حول الفدرالية والدستور العراقي
من المفترض، حسبما هو مقرر، أن يجري الاستفتاء على مسودة الدستور العراقي الجديد، الذي تمت صياغته بإرادة وإشراف إدارة الاحتلال الأمريكي، في 15 أكتوبر عام 2005.
إن جملة من الأسباب تجعل من الملح تناول هذا الحدث بشيء من التفصيل والتحليل. فهذا الدستور، بالنتائج السوقية التي تمخض عنها، هو المثل الأعلى الذي تسعى الإدارة الأمريكية لتعميمه في المنطقة، ضمن مشروع الهيمنة الذي بدأت تنفيذه على الأرض بعد إعصار الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م. وهو أيضا يمثل سابقة في التاريخ العربي المعاصر، ليس لها ما يماثلها، من حيث تمييزه بين الأرض وبين الشعب الذي يقيم عليها. إن أهمية مناقشته تكمن في أنه يعيد صياغة الجغرافيا العربية، بما يتجانس مع سياسة العولمة الجديدة في التفتيت ومصادرة الهوية القومية. وبالمثل، فإنه أول دستور يصدر في بلد عربي بإرادة قوى سطت على خيراته وثرواته وصادرت كيانه، وقامت بحملات تطهير سياسية وعرقية بحق شعبه… ومن البديهي أن تأتي صياغته ومجمل بنوده متماهية مع طموحات المحتل ومصالحه ورغباته. إن مناقشة هذا الموضوع ملحة أيضا، لأن نتائج تطبيقه تتعلق بشكل مباشر بأمننا الوطني والقومي، بل بمستقبلنا ووجودنا. ومن هنا يغدو اقتحامه، ومناقشته بالتفصيل والتحليل أمرا مشروعا.
والموقف منه هو أيضا ليس موضع إجماع من العراقيين أنفسهم، ومن العرب.. بل وحتى في الداخل الأمريكي. فعلى سبيل المثال، تقف شرائح واسعة من النسيج العراقي من مختلف التلاوين والطوائف ضد هذا المشروع. فهناك الأحزاب السياسية القومية تقف علنا ضد المشروع، وترى فيه شرعنة للاحتلال واعترافا بنتائجه. وهناك أيضا هيئة كبار علماء السنة، وعناصر المقاومة الوطنية.. وهي عناصر، أيا يكن موقف السعداء بالاحتلال منها، فإنها تفعل فعلها على الأرض وتقض مضاجع المحتلين، وتدفع بقوى العدوان إلى الخلف. وهناك أيضا، التيار الصدري. وهو تيار يحسب حسابه، ويتواجد في معظم المدن العراقية في الوسط والجنوب. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك علماء أجلاء من الطائفة الشيعية يقفون بحزم في مواجهة هذه الخطوة يأتي في المقدمة منهم آية الله الحائري وآية الله البغدادي وسماحة حجة الإسلام، محمد جواد الخالصي، الأمين العام للمؤتمر التأسيسي العراقي. وقد برز عدد منهم في الفضائيات العربية وأدانوا الاحتلال وإفرازاته، واعتبروا التصويت على الدستور هو الأخطر من بين تلك الإفرازات. فها هو الشيخ الخالصي يقول بوضوح في مقابلة له في فضائية الجزيرة: “نحن نعارض هذه المُسودة لأنها ناتجة من عملية سياسية رفضناها منذ البداية، لأنها قامت على رغبة خارجية لا تمثل إرادة شعبنا ونرفض أن يقال إن هنالك فئة واحدة من العراقيين تعارض هذه العملية ثم تعارض هذه المُسودة، هنالك عراقيون في كل أنحاء العراق يعارضون هذا المشروع الخطير الذي يمس سيادة البلد ويمس وحدة البلد”. وقال أيضا: “إن الكلمات الواردة في الدستور ليست جيدة وفيها الكثير من المغالطات ومن الألغام الخطيرة المستقبلية، والحديث عن المساواة بين المواطنين ليس جديدا. إنه موجود في كل دساتير المنطقة وفي الدستور العراقي منذ العشرينات، فهل هذا جدير ليكون مصدر إلهام في هذا الشأن؟ النقطة الأخرى الخطيرة في هذه القضية هي أن هذا الدستور يجري في خلال وضعه انتهاك خطير لحقوق الإنسان في العراق، فمن الآن بدأت القضية.. العبارات حتى لو كانت جميلة فإن الممارسات خطيرة ومتعددة وثقيلة. الانتخابات السابقة جرت في ظل تدمير مدينة عراقية اسمها الفلوجة وقبلها دمرت النجف وقبلها دمرت مدينة الصدر في بغداد والأزمة مازالت مستمرة وانتهاكات حقوق الإنسان تجري”.
وعلى الصعيد العربي، انبرى العشرات من الكتاب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، لإدانة هذه الخطوة باعتبارها إسفينا في خاصرة الأمة العربية، ومحاولة استعمارية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. والمقالات في هذا الاتجاه هي بالعشرات.
أما على صعيد الإعلام الأمريكي، فحسب ما ورد في جريدة الشرق الأوسط بعددها الصادر في 24 أغسطس 2005 وجهت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية انتقادات لاذعة إلى مسودة الدستور العراقي، واعتبرت أنها “لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم”. وقد خصصت هذه الجريدة افتتاحيتها في 23 أغسطس للتعليق على مسودة الدستور العراقي. ولم توفر بانتقاداتها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش التي “لأسباب سياسية” حسب تعبير الصحيفة” فرضت “مهلة زمنية تعسفية” لتقديم مسودة الدستور. واعتبرت أنها “لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم”.
ولعل أهمية الموضوع تقتصي منا، قبل الولوج في مناقشة البنود الرئيسية للدستور، أن نتيح المجال لبعض المسلمات النظرية، ذات العلاقة المباشرة بمفهومي الدستور والفيدرالية، لكي نجعل القارئ الكريم يقترب من فهم أفكارنا، وحتى لا تكون أحكامنا تعسفية ومرتجلة.
فإذا ما استخدمنا اللغة القانونية، فإن الدستور، بشكل مبسط، هو مجموعة من القواعد أو القوانين التي تتعلق بتنظيم ممارسة السلطة في الدولة، والمقياس الذي تقاس به دستورية القوانين، باعتباره يمثل القاعدة العليا في الدولة. فالدستور إذا هو الذي يحدد طبيعة الدولة ونظامها السياسي وعلاقة الحكام بالمحكومين والفرد والمجتمع بالسلطة. فهو المقياس الذي تقاس به دستورية القوانين. والنظام الدستوري هو الذي تكون السلطة فيه مقيدة بالدستور، الذي يكفل حقوق وحريات المواطنين، ويقدم الضمانات لعدم التجاوز عليها. ويتميز عن غيره من الأنظمة، في الغالب، بوجود دستور دائم، ينظم الحياة السياسية ويضع قواعد لرقابة فعالة على السلطة التنفيذية. ودولة القانون هي التي تنسجم فيها القوانين التي تصدرها السلطة مع منطوق الدستور. ومن هنا ينبغي إيجاد ضمانات قانونية لحماية الدستور، باعتباره القانون الأعلى، خصوصا عند التعارض بينه وبين القوانين الأخرى، التي ينبغي أن تتجانس معه، مع التسليم بتدنيها في المرتبة.
وإذا كان الدستور هو تلخيص لمجموعة القيم والمبادئ والقوانين الأساسية التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، وعلاقات سلطات الدولة المختلفة ببعضها البعض. وأنه بذلك يحدد أيضا طبيعة نظام الحكم القائم، فإن ذلك يعني في أولوياته أن الدستور غير المكتوب ينشأ أولا، وأنه سابق على الدستور المكتوب. ربما لا يستطيع الناس صياغة نصوص الأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها، ولكنهم حتما لا يؤمنون بتلك النصوص فجأة ودونما مقدمات، مع كتابة الدستور أو بعد قراءته.
الدساتير في أبسط أبجدياتها تعابير عن قناعات الأمم. إنها تلخيص لقناعاتهم بما ينبغي أن يكون عليه تنظيم الحكم والدولة، بناء على تجربة تاريخية خاصة.. إنها صوت ضمير الأمة بأسرها، وتعبير حقيقي عن توقها في صياغة نوعية لمستقبلها في سياق المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم. ولذلك فإن تبلور الأفكار والمبادئ التي ينطوي عليها الدستور لا يمكن أن تكون مجرد لحظة عابرة، بل عن موقف وطني جماعي، يمثل نبض الأمة وإيقاع حركتها، وعن تراكم تاريخي، تكون تجليات الدستور معبرة عنه. وهكذا فإنه لا يكون نتيجة لتحكم الأهواء ولا الأكثريات المفارقة. وهي تجليات تترفع عن الخلاف الحزبي وعن صراعات النفوذ بمعانيها الضيقة. إن الدستور بشكل مختصر هو تجسيد حي لإرادة شعب في صياغة عقده الاجتماعي، يقتصر دور الفقهاء فيه بكتابته من خلال استلهام تلك الإرادة عند صياغة العقد، وتحويله إلى بنود مكتوبة، لا أن يجري العكس تماما، فيكتب الدستور ثم تجري عملية شرحه وإقناع الشعب به.
وحين نتحدث عن أهمية أن يكون الدستور تجسيدا لإرادة شعب، فنحن لا نتحدث عن أغلبية بسيطة، ولا حتى الأغلبية غير العادية التي تشترط الدساتير توفرها من أجل تغيير بند من بنودها، ولا هو شخصية اعتبارية ناجمة عن تقاطع إرادات الأفراد كما تخيله بعض المفكرين من أجل خلق نموذج يشرح العقد الاجتماعي المتخيل… الإجماع الذي ينبغي أن يقوم عليه الدستور هو قناعة جميع أفراد الشعب، باختلاف مللهم ووظائفهم، وإجماع كل القوى السياسية ذات التأثير والقوة والنفوذ وجل مراكز النفوذ مثل العسكر والنخب الاقتصادية والسياسية والثقافية على احترامه، وتسليمها بأن بإمكانها مواصلة أداء وظائفها والحفاظ على مصالحها في إطار الدولة وبحماية الدستور، وقناعتها الأكيدة بأن العبث به يعني اختلال التوازن، بما يعود بالضرر على جميع أبناء الأمة.
ليست لحظة صدور الدستور هي لحظة الاحتلال، أو الانقلاب أو التغيير السياسي وهي ليست بالضرورة لحظة توفر الأغلبية لصالحه. اللحظة الدستورية هي لحظة التوازن المطلوب لترجمة القيم السياسية والحقوقية التي يتفق الجميع على أرجحية سيادتها. وكتابة الدستور هي الفعل الجوهري للتعبير عن الإجماع… إن الدستور هو التعبير عن الإرادة الجماعية في منظومة محددة من القيم والحقوق والواجبات، والعمل من أجل وحدة الوطن وضمان أمنه وحريته واستقراره.
من هذه المسلمات، سنتجه مباشرة لمناقشة قضية الدستور والفيدرالية بالعراق في الحديث القادم بإذن الله.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-09-07