حول نتائج انتخابات الكونجرس الأمريكي النصفية
الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، التي أجريت في التاسع من هذا الشهر، تكتسب أهمية خاصة من حيث توقيتها، والأحداث التي لازمتها، ونتائجها، وتأثيراتها اللاحقة على السياسة الأمريكية، في الداخل والخارج. فمن حيث التوقيت، يأتي توافد الناخبين الأمريكيين على مراكز الاقتراع، لاختيار الأغلبية القادمة للكونجرس، وسط خشية من حدوث خلل كبير، في دورة السياسية الاقتصادية والنقدية للولايات المتحدة، وترقب شديد للاتجاه الذي سيسير عليه الاقتصاد الأمريكي، وسط توقعات بسقوطه في حالة ركود عام 2023، وأن يشهد الدولار مزيدا من الضعف. كما تأتي في ظل اتساع دائرة الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، وانقسامات سياسية حادة على النهج الذي تسلكه إدارة الرئيس بايدن، تجاه العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي اتسمت بالشراكة في الحرب، من خلال الدعم الاقتصادي والعسكري، والذي بلغ مليارات الدولارات. يضاف إلى ذلك، ارتفاع أسعار الطاقة، والمواد الغذائية، بسبب العقوبات الأمريكية على روسيا، وانقطاع الصادرات الأوكرانية للأسواق العالمية لفترات طويلة.
لقد أدت تلك العوامل مجتمعة إلى ارتفاع التضخم، بالولايات المتحدة، إلى نسبة اقتربت من 9 في المائة. وتزامن ذلك، بازدياد في نسب البطالة، لمستوى لم تبلغه منذ خمسة عقود.
وعلى صعيد الخارج الأمريكي، تمر علاقات الولايات المتحدة بمشاكل عدة مع روسيا بسبب الأزمة الأوركرانية، والصين الشعبية، التي اعتبرت الزيارات المتكررة لمسؤولين أمريكيين لتايوان، تعديا على سيادتها ووحدة أراضيها. وفي القارة الأوربية، تتصاعد اتهامات دول صناعية كبرى كألمانيا وفرنسا لإدارة بايدن بتخريب اقتصاداتها، وبالمبالغة في رفع أسعار الطاقة. وقد بات الهجوم على السياسة الأمريكية من قبل الساسة الأوروبيين أمرا مألوفا.
لقد ساد شعور عام، لدى وسائل الإعلام الأمريكي والغربي، بأن من شأن الأسباب التي أشرنا لها، أن تودي لهزيمة الحزب الديقراطي في الكونجرس، وأن الغلبة في هذه الانتخابات ستكون لصالح الجمهوريين. لكن النتائج جاءت مغايرة للتوقعات، فلم يتمكن الجمهوريون من تحقيق سوى تقدم ضئيل جعلهم يحصلون على عدد المقاعد التي حصل عليها غرمائهم في هذه الانتخابات، والتي بلغت 49 في المائة لكل منهما.
أما من حيث الظروف التي جرت فيها الانتخابات النصفية، فاتسمت بالفوضى، التي بلغت حد انتخاب النائب الأمريكي، في ولاية بنسلفانيا، توني ديلوكا، الذي توفي قبل شهر عن عمر ناهر 85 عاما، وفاز في هذه الانتخابات بغالبية ساحقة من الأصوات. وكان مبرر وجوده ضمن قائمة المرشحين للانتخابات، أن الوقت قد فات لإزالة اسمه من القوائم الانتخابية، وأنه سيتم إجراء انتخابات خاصة لتحديد من سيشغل مقعده، حسبما ذكرت “فرانس برس”. كما اتسمت الانتخابات بالعنف، في عدد من المراكز. ففي ولاية لويزيانا، وفي يوم الانتخابات، أشار مسؤولون بالولاية، أنه تم نقل مركز اقتراع في مدرسة تقع بالقرب من مدينة نيو أورلينز عاصمة الولاية، إلى مدرسة أخرى بعد تهديد بوجود قنبلة. وقد حدث هذا التهديد، وسط استقطاب حاد بين مناصري الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتبادل للاتهامات بينهما، بما أسهم في زيادة فرص الاحتكاك والعنف، وألقى بعبء أمني إضافي على المسؤولين عن ضمان نجاح وسلامة العملية الانتخابية.
أما من حيث النتائج، فرغم أنها جاءت مخيبة لأمال الجمهوريين، إلا أنها لم تكن مفاجئة لمن يملك حدا مقبولا من القراءة والتحليل. فقد أشرنا في المقالة التي نشرت قبل أسبوعين، وحملت عنوان “أوروبا فوق فوهة بركان”، أن الدول حين تواجه أزمات اقتصادية حادة، تغادر اقتصاد السوق، ومبدأ دعه يعمل، وتتدخل في إدارة الإقتصاد، وتتبنى “دولة الرفاه”. وقد أشرنا إلى أن معظم الحكومات التي سادت في أوروبا، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، عام 1928، قد تبنت الاقتصاد الموجه.
بمعنى أخر، إن الحزب الجمهوري الذي يعتمد في سياسته، على تحرير الاقتصاد، وتخفيض الضرائب، والحد من تقديم الدعم للطبقات الاجتماعية الفقيرة، وتقليص عدد موظفي الدولة، ليس بمقدوره إدارة الدولة والمجتمع في ظل الأزمة الاقتصادية المستعصية. إن فشل الحزب الديمقراطي في السياسة الاقتصادية في الوقت الراهن، لا يعود لسياسته الاقتصادية في الداخل، التي تتبنى “دولة الرفاه” بل نتيجة لسياسته الخارجية. ووصول الجمهوريين في هذا الوقت بالذات من شأنه مضاعفة الأزمة الاقتصادية الراهنة. ولهذه الأسباب فإن الناخبين الأمريكيين كانوا بين خيارين أحلاهما مر. والنتيجة الطبيعية، هي تحقيق التوازن بين الحزبين، وسيتواصل هذا الوضع، إلى حين توقف الحرب في أوركرانيا، ورفع العقوبات عن روسيا، وعودة الأوضاع الدولية إلى وضعها السابق.
د. يوسف مكي
التعليقات مغلقة.