حول انفجار بيروت
الرابع من آب/ أغسطس سيظل محفورا في ذاكرة اللبنانيين، باعتباره اليوم الذي انفجر فيه الدمار والخراب والغضب، وربما يكون المحطة التي تدون فيها مرثية سقوط نظام المحاصصة الطائفية، الذي جثم على الصدور، منذ منتصف الأربعينيات، من القرن المنصرم، حين أسست هياكل الدولة على مقاس الطوائف، فيما بات معروفا بالميثاق الوطني.
فلم يكن الإهمال، والاستخفاف بحياة البشر، وحدهما ما تسبب في الانفجار الكبير، الذي حدث في ميناء بيروت، بل هو حصيلة تراكم وتغول لمنظومات الفساد والزبائنية، في بلاد الأرز.
إنه نتاج العجز والفشل والتردي، ولم يكن الحدث غريبا رغم ضخامته وهوله، على التركيبة السياسية، التي سادت فيما بعد استقلال لبنان.
لقد مر لبنان، منذ استقلاله، بسبب تركيبته الطائفية، بعدة حروب أهلية، الأبرز بينها، اندلعت بنهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت انعكاسا للانقسام السياسي العربي، الذي هو في حقيقته، جزءا من التدخلات الغربية، والصراع بين حركة القومية العربية وخصومها في لبنان.
وللأسف لم يكن الاصطفاف بين المتحاربين فيها، نتاج اختلاف في الرؤية السياسية فقط، بل كان في محصلته وأسلوب إدارته، والقوى التي تصدرت المشهد فيه، صراع بين أقطاب الطوائف.
وجاء الإنقاذ من خارج التركيبة السياسية، عندما وضع الجيش اللبناني حدا لتلك الحرب، وحال دون التدخلات الدولية المباشرة…
وأجمع الشعب اللبناني، على اختيار رئيس الأركان في حينه، فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية.
ومرة أخرى، اندلعت حرب أهلية، في منتصف السبعينيات، وسببها المعلن، هو وجود المقاومة الفلسطينية، بكثافة في لبنان، وبشكل خاص إثر رحيلها من الأردن بعد أيلول/ سبتمبر 1970، بما اعتبر في حينه، من قبل اليمين اللبناني، سببا في الخلل الديمغرافي، الذي أخذ من حصة المسيحيين، لصالح المسلمين السنة.
وكانت حربا ضروسا، كلفت عشرات الألوف من القتلى والجرحى، وتسببت في خراب ودمار كبيرين، في بنية لبنان. وتوج الخراب والفوضى، باجتياح صهيوني للجنوب عام 1978م.
وكانت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، حقبة فوضى وانفلات، وغزو “إسرائيلي” واسع وصل حتى أعماق مدينة بيروت.
وفي هذا القرن، شهد لبنان، انقساما حادا بين النخب السياسية، حيال الحرب التي شنتها “إسرائيل” على لبنان، في تموز/ يوليو 2006، وتسببت في دمار هائل للبنان، وكان للضاحية الجنوبية من مدينة بيروت نصيب الأسد في ذلك الدمار.
المشهد القاتم في لبنان، لن يزول دون زوال البنية السياسية، المستندة على المحاصصات.
فهذه البنية تلغي فكرة الانتماء للوطن، وتستعيض بالطائفة بديلا عنه.
والنتيجة هي هشاشة النظام، وعدم قدرته على مواجهة التحديات التي عصفت، بشكل مستمر، بالبلاد.
ومع هذه الهشاشة، تغيب التنمية الحقيقية والبناء، ولا يعود هناك اهتمام ببنيته التحتية، والمتطلبات الأساسية للعيش الكريم، من كهرباء وتعليم ومستشفيات، وبناء طرق حديثة وما إلى ذلك.
ليس ذلك فحسب، ما يتسبب فيه نظام المحاصصة الطائفي، بل إن كل طائفة، تجد نفسها بحاجة إلى ظهير قوي من خارج البلاد، ليسند طموحاتها وتطلعاتها.
وسيكون مستوى استعداد هذا الظهير، لمناصرة هذه الطائفة أو تلك، رهنا لتبعيتها وولائها لسياساته، ووضع مصالحه بالدرجة الأولى، بعين الاعتبار، بدلا عن مصالح لبنان.
وهكذا رأينا، أن المحاصصة بين الطوائف، لا ينتج عنها تقاسم وظيفي ومصلحي فقط، في الداخل، بل إن امتداداتها الخارحية، هي أخطر بكثير من ذلك.
إنها ترهن وجود لبنان، وتحول دون استقلال حقيقي لسياساته. فكل نظام عربي أو إقليمي، أو قوة دولية لها نصيب في البلاد. وما يحكم حجم هذه الحصة، ليس قوة حضور الطائفة في الداخل، بل تبعيتها للخارج، وتوازن القوة بين المتصارعين على لبنان.
وقد رأينا الكوارث التي تسببت فيها البنية السياسية، في الانهيار الكبير لليرة اللبنانية، في السبعيينيات من القرن الماضي، والتي لم تتعاف منه، منذ ذلك الحين.
بل إن أيام ما قبل الانفجار شهدت انهيارا غير مسبوق لليرة، أودت بها إلى الحظيظ، فبات سعر الدولار في السوق السوداء أكثر من 9000 ليرة.
نعول كثيرا، على المشهد التراجيدي، والحزين وحالة الغضب التي تعم وطن الارز، لتحقيق انتقال دراماتيكي في السياسات، انتقال يبعد الوجوه الكالحة من المشهد، ويصوغ لبنان جديد، على أساس مبدأ المواطنة، وبناء دولة المؤسسات المدنية، فعسى أن ينبعث طائر الفنيق من جديد، فتكون أرواح الشهداء، وأنين الجرحى، وعذابات المشردين، محرضا للعمل والبناء، وتغيير المشهد السياسي ليعود للبنان الجميل ألقه وحضوره.