حول موضوع النداء العالمي لمكافحة الفقر
في فندق فليمنكو بمدينة القاهرة عقد في يومي 11-12 من هذا الشهر الاجتماع الإقليمي للنداء العالمي لمكافحة الفقر الذي رعته شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية. وقد اهتم المشرفون على المؤتمر بتقديم تعريف لهذا النداء، واالتحالف الدولي المساند له وشرحوا حملات التعبئة الشعبية لمكافحة الفقر.
وقد تناول الاجتماع مناقشة عدة محاور يأتي في مقدمتها الموقف من مسألة المساعدات الخارجية للدول الفقيرة، وطرق معالجة قضايا المديونية. كما ناقش المجتمعون الموقف من مسألة التجارة، والعولمة والانضمام لمنظمة التجارة الدولية، وأهداف الألفية للتنمية التي تبناها الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان. وركز المجتمعون على موضوع الفقر في البلدان العربية، وآليات تفعيل الحملات الوطنية والتحالفات في إطار النداء العالمي لمحاربة الفقر. وفي هذا الإطار، جرت مناقشة خصائص المنطقة العربية فيما يتعلق بدور المجتمع المدني في مكافحة الفقر، والتحديات والحواجز التي يمكن أن تواجه النداء العالمي لمكافحة الفقر في هذه المنطقة، وآليات العمل في هذا الاتجاه.
ولا شك أن مكافحة الفقر هي قضية ملحة، ذلك أنه بالإضافة إلى بعدها الأخلاقي والإنساني، فإنها أحد السبل للانطلاق إلى حياة واعدة أكثر رخاء وأمنا، والخلاص منها هو أحد سبلنا لخلق مجتمع أكثر نماء وتقدماً. ولذلك يأتي موضوع التصدي لهذه الظاهرة ضمن سياق موضوعي صحيح.
ومن هنا فإن هذه المقالة في الوقت الذي تحاول فيه أن تسهم في تسليط الضوء على مظاهر الأزمة التي تسببت بها حالة الفقر، وتقديم موقف نقدي للمناقشات التي جرت في الاجتماع، والتنويه إلى ما كان مغيبا فيها، فإنه ليس أمامنا إلا أن نقدم الإعجاب والاعتراف بالدور الإيجابي الذي اضطلعت، وتضطلع به شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية المستدامة وحماية البيئة. فقد وجهت الانتباه إلى مخاطر الفقر، ودعت إلى مكافحته بمختلف الوسائل والسبل، وحاولت تقديم بعض الحلول للحد منه. وعلى هذا الأساس فإن ما نقدمه من قراءة نقدية لا يمكن أن يكون انتقاصا من الدور الإيجابي والنبيل الذي قام به المعنيون بهذا الاجتماع.
ولعلي ألخص قراءتي النقدية لموضوع مكافحة الفقر في نقاط ثلاث. الأولى تتعلق ابتداء بالآليات التي اقترحت لمكافحة الفقر، وبنداء الألفية العالمي الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان. وقد سبق لي أن قدمت في مقالة سابقة قراءة نقدية لأهداف الألفية الثالثة أثناء انعقاد مؤتمر التنمية المستدامة للمنظمات غير الحكومية في المنامة بالبحرين، نشرت على صفحات هذه الصحيفة، ولذلك لن أعود لها بشكل مفصل في هذه القراءة. النقطة الثانية هي الموقف من مسألة المساعدات الخارجية، ويأتي في هذا السياق العلاقة مع صندوق النقد الدولي، ومسألة الديون وإعادة هيكلتها أو إلغائها، والنسبة المئوية من المساعدات التي قررتها الدول الصناعية الثمان لدعم الدول النامية بالنهوض باقتصادياتها والقضاء على الفقر، والنقطة الثالثة ارتباط ظاهرة الفقر بطبيعة العلاقات الدولية السائدة، وتعطيل مفهوم التأمل الاقتصادي العربي، وغياب السوق العربية المشتركة التي بدأ التبشير بها منذ أكثر من نصف قرن، ولم نتمكن من تحقيقها على الأرض، كواقع معاش، حتى يومنا هذا.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى التي لها ارتباط بآليات مكافحة الفقر، فيمكن الإشارة إلى أن أي مشروع جدي عربي لمواجهة ظاهرة الفقر لن يكتب له النجاح ما لم يدرس حالة كل قطر عربي على حدة، ومن ثم يتصدى ضمن مشروع عربي قومي جماعي لمواجهة هده الظاهرة. فأسباب الفقر في الوطن العربي ليست متماثلة في كل قطر، وبالتالي فإن المشاكل التي يعاني منها المواطن العربي وأولويات اهتمامه هي أيضا غير متماثلة. فعلى سبيل المثال، لا تواجه بلدان الخليج العربي ولا المملكة العربية السعودية مشكلة المديونيات الخارجية بشكل جدي ولا تثقل عليها، بل تواجه مشاكل أخرى ذات علاقة بموضوع الفقر، كالبطالة، والنقص في عدد الجامعات، وأمور أخرى، في حين تعاني بلدان عربية مثل اليمن والأردن ومصر والسودان من مشكلة الديون. وقد تسببت هذه المشكلة في مشاكل أدت إلى زعزعة الاستقرار في بعض تلك البلدان. وارتبطت كثير من تلك المشاكل بمشاريع التقشف التي فرضها البنك الدولي على الحكومات المعنية بالمديونية، والتي شملت رفع الدعم الحكومي على السلع الغذائية والإستراتيجية والوقود. ومن هنا فإن آليات مكافحة الفقر هي ليست بطبيعة واحدة في كل البلدان العربية. في المملكة العربية السعودية يأتي موضوع السعودة والقضاء على البطالة كأحد الأوجه المنطقية والموضوعية في التصدي لظاهرة الفقر، في حين ينبغي تسوية مشكلة الديون، وعدم تدويرها، بما يضاعفها ويصل بها إلى أرقام فلكية بسبب تضخم المبالغ وتضاعف نسبة الأرباح عليها.
وفي موضوع الآليات أيضا، فإن المطالبة بإعادة هيكلة الديون، هي مطلب البنك الدولي للتنمية، وينبغي أن لا يكون مطلبا للشعوب، لأن هذه الهيكلة سوف تؤدي إلى استمرار هيمنة المؤسسات المالية الدولية على الاقتصاديات المحلية، وسترهن الاستقلال والتنمية، في البلدان العربية، وتضخ إلى خزينة الدول الغربية مبالغ طائلة من الممكن استثمارها في قضايا التنمية المحلية. ومن جهة أخرى، فإن المطالبة بإلغاء الديون، دون تصور للمهام التنموية المرتبطة بالمرحلة التي تلي عملية الإلغاء، لن تؤدي إلى تغيير حقيقي في المستوى المعيشي، بل ستكون أشبه بمعالجة موسمية سرعان ما يتلاشى أثرها لتعود من جديد الحاجة إلى المديونية في دورات متعاقبة تتجه صعودا إلى الأعلى. لقد سبق، على سبيل المثال لا الحصر، أن تمكنت مصر من الحصول على إعفاء من المديونية بلغ ما يقارب الخمسة مليارات دولار من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 1990، كمكافأة لها على مشاركتها في حرب الخليج الثانية، ولكن ذلك لم يحل المشكلة بشكل نهائي، واضطرت مصر إلى العودة من جديد لصنادق التسليف الدولية لتعالج مشكلاتها المحلية. ومن هنا فإن المطالبة بالإلغاء يجب أن يترافق مع بروز متصور عملي للخروج نهائيا من محاجر المديونية ِإلى عالم تنمية حقيقية وفاعلة.
النقطة الثانية، هي الموقف من المساعدات الدولية، فهذه المساعدات في الغالب ليست نزيهة، ولا ترتبط بعمليات تنموية حقيقية، وإنما هي تعبير عن الرضا على هذا النظام السياسي أو ذاك. ولذلك فهي ليست موجهة أصلا للمساعدة في بناء القدرة الذاتية، وهي في النهاية وجه آخر لتبعية البلدان النامية لاقتصاديات الدول الرأسمالية، وخضوعها لسياساتها واستراتيجياتها. ومن هنا فإننا نلحظ تسارعا في تقديم المساعدة المالية للأنظمة الصديقة، ونأيا عن تقديم ما قررته الدول الصناعية الثمان حين لا يكون النظام السياسي القائم مواليا للدول المانحة. إن الحفاظ على الاستقلال الوطني يتطلب اضطلاع الدول العربية المنتجة للنفط، والقادرة على ذلك بتأسيس صندوق نقد عربي، يقوم بالمساعدة في توفير القروض للأقطار العربية الفقيرة، ضمن أرباح منخفضة وشروط يسيرة، شريطة أن لا تضيع تلك الأموال في عمليات النهب والإفساد، وأن تتجه مباشرة، وبإشراف الدولة المانحة لعمليات تنموية حقيقية، تعالج الاختلالات المالية والسكانية، وتعيد الاعتبار لقضايا التنمية والنهوض وتساهم بشكل جدي في الخروج من مأزق الضياع والفقر.
النقطة الثالثة، وترتبط مباشرة بافتقاد النظرة الموضوعية لدى بعض المشاركين في طبيعة العلاقات الدولية. فهذه العلاقات ليست بين أطراف متكافئة، بل يحكمها قانون التطور اللامتكافئ وعلاقة الأطراف بالمراكز، وهي علاقة غير عادلة تصب دائما في خدمة المركز. ومن هنا فلا مندوحة من العودة مجددا إلى الحديث عن التكامل الاقتصادي والسوق المشتركة بين الأقطار العربية. إن البلدان العربية تعيش أزمة اختلالات اقتصادية وديموغرافية، نقص في العمالة الفنية والمهنية في بعض البلدان، وتكدس لهذه العمالة في بلدان عربية أخرى. أراض صحراوية شاسعة في كثير من الأقطار، وأراض خصبة مخملة في أقطار أخرى ينقصها المال والمقدرة على إعادة زراعتها. ويفتقد كثير من البلدان العربية القدرة على استبدال الوسائل الزراعية التقليدية بالطرق الحديثة، ومكننة الإنتاج بسبب نقص في الخبرات والأموال، في حين تهدر الثروات العربية، في بلدان أخرى، في مشاريع لا طائل ولا عائد من ورائها.
لقد اتجهت البلدان العربية النفطية إلى البلدان الفقيرة، مركزة استثماراتها على شراء العمارات والأراضي، وقد أدى ذلك إلى شيوع ظاهرة التضخم في بلاد كانت تنوء بالفقر والجوع، وقد ضاعفت حالة التضخم من معاناتها. وكان بالإمكان توجيه الأموال العربية في مشاريع استثمارية تنموية حقيقية في البلدان العربية التي هي بحاجة لها.
إن العالم بأسره يحث الخطى نحو تأسيس كتل كبرى من الشعوب، في اتحادات وأسواق مشتركة، كما هو الحال مع القارة الأمريكية، ومع الوحدة الأوروبية التي انتقلت من السوق إلى الاندماج الاقتصادي، وتلك بلدان تناحرت بشكل متواصل أكثر من خمسمئة عام ولكن الضرورة الحضارية دفعت بها إلى الوحدة. وأمتنا العربية تملك الجغرافيا والتاريخ ووحدة اللغة والثقافة والدين، ولم يبق عليها سوى أن تتمسك بقوة بوعي الضرورة الحضارية، وهو تمسك يقتضي قليلا من المثابرة والتصميم والإرادة، فهل نتمكن من تحقيق ذلك؟!
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-05-18
2020-05–0 6-:03
يو سف من مغر ب
انا جدمسرور بهده المبادارة الرائعة