حول موضوع الفساد والحكم الصالح
في الفترة من 20- 23 أيلول/سبتمبر عام 2004، وبدعوة كريمة من مركز دراسات الوحدة العربية، وبالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، عقدت في مدينة بيروت ندوة فكرية قدم فيها ستة وعشرون بحثا، وعقب عليها بـ ستة وعشرين ورقة، كما جرت حولها مناقشات مكثفة، تناولت محاور مختلفة يجمع بينها، أنها جميعا، عنيت بموضوع الفساد والحكم الصالح. وقد كان لي شرف المشاركة في التعقيب والنقاشات والحوارات في تلك الندوة.
ويقينا أن موضوعي الفساد والحكم الصالح هما من المواضيع التي شغلت البشرية منذ أقدم العصور. وما محاولة سن القوانين البابلية وصياغة النظريات الإغريقية السياسية والإجتماعية إلا خطوات جنينية على طريق الحد من ظاهرة انتشار الفساد، وتعميم الحكم الصالح.
ولا شك أن هذا التعميم العام لمفهوم الفساد، ينطوي على الاعتراف بأن الفساد ظاهرة عرفتها المجتمعات الإنسانية في كل الأزمنة والعصور. وعلى ذلك، فإنها ظاهرة عالمية، لها صفة الاستمرارية. لكن هذا القول لا يمكن الأخذ به على علاته، كما لا يمكن أن يعطى طابع الإطلاق، لأن ذلك، لو حدث لا سمح الله، فإنه يعني تهديد المجتمعات الإنسانية بالجمود، وربما بالانهيار.
وحتى لا تتيه بوصلتنا في زحمة هذه المناقشة، فلعل من المفيد أن نشير، ابتداء إلى أن الفساد هو ببساطة استخدام السلطة والنفوذ، أو استخدام سلطة الآخرين ونفوذهم في المؤسسات العامة من أجل غايات شخصية وفئوية، ليس لها علاقة بمصلحة الجمهور أو الوطن أو الأمة. أو ممارسة سلوكيات تعتبر ضمن منظومة القيم الاجتماعية واللوائح القانونية شاذة ومحرمة، ولا يتوقف أثرها في الغالب، عند حدود الفرد أو الجماعة التي تمارسها، بل يتعداه إلى شرائح اجتماعية مختلفة. ضمن هذا التعريف يعتبر ضمن ظواهر الفساد الفاضحة تبديد الثروة ونهب المال العام وإقامة مشاريع وهمية لا أساس لها، وليس لها عائد ربحي، وعقد صفقات احتيالية. وما إلى ذلك من الممارسات التي تضر بمصلحة الجمهور، والتي تهدد أمن الوطن ووحدته سلامته.
كيف السبيل إذن لمواجهة الفساد وتعميم الحكم الصالح؟. سؤال أزلي لا شك أن نقطة البداية في الإجابة عليه هي تقييم وتفكيك ما هو شائع وموجود وإعادة تركيبه على أسس تضمن العدالة، وتحقق مصلحة الأمة. ولا شك أن عملية الرصد والمتابعة للظروف التي تستفحل فيها ظاهرة الفساد، ستشكل خطوة أخرى في احتواء الظاهرة، وستساعد على إيجاد فهم أعمق لأسبابها.
ولدينا على سبيل المثال، تقرير لمؤسسة الشفافية الدولية لعام 2003 يقول إن دول العالم الأقل فسادا الآن هي فنلندا وسنغافورة والسويد واستراليا والنرويج وسويسرا والدنمارك وأيسلندا. ويشير نفس التقرير إلى أن الدول الأكثر فسادا هي أذربيجان واندونيسيا وكينيا وأنجولا والكاميرون وأذربيجان وهايتي وبنغلاديش وباراغواي وطاجاكستان. نحن هنا إزاء قائمتين يبدو أن الأولى يغلب عليها الطابع الأوروبي، باستثناء سنغافورة الآسيوية، واستراليا التي لن يجادلنا أحد في الطبيعة الأوروبية لثقافاتها وأسلوب حياتها ونظام الحكم فيها. أما الثانية، فهي أفرو أسيوية، في تركيبتها وثقافاتها، حتى وإن كان من ضمنها بعض دول أمريكا اللاتينية، فهي في الحصيلة جزء من تركيبة العالم الثالث.
سيتنبه آخرون إلى هذه القائمة ويطرحون أسئلة مشروعة عن غياب دول كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا من القائمة الأولى، وعن غياب معظم البلدان العربية من القائمة الثانية. وسيقال لنا إن هاتين القائمتين تجعلان من الصعوبة بمكان تحديد مواطن الفساد، ذلك أنه يمكن أن يسكن في أعتا الدول الديمقراطية عراقة، كما يمكن أن يتواجد في أكثر البلدان تخلفا واستبدادا وغيابا للقوانين وحق المشاركة في صناعة القرار.
وجوابنا على ذلك حاسم في رفض هذا الاستنتاج الموغل في بساطته، رغم قناعتنا بمشروعية طرحه. فإذا سلمنا بوجاهة ما جاء في القائمتين الصادرتين عن مؤسسة الشفافية الدولية، واعتبرناهما بوصلة في تقييمنا هذا، فإننا نلاحظ أن النظام السياسي الديمقراطي عرضة للفساد، شأنه في ذلك شأن أنظمة الإستبداد. لكننا في الحقيقة لا نعلم كثيرا عما يجري في الأنظمة الشمولية والمغلقة، لأن كل الحقائق مغيبة، في حين يجري تسليط الضوء جهارا على ما يجري داخل الأنظمة التي تسود فيها الشفافية وسيادة القانون. إنها تخضع بفعالية لكافية أنواع الكشف والتحليل، الجزئية والكلية، كما يقال في علم الاقتصاد. والسؤال فيها غير محرم، ولا يجرم سائله. أما في الأنظمة الشمولية والاستبداد، فإن السؤال بحد ذاته جريمة تعاقب عليها اللوائح والقوانين، ويخون فيها السائل، ويستباح دمه وعرضه وماله.
لكن ذلك، على أية حال، لن يعفينا من رحلة البحث عن السؤال في جذور الفساد وأسبابه. ولعلنا لا نأت بجديد حين نقول أن المجتمعات الإنسانية الحديثة كانت بين خيارين. الخيار الأول، وقد ساد فترة طويلة، وفيه تغيب فكرة الحرية والمشاركة في صناعة القرار، ويسود فيه نظام توتاليتاري تستثمر فيه بطانة من الناس، من خلال وجودها في أعلى سلم الهرم الفرصة لتحقيق المغانم والمكتسبات لذاتها وللفئات المتحلقة حولها. وفي مقابل ذلك، نشأ نظام سياسي في العصر الحديث، ساد بعض الأقطار العربية منذ الخمسينيات، يقوم على أساس برلماني في ظاهره، لكنه في جوهره يمثل إقطاعا سياسيا، تغيب فيه فكرة الدولة الحديثة، ويمارس تزييف الإنتخابات والتزوير والتلاعب والرشوة. وتوزع الغنائم على أسس من المحاصصات الطائفية والإثنية والعشائرية والقبلية، وتتلاشى اللوائح والقوانين.
وهكذا فنحن إزاء مظهرين سياسيين، الأول تضيع فيه حقوق الناس، بما في ذلك حق المشاركة في صناعة القرار، وسيادة القانون. والثاني، يغيب فيه العدل الاجتماعي وتتوسع فيه الفجوة بين الغنى والفقر. وللأسف فإننا في معظم بلدان العالم الثالث، ومن ضمنه الأقطار العربية، غلبنا عنصرا من هذه العناصر على حساب العنصر الآخر. وكان ذلك أحد العوامل الرئيسية في استفحال ظاهرة الفساد، في كلا المظهرين السياسيين.
سيطرح البعض حلا آخر، يتمثل في مقولة “المستبد العادل”. لكن المستبد العادل في التاريخ الإنساني كان ولا يزال ظاهرة استثنائية. بل لعلنا نستطيع القول، أن بالإمكان تسمية أشخاص في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ممن يمكن أن نطلق عليهم هذه الصفة، وممن وضعوا في اعتبارهم الأول مصلحة الجمهور، وسوف نصل إلى نتيجة محزنة مؤداها أن عدد هؤلاء لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. بما يعني استحالة اتخاذها بمفردها، قاعدة يبنى عليها في إشادة الحكومات والممالك.
وربما يقترح علينا البعض أن نأخذ بعين الاعتبار القواعد الأخلاقية، وأهمية التربية وخلق النشء الصالح. لكن الإنسان بطبيعته مليء بنوازع الرغبة بالتملك والاستئثار. وهذه النوازع تنمو معه بشكل مطرد منذ نعومة أظفاره، وتعززها ثقافات متينة وتقاليد راسخة. إن منظومة القيم والثقافات السائدة، هي الأخرى تجعل من الصعوبة بمكان القضاء على ظواهر الفساد وتأمين حقوق الناس. وقد وجدنا أن كثيرا من الوعاظ غارقين في عمليات الفساد حتى أخمص قدميهم، وينطبق عليهم المثل الدارج “حاميها حراميها”. لا بد إذن من حل جذري وعملي للقضاء على ظاهرة الفساد.
ومرة أخرى، نعود إلى البوصلة التي بدأنا بها هذا الحديث، تقرير مؤسسة الشفافية الدولية لعام 2003. وسنجد أن أسباب احتواء ظاهرة الفساد في بعض الدول الأوروبية، وبشكل خاص، الدول الإسكندنافية هو المزاوجة بين الحرية والعدل الإجتماعي، بما يعني وجود قوانين ومؤسسات مجتمع مدني ورقابة فاعلة، وضرائب على الدخل تتجه إلى الأعلى، مع ازدياد وتضاعف الثروة، بحيث تتأكد سيادة القانون وحق الناس في المشاركة بتقرير مصائرهم وأقدارهم، وبما يعني تضييق الفجوة بين الغنى والفقر، والحيلولة دون تراكم الثروة.
وينبغي في كل الأحوال، تفويت الفرصة على المنافقين، ذلك أن وجود السلطة المطلقة هو مدعاة لنمو المحسوبية والوجاهة والكذب والرياء وتسلق المنتفعين، وتلك هي البيئة الملائمة لاستفحال ظاهرة الفساد وانفلاتها.
ويبقى أن نشير إلى أن الفساد في الوطن العربي هو ظاهرة مركبة، تدخل فيها، بالضد من إرادتنا ورغباتنا، عامل خارجي، حين وضع لنا هذا الأجنبي، في نهاية الحرب العالمية الأولى، حدود أقاليمنا ومواطئ أقدامنا، بشكل منع عنا قيام الدولة الحديثة ومؤسساتها، وغيب فكرة الوطن الواحد، وساهم بشكل حاد في تحقيق اختلالات في التشكيل الديمغرافي وتوزيع الثروة. وهي قضية مهمة جدا وجديرة إلى جانب، قضايا أخرى مهمة، بالمناقشة في أحاديث قادمة بعون الله.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-10-13
2000-00–0 0-:00
شوق من البحرين
انا معك في كل شي قلته