حول نتائج اجتماعات القمة العربية
في الحديث الماضي (للرجوع للمقال السابق اضغط هنا) قمنا بقراءة سريعة للبيان الذي رفعه وزراء الخارجية العرب لمؤتمر القمة العربي، باعتباره مشروعا لبيان ختامي للقمة. وقد انتهينا إلى أن البيان لم يخرج في صيغته عن المألوف. وأنه حمل الكثير من العبارات الإنشائية، ولكنه افتقر إلى آليات لتحقيق المواقف التي تبناها، وبخاصة عندما يتعلق الأمر، بالقضايا التي تتطلب موقفا عربيا جماعيا تجاه التحديات التي تواجهها الأمة، في وجودها وسلامة أمنها الوطني والقومي.
هل علينا أن نواصل في هذا الحديث أيضا استغراقنا في عملية القراءة والتفكيك لقرارات القمة العربية؟ وما جدوى ذلك؟. بمعنى هل سوف يضيف الوعي بالعجز العربي إلى تراكماتنا المعرفية شيئا جديدا؟ وهل سيغير واقع الحال؟. المواطن العربي، من البحر إلى البحر يشاطرنا الإقرار بالمستوى المريع الذي بلغه العجز العربي، بل إن القادة العرب أنفسهم، والحق يقال، لا يختلفون معنا بأن القاعدة في النظام العربي الرسمي هي العجز، والاستثناء هو التضامن والالتفاف نحو الموقف الموحد. إذن نحن بحاجة إلى أن ننتقل من قراءة هذا الواقع المخيف وتفكيكه، إلى الولوج قدر ما تتيحه المساحة، إلى أسباب هذا الضعف,
لابد إذن من الإقرار بأن ثمة خللاً هيكلياً وبنيوياً هو الذي يؤدي بنا إلى الاستمرار في الوقوف مكتوفي الأيدي، والآمال تتداعى، والأحلام تنهار، دون وجود عاصم أو حضور معتصم… خلل لا يمكن اختزاله بالاكتفاء بتوجيه لوائح الاتهام بحق صانعي القرار العربي، مع أن ذلك أمر يبدو ألا مفر منه. ينبغي أن تتجه عملية التفكيك بشكل متواز، وعلى عدة خطوط إلى هيكلية جامعة الدول العربية ذاتها، وإلى أنظمتها ولوائحها، وطريقة صناعة القرار فيها، بما في ذلك طريقة التصويت، ونسبها، وتناسبها، وكيف يجري تبني القرارات بالأغلبية.
ومن جانب آخر، ينبغي الاعتراف بأن ما يرشح من خلل هيكلي بجامعة الدول العربية، هو انعكاس موضوعي لخلل بنيوي محلي في الأقطار العربية، إنه إرث يحمله القادة والمسؤولون العرب من واقعهم الاجتماعي والاقتصادي معهم إلى اجتماعاتهم الرسمية في مختلف الوظائف والمستويات، وهو وجه آخر يعكس حالة ضعف وهشاشة في التشكيلات الاجتماعية في الأقطار العربية مجتمعة. والنتيجة أن القرارات التي تصدر برمتها، في اجتماعات القمم هي تعرية لواقعنا، وفضح لكثير من الزيف في هياكلنا، حيث يغيب الإجماع الوطني ولا يكون هناك مكان للمواطن لكي يشارك بفعالية وجرأة في صناعة القرارات ذات الصلة بوجوده ومستقبله.
وحين يغدو مألوفا قبول أشكال ديكورية واحتفائية، في معظم أقطار الوطن العربي، لمؤسسات يطلق عليها مجازا بالتنفيذية والتشريعية والقضائية.. ويستعاض بالشكل عن الجوهر، فلا مندوحة من ممارسة ذات الإسقاط على مؤسسات جامعة الدول العربية ولوائحها وأنظمتها، بحيث تصبح مجرد شكل هلامي من أشكال التضامن العربي، وخيمة واهنة مصنوعة من خيوط عنكبوت، لا تحمي من حرارة شمس، ولا برودة شتاء.. ويكون الشكل هنا أيضا بديلا عن الجوهر.
دعونا إذن نحاول أن نتحدث بصراحة، في هيكل الجامعة وتأثيرات هذا الهيكل على النتائج الكارثية التي تواجهنا باستمرار. ولعلي في هذا المجال أكتفي بالتركيز على إثارة الأسئلة، لندع الآفاق رحبة واسعة للتعامل معها والبحث عن أجوبة، وربما سلسلة أخرى من الأسئلة.
هل من المقبول على سبيل المثال، أن يقوم نظام جامعة الدول العربية على مبدأ المساواة في السيادة، وبالتالي في صيانة الأمن القومي العربي والدفاع عن وجود الأمة؟ هل يعقل مثلا أن تعامل مصر، التي خاضت أربع حروب، عدا حرب الاستنزاف مع الكيان الصهيوني، عندما يتعلق الأمر بالصراع العربي- الصهيوني كما يعامل قطر عربي آخر في الأطراف، لم يرسل جنديا واحدا إلى المعركة في الحروب التي خاضها العرب دفاعا عن حريتهم ووجودهم؟.
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، ودعا المنتصرون لاجتماع أممي عقد على الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية في مدينة سان فرانسيسكو، انتهى المجتمعون إلى إصدار شهادة وفاة بحق عصبة الأمم المتحدة، التي انتهى دورها فعليا بعد اندلاع الحرب مباشرة، وأصدرت شهادة ميلاد لهيئة الأمم المتحدة التي اتخذت من مدينة نيويورك مقرها الدائم. اتفق المجتمعون على أن تتشكل الأمم المتحدة من مؤسستين، يوكل إليهما صناعة القرار الأممي. الأولى هي الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. وهي عبارة عن منبر خطابي، يلجأ إليه الأعضاء الدائمون لشرح قضاياهم وطرح مشاكلهم، ويجري التصويت في الجمعية العامة، ونتيجته لا تتعدى الثقل الاعتباري، كون القرارات غير ملزمة لأحد، لكنها على أية حال تمثل قياسا للموقف العالمي، وتعبر عن حقيقة الموقف الدولي الجماعي من القضايا الرئيسية التي تواجه البشرية. أما الهيئة الأخرى، فهي مجلس الأمن الدولي، ويضم أعضاء دائمين هم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا (سابقا الاتحاد السوفيتي) وفرنسا وبريطانيا والصين. ويملك هؤلاء الأعضاء، كل على حدة، حق النقض (الفيتو) للاعتراض على أي قرار يصدر من المجلس لا يتماشى مع مصالحهم ومواقفهم. ولا شك أن تسمية هؤلاء الخمسة، قد جاء حصيلة القسمة التي اتفق عليها المنتصرون عشية الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، وهو انعكاس لمستوى توازن القوة في حقبة محددة من تاريخ البشرية. ويضاف إلى هؤلاء الخمسة اثنا عشر عضوا آخر، يتم اختيارهم بالانتخاب، وفقا للتسلسل الأبجدي، وحضورهم مهم جدا لأنه يعكس موقفا جماعيا دوليا على تبني قرار بعينه. وقرارات مجلس الأمن ملزمة وتدرجية، يحدد مستواها قانون ولوائح مكتوبة، لعل أخطرها، فيما يتعلق بالقرارات الدولية المتعلقة بالسلم والحرب هو ما ورد في الفصل الرابع.
في واقعنا العربي، ينبغي الاعتراف بالاختلاف في تناسب القوة، عند الأقطار العربية، وأن هناك بلداناً تحتل مكانة بالغة التدني، فيصار إلى الاعتراف بدول المركز، ويكون لها حضور فعلي في اتخاذ القرارات. وربما يجد القادة العرب، أنه لا مفر من تشكيل هيئة عربية مماثلة لمجلس الأمن، حتى يكون لقرارات القمة فاعلية ومصداقية أكبر. إن الإشارة إلى عدم التناسق في المكانة بين الأقطار العربية، ينبغي أن تخضع لمجموعة من المؤشرات أهمها المساحة الجغرافية، والكثافة السكانية، والقدرات الاقتصادية. وهي والحال هذه، لا تأخذ صفة الثبات، مع الإقرار بأن بعض هذه العناصر تقليدي، ولكن بعضه الآخر، ديناميكي، يمكن أن يتغير، وبتغيره يتغير واقع الحال. وحتى ما هو تقليدي، فإنه ليس أصيلا في التاريخ، كون الخارطة السياسية العربية بأكملها هي حاصل قسمة فرضت من خارج الأمة وبالضد من إرادتها.
ومن جهة أخرى، فلا مناص من الإشارة إلى أن أحد المعوقات التي سوف تظل تواجه العمل العربي المشترك، هو مركزية السلطة في النظم السياسية العربية. إن الأنظمة التي تغيب حق شعوبها في الداخل بالمشاركة في صناعة القرار، تزداد تشددا حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، وبشكل خاص، ما له علاقة مباشرة بالواقع العربي. وأمام غياب المؤسسات التشريعية والدستورية يصبح اتخاذ القرار في هذا الشأن حكرا على القيادة السياسية العليا، وبالتالي عرضة لأهوائها وتقلبات رؤيتها، تاركا ظلالا كئيبة على تقدم العمل العربي المشترك، ومعطلا من اتخاذ القرارات المناسبة في اللحظات المصيرية. وقد استخدم غياب التفويض ببراعة، في كثير من المناسبات، للتهرب من تحمل مسؤولية التزام الموقف المناسب في كثير من الأزمات والقضايا التي واجهتها الأمة طيلة نصف القرن المنصرم.
ولا شك أن ضعف المؤسسات، وأحيانا كثيرة غيابها في النظم السياسية العربية، أدى إلى أن تكون القرارات اعتباطية، وغيب الشعور الجمعي لدى الجمهور بأهمية القرارات التي تصدر عن مؤسسات الجامعة، وبضمنها قرارات القمة. إن بعث الحياة للجامعة ولقراراتها، يقتضي في أولوياته انتماء عربيا جمعيا لتلك القرارات، من خلال إحساس المواطن بمشاركته في صناعتها عن طريق انتمائه لدولة مؤسساتية. ولعل بروز هيئة شعبية جديدة تابعة لجامعة الدول العربية، باسم البرلمان العربي، يمثل خطوة أكيدة على الطريق الصحيح.. لتكون قرارات القمم العربية المستقبلية صدى حقيقيا لنبض حركة الشارع العربي، وتعبيرا أمينا عن آماله وأحلامه، وحارسا يذود عن مبادئه وثوابته ووجوده.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2006-04-05