أن تقوم بتراجع تكتيكي، وحددت برنامجها السياسي بوضوح، وجلاء، موضحة أن مشكلتها الرئيسة ليست مع الولايات المتحدة كدولة كبرى، ولكن مع وجودها في بلاد الرافدين كقوة محتلة. وأنها على هذا الأساس، مستعدة للحوار مع الإدارة الأمريكية، على أساس التمسك برفض إفرازات الاحتلال، بما في ذلك العملية السياسية، وأن يعود العراق بلدا عربيا حرا مستقلا، يقيم علاقاته مع دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة بتوازن وتكافؤ وندية، وبعيدا عن سياسة الاستتباع. إن إدارة أوباما تضغط الآن على المقاومة العراقية، للدخول في مصالحة وطنية، ترفض المقاومة صيغتها الحالية، كما ترفض أية شروط مسبقة من قبل الأمريكيين تجاه تحقيقها.
في هذا الاتجاه، تريد إدارة أوباما أن تبلغ المقاومة العراقية، ألا تعول كثيرا على انسحاب أمريكي سريع من العراق، على أمل التفرد بالحكم العراقي المسنود أمريكيا ومنازلته والقضاء عليه، بعد الانسحاب الأمريكي مباشرة. يريد أوباما أن يقول للمقاومة إن الجيش الأمريكي باق في العراق، لأمد غير محدود، وأن الأفضل لها أن تصل إلى تسوية سياسية مع إدارته، الآن كي لا يغرق العراق مستقبلا، في “فوضى خلاقة”، باتجاه طردي، ومعاد لأمريكا، تعيد للعراق، عنوة حضوره التاريخي العربي.
هذه الأسباب هي باعتقادنا ما دفع بجعل الإعلانات الأمريكية المتعلقة بجدولة الانسحاب فضفاضة وغير واضحة.. وهي أسباب وجيهة وجديرة بالتوقف عندها، ومناقشتها لاحقا في أحاديث أخرى، بإذن الله.
cdabcd
* هل فعلا بدأ العد التنازلي لحرب أخرى بالمنطقة؟
* الملف النووي الإيراني والسيناريوهات المحتملة
* مواجهة استراتيجية أم حرب تحريك؟!
°²v²°
yousifsite2020@gmail.com