حين يقاضي الجلاد ضحيته
المحرقة الأخيرة، وحملة الإبادة التي شهدها قطاع غزة المحتل، وما أعقبها من عملية فدائية حدثت في مدينة القدس، فوق جبل المكبر، استهدفت مدرسة يهودية أعادتا الاعتبار لجملة من الحقائق التي أكدت حضورها باستمرار، في محطات عديدة، منذ وعد بلفور عام 1917، وتصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إلى قيام الكيان الغاصب على أرضها عام 1948م، وحتى يومنا هذا.
أولى هذه الحقائق، أن الكيان الصهيوني الغاصب هو طليعة استيطانية غربية متقدمة. إن ذلك يعني، من جهة، تماثل المشروع الصهيوني في المنهج والسلوك مع الطلائع الاستيطانية الغربية الأخرى، التي سبقتها في القارتين الأمريكتين، وفي استراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا، من حيث نفي الآخر، من خلال الإفراط في القتل والتدمير، وتغليب نظرية البقاء للأصلح، والأرض لمن يزرعها، ونقاء العرق الآري أو اللون الأبيض، وتعميم ثقافة عنصرية، مغرقة في تخلفها ولا إنسانيتها، تختزلها عبارة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.. ومن جهة أخرى، فإن التسليم بأن المشروع الصهيوني هو طليعة استيطانية غربية متقدمة، يقتضي شيئا آخر، هو استمرار العلاقة بين خطوط الزحف الغربي المتقدمة، في هذه الحالة الكيان الصهيوني، وبين المركز الأم. فالطلائع الاستطلاعية أو العسكرية، هي بالنهاية جزء لا يتجزأ من المشروع “الأصل” للاستيطان. وتبقى دائما بحاجة إلى دعمه اللوجستي، بأشكال مختلفة، من ضمنها تقديم الغطاء الأيديولوجي والثقافي لمشروع العدوان، وتزويده بأحدث التقنيات العسكرية، ومده بالدعم السياسي والاقتصادي، والمعونات المالية، وتوفير مظلة حماية دائمة له.
الحقيقة الأخرى، أن مشروع الاستيطان يحمل في ثناياه ثقافته الخاصة، التي هي أحد إفرازات عقلية جبروت وغطرسة القوة. إن هذه الثقافة تقدم حيلا دفاعية ماكرة للقاتل، تجعله يُصير عمليات الإبادة والتدمير في اللاوعي إلى رسالة أخلاقية هدفها الدفع بالحضارة البشرية إلى الأمام. والشرط الأول في تحقيق هذه الرسالة هو تجريد الضحية من إنسانيته، باعتباره أحد مصدات رافعة التقدم والتحديث. ومن هنا لا يتوقع المستوطن “المتحضر” من خصمه أية مقاومة، لأن تجريده من إنسانيته يعني ابتداءً حرمانه من حق المقاومة والحياة.
هذه الثقافة تفترض في الضحية التسليم دون قيد أو شرط. وفي هذا السياق، يجري الغازي عملية تدوير وإسقاط متعمد للمفاهيم، فيصبح الضحية هو الإرهابي والمتوحش. وتُبرز أدبيات مقاومة “الهنود الحمر” صورا مرعبة من عمليات الإسقاط. فالأبيض الذي حمل سكينة لقطع عنق الهندي الأحمر، لم يكن يتصور أن تتجرأ ضحيته على عض يده أثناء عملية القتل. “لقد قام المتوحش بعض إصبع يدي أثناء تقطيع أوداجه”.
هذه المقدمة ربما تكون لازمة لوعي طبيعة الموقف الأمريكي من العدوان الصهيوني الأخير على غزة، الذي وُصف من قبل نائب وزير حرب العدو بعملية المحرقة، والذي كانت غالبية ضحاياه من المدنيين الفلسطينيين في غزة. ولم يشذ ذلك الموقف عما عودتنا عليه إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش. فقد رفضت هذه الإدارة باستمرار تسجيل أية إدانة بحق الممارسات الوحشية التي ينتهجها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين العزل. وعمل المندوب الأمريكي بمجلس الأمن الدولي على عرقلة أي قرار يصدر عن المجلس، يحمل إدانة للممارسات الوحشية الإسرائيلية، من خلال التلويح باستخدام حق النقض (الفيتو) لتعطيله.
لقد هاجمت “إسرائيل” المدنيين العزل في قطاع غزة بالدبابات والطائرات والصواريخ بعد أن جوعتهم وقطعت عنهم كل إمدادات الوقود والطعام والدواء، وأحكمت إغلاق منافذهم إلى العالم الخارجي، وهددتهم بمحارق أكبر، وكان حصاد المحرقة 130 شهيدا معظمهم من الأطفال والنساء، وكان عدد الأطفال الرضع الذين سقطوا بالرصاص حوالي ثلاثين طفلاً، منهم من لم يتجاوز عمره عشرين يوماً والشهرين، وكان آخرهم الرضيعة أميرة أبو عصر التي لم تبلغ الشهر من عمرها.
لم تصدر كلمة إدانة واحدة، أو حتى نقد للسياسات “الإسرائيلية” من البيت الأبيض. ولم يكتف بالسكوت ولكنه قدم سلسلة من التبريرات للعقوبات الجماعية النازية التي ارتكبها الصهاينة. وتبارى الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ومعه وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بالتصريح بأن ما تقوم به “إسرائيل” هو ممارسة لحق الدفاع عن النفس.
هذه الإدارة التي ماطلت طويلا، والتي لم تبد كلمة تعاطف واحدة تجاه الضحايا من الفلسطينيين، الذين قتلتهم الغارات الإسرائيلية في هجمات مروعة دون شفقة، وحالت دون صدور قرار ينصفهم، كان سلوكها مختلفا جدا عندما يتعلق الأمر بالموقف من ردة فعل الضحية. فإثر العملية الفدائية التي نفذها الشهيد علاء أبو أدهم بمدينة القدس، وعلى جبل المكبر، وبعد أقل من نصف ساعة من إذاعة خبر الهجوم الذي وقع في القدس الغربية المحتلة، أصدرت الإدارة الأمريكية بيانا ندد بعبارات عنيفة ب “الإرهاب” وعبر عن وقوف إدارة الرئيس بوش الكامل بجانب الكيان الغاصب. وبعد ذلك بأقل من عشر دقائق كانت قد تمت دعوة مجلس الأمن الدولي إلى عقد اجتماع عاجل لمناقشة الهجوم، واستصدار بيان يستنكر العملية ويدين الضحية.
لم تضع الإدارة الأمريكية في الحسبان معاناة الفلسطينيين، وأحزان الثكالى في غزة، ولم تأخذ بعين الاعتبار، صرخات الجرحى وأنين اليتامى، ولا الحصار القاسي المفروض على هذا الشعب المظلوم.. وغابت عن الحدث صورة الجدار العازل، والمعابر المغلقة. وتجاهل الموقف الأمريكي عن عمد وسابق إصرار، موقف المتطرفين والإرهابيين الذين يتربعون على عرش المسؤولية في الكيان الصهيوني، الذين يرفعون عقيرتهم مطالبين بطرد الفلسطينيين من ديارهم، تحت ذريعة حماية يهودية “إسرائيل”. كما تجاهل الموقف الأمريكي، عدم جدية الكيان الصهيوني في التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، حتى ولو كان ذلك وفقا للمشروع الأمريكي المعروف ب “خارطة الطريق”، الذي انتقص من حقوق الفلسطينيين، ومثل ما هو دون الحد الأدنى بكثير من الحقوق العربية. وغابت عن الصورة في ذهن صانع القرار الأمريكي، أو غُيبت عن عمد أن المجازر الأخيرة التي اُرتكبت في القطاع، وفي جباليا بالذات، كانت هروبا صهيونيا من الاستحقاقات الآنية للعملية التفاوضية، كوقف الاستيطان وإزالة الحواجز وفتح المعابر والإفراج عن الأسرى، وكلها أمور نصت عليها “خارطة الطريق”.
إن هذا السلوك يأتي متماهيا مع السياق الذي قدمنا به هذا الحديث، والذي يعتمد منطق النفي لوجود الآخر، وبالتالي يحجب عن الشعب المحتل حق مقاومة محتليه. وهو بالذات ما دفع بالرئيس بوش إلى إطلاق مختلف التوصيفات البذيئة على العملية الفدائية في القدس، ومنفذيها بدءً من وصفها بالعملية الإرهابية، إلى الرهيبة والمقززة والفظيعة… وكلها تحمل معنى واحدا هو إدانة مقاومة الضحية لجلاده. إن شدة غضب بوش، وهو المسكون بكابوس آخر يقض مضاجعه في بلاد ما بين النهرين، جعله يعمم غضبه ليشمل كل الفلسطينيين، معبرا عن اشمئزازه من احتفالهم في قطاع غزة بالعملية، وتعبيرهم عن فرحهم بحدوثها. إنها ذات النظرة العنصرية التي ورثها طلائع المستوطنين الغرب لأحفادهم, استخفاف واضح بالسكان الأصليين.
وهنا لا بد من مقاربة بين حدثين لكي تستقيم الرؤية، وتتضح بجلاء طبيعة النهج العنصري في موقف بوش. فالرئيس الأمريكي الذي استنكر قيام الفلسطينيين بعملية فدائية على مدرسة دينية يهودية في قلب القدس، هو نفسه الذي يرى في الهجوم على مدرسة أصولية إسلامية في باكستان أو أفغانستان عملا بطوليا مشروعا يستحق الإشادة، وأصحابه ينالون أرفع الأوسمة. الفرق بينهما، هو أن ما حدث في القدس هو تعبير عن غضب الضحية، أما ما يحدث في باكستان وأفغانستان، فهو تدمير منهجي، يتجانس مع مقولات التمدين والدمقرطة.
المدرسة اليهودية التي تعرضت للهجوم في القدس المحتلة هي أحد مراكز تفريخ المتطرفين الصهاينة، وكان ضمن من تخرجوا منها باروخ غولدشتاين، الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي، وكانت حصيلة تلك المجزرة استشهاد أكثر من عشرين من المصلين دون أي سبب غير الكراهية والتنفيس عن أحقاده الدينية والعنصرية. وقد جاء الهجوم الفدائي على هذه المدرسة ليشكل احتجاجا صارخا على النهج العنصري، والتبشير بالكراهية ضد الفلسطينيين، الذي كان يبرز من بين ردهاتها.
ثقافة الكراهية، وسياسة الإبادة التي مارسها الصهاينة، وعبرت عن نفسها في مسلسل طويل شمل دير ياسين وكفر قاسم والحرم الإبراهيمي والطنطورة ومدرسة بحر البقر ومعامل أبو زعبل، وقتل أسرى الحرب المصريين في عام 1967م، وجرائم أخرى في القنيطرة وجنوب لبنان هي التي دفعت بالفلسطينيين إلى حمل السلاح والمقاومة والاستبسال دفاعا عن الأرض والنفس. ولن تتوقف مقاومة هذا الشعب حتى يسترد حقوقه، في الحرية والاستقلال وتحرير الأرض كاملة غير منقوصة.
ولن توقف “خارطة الطريق”، ومشاريع الاستسلام ولا التوصيف بالإرهاب مقاومة الشعب الفلسطيني، وسوف تستمر رايات كفاحه عالية حتى يتحقق ميزان العدل، ويتوقف الجلاد عن مقاضاة ضحيته.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة بلقيس الملحم)
لافض فوك!
* تعليق #2 (ارسل بواسطة ماجد الخالدي)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الصحيح الذي وعاه وفهمه كل أهل فلسطين وخصوصاً حماس والجهاد وباقي الفصائل الجهادية المقاومة للإحتلال الصهيوني بالرغم من الصعوبات التي يواجهونهاهو الإستمرار بقدر الإمكان بتلقين العدو الصهيوني دروس الصدمة والرعب التي يتبجح بها بوش حين قصف بغداد ليلة الصدمة والرعب المجرمة فلا يفهم العدو الصهيوني ومن سانده وعلى رأسه يهود الدولة الصهيونية المحتلة لأرض فلسطين إلا منطق العنف والسلاح والرعب هكذا هو ديدنهم مذ نقضوا المعاهدات تلو المعاهدات وأولها معاهداتهم مع نبي الرحمة في المدينة النبوية التي كفل لهم فيها الإسلام العيش تحت ظل الشريعة في مجتمع مدني لجميع الطوائف والأديان ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد .. هكذا علمنا التاريخ وهكذا حذرنا الأنبياء!.