حول خطاب الإتحاد والمؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب
حفلت الأيام القليلة الماضية بحدثين لهما دلالة خاصة بالسياسة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، والوطن العربي تحديدا، وسيرها الحثيث نحو إعادة صياغة خارطتة السياسية والديمغرافية، وما يدعى بالحرب العالمية على الإرهاب.
كان الحدث الأول، هو خطاب الرئيس جورج بوش في الكونجرس الأمريكي، الذي بدأ به دورته الرئاسية الثانية، وهو خطاب اعتاد الرؤساء الأمريكيون إلقاءه عن حالة الإتحاد في مطلع الأسبوع الأول من شهر فبراير. وقد جرت العادة أن يسلط الرئيس الأمريكي الضوء في هذا الخطاب على تجربة حكمه خلال السنة التي انقضت، وأن يحدد الخطوط الرئيسية لسياساته المستقبلية. وكان الحدث الثاني، هو انعقاد المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب في مطلع هذا الأسبوع بالعاصمة السعودية، الرياض. والمؤتمر هو محاولة لتحشيد جهود خمسين دولة شاركت بالمؤتمر من أجل تضييق الخناق على العناصر التي تمول الإرهاب أو تحرض عليه، أو تقوم بتنفيذه.
العامل المشترك بين الحدثين هو ارتباط كلايهما، بما يدعى بالحرب العالمية على الإرهاب. وضبابية تحديد المفهوم في كليهما، بحيث يبدو للمتلقي أن الإرهاب كلمة فضفاضة تشمل كل مواجهة شعبية بالسلاح، سواء كانت تلك المواجهة مشروعة وتقرها مبادئ الدفاع عن النفس والحق في تقرير المصير، أم غير مشروعة، وتغض النظر بشكل متعمد عن الإرهاب الذي تمارسه الدول.
خطاب حالة الإتحاد تحدث عن كثير من القضايا، وبدى مغرقا في تخيلاته وأوهامه عن حقبة أمريكية جديدة، مستندا إلى ثقة زائفة بنتائج الإنتخابات العراقية، التي انتهت بتقسيم العراق طائفيا وإثنيا، باعتبارها خطوة أخرى على طريق تنفيذ المشروع الأمريكي للديمقراطية، مكررا دعواته السابقة لإحداث تغيير كبير في الشرق الاوسط، ومتعهدا بالعودة لعملية السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين. داعيا إلى أقامة دولتين “ديموقراطيتين”، يعيشان جنبا إلى جنب في سلام. وقد كرر أيضا في الخطاب المذكور على التزام إدارته بنشر الحرية في العالم. ووعد بمساعدة الشعوب الساعية إلى التحرر من الظلم في مواجهة الطغيان. وقد هاجم بوش بعض البلدان العربية، لتقصيرها في الولوج بمسيرة الإصلاح السياسي، وامتدح بلدانا آخر، داعيا إلى اقتداء الآخرين بها. واللافت للنظر أن الرئيس بوش قد هاجم دولا ترتبط بصداقة متينة وعلاقات استراتيجية مع بلاده، وتعتبر بلدانا مؤثرة وفاعلة في صناعة السياسة العربية، في حين امتدح بلدانا صغيره، لا تختلف كثيرا إن من حيث نهجها السياسي، أو وتركيبتها الإجتماعية أو حتى فاعلية مجتمعها المدني، لكنها لصغر مساحتها، بلدانا لا تقبل القسمة، حتى من وجهة النظر الإمريكية، بما يطرح كثيرا من الشكوك وعلامات الإستفهام الكبيرة على هذا الموقف.
في الرياض تركز اهتمام المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب على القضايا الفنية والعملية. وفي مستهل انعقاد المؤتمر ألقى الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد ورئيس الحرس الوطني كلمة طالب فيها بتأسيس مركز دولي لمكافحة الإرهاب، وقد حظي الإقتراح باستحسان وبمباركة دولية. لكن اقتصار المؤتمر على الجوانب الفنية، دون التعرض للأرضية الفكرية التي يستند عليها دعاة العنف، والأسباب الموضوعية التي تجعل من اختراقاتهم واستقطباتهم لشرائح يعتد بها من الشباب المسلم أمرا ممكنا يجعل توصيات المؤتمر تتعامل مع النتائج وليس المقدمات، وهي لذلك لن تكون واعدة كثيرا في القضاء على هذه الظاهرة السلبية.
والواقع أننا كنا نتمنى أن لا يكتفى المآتمرون بمناقشة النتائج دون وعي المقدمات، وأن يكرس جزء من اهتمام قادة العالم لمناقشة الجذور الفكرية التي يستند عليها الإرهاب، والعوامل التي تسهل على الضالعين فيه استقطاب شرائح كبيرة من الشباب، على مستوى العالم الإسلامي. ولعل من المفيد التنبه إلى أهمية الدعوة إلى مؤتمر عالمي فكري لمناقشة هذه الظاهرة، والخروج بتوصيات عملية للقضاء عليها. وسيكون من المحتم الإنتباه إلى العوامل الإجتماعية وتفشي ظاهرة البطالة، وأهمية وجود المشروع النهضوي، والتوازن وتعدد القطبية في العلاقات الدولية، وتبني موقف عالمي عادل من القضية الفلسطينية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، والوقوف بحزم ضد سياسات الهيمنة الأمريكية على العالم. والتركيز على أهمية تغليب لغة الحوار وقبول الآخر، وفتح ابواب الإجتهاد على مصاريعها، ربما تكون هذه خطوات أولية في اسئصال هذه الظاهرة، أو على الأقل الحد منها.
وإذا كان هدف مؤتمر الرياض، هو التوصل إلى توصيات عملية ذات طابع إيجابي بهدف محاصرة ظاهرة الإرهاب، فإن خطاب حالة الإتحاد قد حمل كثيرا من التهديد والوعيد. فالحديث الأمريكي عن الديمقراطية والتبشير بالحرية لا يمكن وضعها في خانة المثاليات والإلتزام بالقيم النبيلة، خاصة وأن السجل الأمريكي القديم والحديث يقول بغير ذلك، والإناء ينضح بما فيه. وإذا وضعنا في الإعتبار ما حدث بالعراق، فإن ما يعدنا به بوش هو الفوضى والدمار، ونوايا التدخل ونزعة التوسع، فذلك هو الوجه الآخر والحقيقي للنوايا الأمريكية، المتبرقعة بحماية الحرية ونشر الديمقراطية، وتحقيق السلام.
فمن وجهة نظر بوش، فإن حماية أمن الأمريكيين في وطنهم، لا ينتهى هناك، بل يستوجب إرسال الأساطيل وتدمير البلدان التي تعتبر مارقة من وجهة نظر إدارته، حتى وإن تعارض ذلك مع حق الدول في اختيار نظمها السياسية، وعدم جواز استخدام القوة من قبل الدول الكبرى من أجل فرض سياساتها واستراتيجياتها، كما ينص بذلك ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
ولأن استراتيجة القرن الأمريكي الجديد، قد اتخذت من مشروع الشرق الأوسط الكبير، منطلقا لها فإن الأمة العربية، والبلدان الإسلامية مرشحة للإستمرار في كونها البؤرة الرئيسية في استراتيجية الهيمنة الأمريكية في الدورة الثانية للرئيس بوش، كما كانت في دورته الأولى التي شهدت احتلال أفغانستان والعراق. ومن هنا يأتي اهتمامنا بمضمون خطاب الإتحاد. وقد قضى إفصاح الرئيس بوش، بنبرات غير ودية، بأسماء بلدان كالسعودية ومصر وسوريا والسودان وإيران، على أي شكوك في النوايا التي تبيتها هذه الإدارة بحق منطقتنا. وقد تناغم مع تلك التصريحات مجموعات من المحافظين الجدد، على رأسهم ريتشارد بيرل، مهندس الحرب على العراق، والضالع في التحالف والتنسيق مع الكيان الصهيوني، فطالب الرئيس الأمريكي بوش، بتوسيع استراتيجيته العسكرية في العراق، لحماية المصالح الأمريكية، لتشمل بقية بلدان التي وردت أسماءها في خطابه المذكور.
ولعل السؤال الذي يدور في الذهن الآن ليس عما إذا كانت إدارة الرئيس بوش سوف تتدخل في الشؤون الداخلية للدول المعنية في المنطقة لفرض هيمنتها، فالجواب على ذلك أصبح محسوما، ولكنه كيفية وقوع ذلك التدخل. وهل ستتم استعادة السيناريو العراقي من جديد؟ أم أن العراق قد لقن درسا قاسيا، يجعل من المستعصي تكرار التجربة. وهل سيكون هناك سيناريو موحد لتطبيقه على جميع الدول “المارقة، من وجهة النظر اليانكية، أم ستكون هناك عدة سيناريوهات، وفقا للتركبية الديمغرافية والطائفية والإثنية، وما يمكن تطبيقه على الأرض. ويأتي سؤال آخر عن التوقيت، هل سيتم ذلك في آن واحد، أم أنه يتخذ شكل الإنتقال من خطوة إلى أخرى؟.
يبدو أن الحديث عن الإرهاب، في حملة الرئيس بوش هو مجرد شماعة للتدخل في شئون الغير، وفرض مشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد تراجع الإهتمام الأمريكي بهذا الموضوع، وأصبح طرحه نوع من الإستهلاك. وفي هذا الإتجاه، فإن الرئيس بوش قبل غيره، يدرك أن القضاء على الإرهاب لن يتم بمغامرات السطو والعدوان، وأن فرص أمريكا للقضاء على أعمال العنف الموجهة ضد سياساتها قبل احتلال العراق هي أفضل بكثير منها الآن. وقد قدّم الخبير العالمي في مجال الإرهاب مدير مكتب واشنطن لمؤسسة راند RAND الأمريكي، بروس هوفمان، صورة قاتمة عن مستقبل الإرهاب خلال 2005، قائلاً إن العمليات الإرهابية ستزداد في العالم، وإن الإرهاب سينتشر في بلدانٍ أخرى كان غائباً عنها حتى الآن.
لقد بدأت ملامح هذا التدخل، في قانون محاسبة سوريا وفي التدخل الواضح والصريح في شؤون لبنان والسودان، والذي انتهى بقرارات أممية صادرة عن مجلس الأمن، وفي التهديدات المتكررة لإيران، ولجان التفتيش المتكررة عن برنامجها النووي. وفي تشجيع واضح ودعم لقوى سياسية معارضة في بلدان عربية أخرى.
هذا النوع من الإرهاب، الإرهاب الذي تمارسه الدولة الأعظم، هو ما لم يناقشه أحد في مؤتمر الرياض، ومن الطبيعي أن لا يدور أبدا في خلد مهندسيه الذين صاغوا خطاب حالة الإتحاد. والأمر الأكثر إيلاما أنه لم تجر مناقشته حتى الآن على صعيد القادة العرب، ولم ينظر له باعتباره مسعى آخر لتمزيق الأمة العربية، وتهديد استقرارها وأمنها الجماعي.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-02-09