حول ندوة الدين والدولة
في العقدين المنصرمين، عقد مركز دراسات الوحدة العربية، الذي يتخذ من بيروت مقرا له، عدة مؤتمرات وندوات لصياغة مشروع نهضوي عربي. وكانت الندوة التي عقدت في مدينة فاس بالمغرب في الفترة 23- 26 أبريل2001 محطة انتقال رئيسية في مناقشات هذا المشروع.
وقد شارك في تلك الندوة ما يقرب من مائة باحث ومفكر وسياسي، من مختلف الأقطار العربية، وممن يمثلون اتجاهات فكرية مختلفة. ومنذ ذلك الحين تتالت الندوات، وتوجت بصدور وثيقة البيان النهضوي العربي، قبل عامين من هذا التاريخ.
توصلت المناقشات، لأهمية بلورة مشروع نهضوي، يمثل تفاعل التيارات الرئيسية الفاعلة بالساحة العربية: القومي والإسلامي والليبرالي. وتوافق المشاركون في النقاشات المكثفة حول المشروع، إلى مبادئ ستة، اعتبرت عناصر رئيسية ومتكاملة للمشروع النهضوي هي الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، التنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية، العدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، الاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني، وأخيرا الأصالة والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب.
قبلت التيارات الرئيسية الثلاثة بالمشروع النهضوي، كما صيغ في نسخته النهائية، وألزمت نفسها به. لكن المشروع بقي في دائرة التبشير، ولم يتاح له أن يكون موضع امتحان. الواقع أن جميع التيارات كانوا خارج السلطة السياسية، وبحكم المعارضين. وكثير من المفكرين الذين شاركوا في صياغة المشروع، أثناء مناقشاته هم من اللاجئين السياسيين، الذين يعيشون حياة الشتات والمنافي.
لكن ما شهده الوطن العربي، خلال العامين المنصرمين، من عواصف عاتية وتحولات كبرى، أدت إلى سقوط أنظمة عربية، عرفت بالفساد والاستبداد، وقيام أنظمة سياسية وحكومات جديدة على أنقاضها غير صورة المشهد السياسي العربي. ونتج عنه تسلم تيار سياسي، هو التيار الإسلامي للسلطة في عدد من البلدان العربية: تونس ومصر وليبيا والمغرب، ليوضع المشروع النهضوي الذي رعاه مركز دراسات الوحدة العربية، ووافقت عليه التيارات الثلاثة، على المحك.
تأكد أن الديمقراطية، بما يستتبعها من انتقال للدولة المدنية، وشيوع مبدأ الحرية والعقد الاجتماعي والفصل بين السلطات، هي ليست وصفة سحرية، وأن النوايا الحسنة لا تكفي لتطبيقها. فالانتقال للدولة المدنية، دولة العدل والقانون وتداول السلطة، هي رهن لشروط موضوعية؟
هذه الشروط لها علاقة بالثقافة والتقاليد وطبيعة ونمو الهياكل الاجتماعية، التي يفترض فيها أن تكون متجانسة مع مشروع التحول. هذه الشروط، غيبت كليا أو جزئيا في المناقشات الجادة والمتواصلة التي سادت ندوات مركز دراسات الوحدة. وكان المؤمل، أن انتهاء الحالة الصراعية بين التيارات الثلاثة، والاتفاق على مبادئ المشروع النهضوي، ستنقلنا فعليا، إلى التفاعل والتكامل، بدلا عن الصراع والاحتراب.
كان من المفترض، أن تناقش ثقافة الاستبداد، في جذوره، ولماذا بدا واضحا خلال الستة عقود المنصرمة، التي أعقبت إنجاز الاستقلال الوطني، أننا أمة تفرخ مستبدين، وأن حالة الاستبداد ليس لها علاقة بالتوجه السياسي. فلا خلاف في الممارسة بين اليساريين والقوميين والإسلاميين، حين يقبضون على مفاتيح السلطة، فكلهم يمارسون الإقصاء والاستئثار، وقمع الرأي الآخر.
تصبح للمعادلة وجهين. معارضة تطالب بالحوار، وتناضل من أجل قيام الدولة المدنية، ثم ما تلبث أن تتحول إلى الضفة الأخرى، متى ما أتيح لها القفز إلى السلطة، في متتاليات لا تنتهي، إلا بتفكيك الواقع، والاهتمام بثقافة الاستبداد ذاتها وبمناخاتها. وما لم يتم معالجة هذه الظاهرة، فإن تجارب الاستبداد سوف يعاد استنساخها، إلى ما لا نهاية.
حين وصلنا إلى تونس، للمشاركة في الندوة التي حضر لها مركز دراسات الوحدة العربية، بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، التي عقدت بمنتجع الحمامات في الفترة من 15- 17 من هذا الشهر، تحت عنوان الدين والدولة في الوطن العربي، كان الشارع التونسي يموج بتظاهرات وعصيان مدني، وباشتباكات بين المعارضين والمؤيدين للسلطة. وكان ميدان التحرير في القاهرة، يموج هو الأخر بحوادث مماثلة، تعكس شعور من نزلوا إلى الشارع، في 25 يناير 2011 بالإحباط واليأس، وسقوط مشروع الثورة، مع اتهامات صريحة لمن هم في هرم السلطة بالاستئثار، والإقصاء وأخونة الصحافة وأجهزة الدولة والانحراف عن مشروع الدولة المدنية. والحال في ليبيا واليمن، ليس بأفضل مما يجري في مصر وتونس.
أوحت هذه المشاهد، بأن الهدف الحقيقي من انعقاد ندوة الدين والدولة، هو العمل على تضييق الفجوة بين التيارات الرئيسية الثلاثة، وإعادة أجواء الثقة بينها إلى ما كانت عليه قبل اندلاع “الربيع العربي”.
بعض عناوين البحوث التي تناولتها الندوة، تشير إلى أن الهدف منها ليس أكاديميا محضا، بل العمل على استعادة شيء من الثقة المفقودة بين التيارات الرئيسية الثلاثة، وتحديدا معالجة القطيعة بين التيار الإسلامي، وحليفيه السابقين. لننظر إلى بعض العناوين: مدخل إلى إصلاح الخطاب الديني المعاصر، الدين والدولة من منظور عصري ومنفتح، الدين والدولة في الأصول الفكرية والسياسية الحديثة، الدين والدولة في الإصول الإسلامية والاجتهاد المعاصر. قراءة هذه البحوث تشي بأنها لا تخرج في منطلقاتها عن المشروع النهضوي، الذي ابتدأنا بالحديث عنه.
الجلسة الأخيرة، في الندوة ضمت أهم رموز التيارات السياسية الثلاثة، وكانت محاولة لتلمس طريق الخروج من الأزمة، بالمكاشفة بشفافية عن معوقات العمل المشترك بين التيارات الثلاثة، خاصة بعد تفرد التيار الإسلامي باستلام السلطة في بلدان “الربيع العربي”.
المفارقة في هذه الندوة، هي أنها حملت عنوان الدين والدولة، وأن المتوقع منها أن تشكل إضافة نظرية للعلاقة بين الدين الذي يمثل تماهي المطلق، والدولة كبناء فوقي، خاضع في صفاته وسماته لتلصنيف النسبي. بمعنى أن يجري العمل على استكشاف العلاقة بين المطلق والنسبي في إدارة شؤون الدولة بالوطن العربي. لكن الندوة، غرقت في تفاصيل العلاقة بين المؤسسات والأحزاب الدينية، وبين السلطة التي يضطلع التيار الإسلامي بقيادتها في عدد من الأقطار العربية. فكرست جهودها لهذه العلاقة في حالات دراسية شملت تونس ومصر وليبيا والمغرب والسعودية، ومقاربة بين تركيا وإيران. وربما كسبت السياسة في هذه الندوة، لكنها لم تشكل إضافة نظرية عميقة لعلاقة الدين، بما هو دين فقط، بالدولة. وذلك ما سيكون لنا معه وقفة في حديث آخر.