حول علاقة الجغرافيا بالتاريخ
لماذا تعطلت النهضة العربية منذ حقب طويلة؟ ولماذا فشلت كل المحاولات التي جرت منذ مطلع القرن المنصرم وحتى يومنا هذا لإعادة الاعتبار للأمة العربية؟ وكيف يتأتى لنا أن نخرج من مأزق التخلف الذي ما زلنا قابعين فيه؟. أسئلة مهمة ومشروعة تلح على العقل وتثقل على القلب.. ويتصارع على تلقفها المفكرون والكتاب، كل يحاول أن يكون له وصل بليلى، ولكنها تبقى مستعصية على الفهم، وبالتالي على الإجابة.
وكغيري من الذين حاولوا ويحاولون، أدليت بدلوي مرة، فقلت إنه ربما يكون ضعف التشكيلات والهياكل الاجتماعية الذي عطل النمو، في كل الأصعدة، بأوطاننا. مرة أخرى، قلت إن إنتاج النفط بغزارة والتصحيح النسبي في أسعاره قد أحدثا صدمة لم نكن مستعدين لها، وإننا فقدنا مع بداية حقبة الطفرة توازننا، وبالتالي تاهت في الزحمة أفكارنا ورؤانا وصورة مستقبلنا. ومرة ثالثة اعتقدت جازما أن خريطتنا السياسية العربية ليست من صنع أيدينا، وإنها حاصل قسمة بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، ولذلك فإنها جاءت معبرة عن إرادات أخرى، من خارج الحدود، لم تأخذ في الحسبان حقائق التاريخ أو الجغرافيا ولا مصالح أبناء المنطقة، وإذن فلا غرابة أن تكون مشوهة. وقد خلقت هذه العلاقة المشوهة قضايا جديدة لم تكن واردة من قبل، كالنزاعات على الحدود، والخلل الاقتصادي، وتقسيم الوطن العربي إلى كيانات، بعضها غني وبعضها الآخر فقير دون أن يكون ذلك مرتبطاً بالقدرة على الإنتاج ولا بمستوى النمو العلمي والثقافي والقدرات البشرية، وتحسن الأداء الوظيفي. وكان أخطر ما في هذه القسمة، أن كل بلد أصبح لديه همومه ومشاكله الخاصة، وقضاياه الأمنية التي تثقل عليه، وتشكل موانع قوية تحول دون المشاركة الجماعية في مشروع النهضة العربية.
في رحلة البحث المضنية عن أجوبة، تعيد للنفس بعض الراحة والأمان، وجدتني أقرب ما أكون إلى توصيف الشاعر النواب: “ويزيدك عمق الكشف غموضا فالكشف طريق عدمي”. لكنني اعتقدت أن العودة إلى الجذور، ومحاولة استيعاب العلاقة بين التاريخ، كمعبر عن ديناميكية الحركة الزمنية، وبين الجغرافيا كمعبر عن المكان وما يجري فيه من أحداث عاصفة وأفكار فوارة تتصارع تارة وتتلاقح تارة أخرى، ربما تسعفنا بمفاتيح أولية تساعدنا في رحلة البحث عن أجوبة للأسئلة القاسية والملحة.
وعدت للتاريخ أقرأ في أسفاره ما يساعد على هذه الرحلة، ووجدت أن علماء العرب قد تنبهوا منذ وقت مبكر لأهمية العوامل الجغرافية في صناعة التاريخ. ومن ضمن الذين اهتموا بهذا الموضوع كان ابن المقفع الذي أشار إلى أثر البيئة في تكوين اللغة العربية، وإلى دورها في تطوير طباع وسجايا العرب. ووافقه الفيلسوف الفارابي هذه الرؤية، فأرجع الخلق والشيم الطبيعية إلى أثر البيئة والموقع الجغرافي (والفلكي) وما يتصل بذلك من مميزات في الهواء والحياة وأنواع النبات والحيوان. وقد لاحظ المسعودي أهمية العوامل الجغرافية في التاريخ، فأشار إلى أن السمات الطبيعية والإمكانيات الفكرية تتأثر بالأوضاع الجغرافية والظروف المناخية، وأوضح أن مقومات الأمم في التاريخ تتأثر بثلاثة أمور هي شيمهم (طبيعتهم) وخلقهم الطبيعية وألسنتهم، وأعطى البيئة الجغرافية الدور الرئيسي مقارنة بالميزتين الأوليين. وجاءت نظرية العلامة ابن خلدون متفقة مع هذه الرؤية، حيث ترى وجود أكثر من عامل لتحديد أساس الأمة بضمنها أثر البيئة الطبيعية، وتتناول أثر هذه العوامل في تحديد نوع المعاش وألوان البشر وسماتهم وعوائدهم وأخلاقهم، وأن ذلك التأثير يمتد إلى الأحوال الدينية.
وتساءلت لماذا اهتم أجدادنا العرب بهذا المفهوم؟ ومن جديد برز أثر الجغرافيا كمحرض على هذا الاهتمام. فلم يكن غريبا أن يتوصل العرب القدماء إلى وعي مبكر لأهمية الجغرافيا في توجيه الحركة التاريخية، ذلك أنهم عاشوا في منطقة لعبت فيها البيئة والمناخ والموقع دورا حاسما في صناعة تاريخ هذا الجزء من العالم.
فمنذ فجر التاريخ، كان لتلك العوامل الجغرافية أثر رئيسي في الدور البارز الذي لعبه أبناء هذه المنطقة في المشاركة ببناء الحضارات الإنسانية. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه بسبب من الجغرافيا، شهد هذا الجزء من العالم بداية السؤال عن كنه الوجود، وفيه تمكن الإنسان من قهر الطبيعة في كثير من حلقاتها، كما شهد قيام أول سلطة مركزية في التاريخ، ويأتي تفرد المنطقة باستقبال رسالات السماء، وبناء الأهرام وأبراج بابل، والتقدم في وسائل التحنيط، واكتشاف الحرف، إشارات واضحة على أهمية المكان.
على أن أهمية الجغرافيا، التي جعلت من هذا الجزء من العالم مهدا وموطنا أول للحضارات، كانت ذاتها السبب في تكالب القوى الخارجية عليه، وفي بروز مشاكل اجتماعية وإثنية وسياسية فيه، أدت إلى تعطل دوره الحضاري. فمنذ سقوط بغداد، عاصمة العباسيين، عام 1258م، تعطل الدور الفاعل للعرب، وبقوا يغطون في نوم طويل تحت هيمنة التتار وسلطان الاستبداد العثماني. وفي بداية القرن الماضي، بدأوا يتململون، ويقومون بمحاولات جادة من أجل الانعتاق. وتعثرت ولا تزال، تلك المحاولات. وكان الوطن في كل تلك المحاولات محملا بثقل جغرافيته.
وهكذا، من خلال هذه المقدمة، فإننا لا نتحدث عن الجغرافيا هنا بوصفها العلم الذي يدرس الاختلافات المناخية والتضاريسية فحسب، ولكن باعتبارها العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم. وباعتبارها أيضا رابطا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ونتفق في ذلك مع رأي إي. و. جلبرت في أن علم الجغرافيا هو: “فن التعرف على شخصيات الأقاليم ووصفها وتفسيرها”. والتاريخ هنا ليس مجرد سجل لتدوين الحوادث وتقديم شروح وصفية لها فحسب، ولكنه حركة مستمرة. ولذلك فإن ما يعنينا هو وعي مشاهد المسرح التي تحققت وتطورت فيه الحادثة التاريخية ذاتية كانت، أو وافدة. لأن ذلك سيساعد على وعي بدور جدلية الجغرافيا في تداعي حضارات وقيام أخرى جديدة على ركام الحضارات البائدة، وبالتالي في صنع وتوجيه حركة التاريخ العربي قديمه وحديثه. وذلك هو بالدقة ما يساعد في وعي الحاضر، وتقديم مقاربات أولية ربما تكون موجها ومرشدا، في محاولة الخروج من المأزق الراهن.
ومن هنا فإن ما يهم هذا الحديث ليس هو التاريخ، فما يقدمه لن يتعدى الدروس والعبر، وإنما الجغرافيا في جدله: جذبه وطرده، وحدته وتنافره. وبما أن الثبات والسكون أشياء نسبية، إذ إن كل شيء في هذا الكون هو في حركة دائبة، ولأن الجدل هو علم قوانين الحركة، وجب أن يكون دليلا مساعدا على فهم علاقة الجغرافيا بصنع الحادثة التاريخية وتوجيهها، باعتبار ذلك جزءاً مهماً في محاولة تجذير الوعي والتوق للمشاركة في كشف القوانين التي تحكم ثنائية التقدم والتراجع، وبخاصة تلك التي كان لها دور رئيسي في سقوط حضارات وقيام أخرى جديدة.
وبذلك نستطيع، من خلال القراءة المعمقة والوعي بقوانين حركة التاريخ، أن ننطلق من خلال التمكن من القبض على القواعد التي نستند عليها، والخطوط التي ينبغي أن نسير عليها، والعوامل المحركة والأدوات الضرورية للوثوب إلى صناعة المستقبل، وتحقيق التنمية والقضاء على التخلف والنهوض بالوطن وتحقيق تقدمه ونمائه.
ويبقى مهماً أن تكون المقدمة في خوض غمار هذه التجربة البدء بتحديد المفاتيح الأولية من حيث المفاهيم والإجراءات، وذلك ما سوف يكون موضوعا للمناقشة في حديث آخر، بعون الله.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-07-14
التعليقات
2020-06–0 3-:05
رحاب من السعوديه
اشكركم على هذا الموضوع واقول اني استفدت منه كثيرا وبصراحه لم يطر في بالي يوم ان التاريخ له علاقه بالجغرافيا ابدا يمكن يكون بسبب المدرسات اللواتي يعطونا هذي المواد
لانه لكل وحده اسلوب مختلف عن الاخرى
اختكم /رحاب(طالبه كليه)
2020-06–0 3-:02
اناس من maroc
ماهي القواعد التي يمكنناالنهوض بهامن اجل تحقيق نهضة عربية قوي