حول العلم والأيديولوجيا
د. يوسف مكي
مع الاعتراف بسعة مدلولات مفهومي العلم والأيديولوجيا، فإننا هنا نوصف العلم، بصفته الأداة التي تمكننا من اكتشاف الكون، أما الأيديولوجيا، فتساعدنا على اتخاذ موقف منه.
المهمة الأساسية للعلم، هي المساعدة على اكتشاف الكون وقهر الطبيعة، وافتراضا تحقيق أكبر قدر من الرخاء والعيش الكريم للإنسان. وهي في كل هذا يفترض فيها أن تكون وصفية وحيادية، كمية ودقيقة. أما الأيديولوجيا، فمهمتها تحديد موقف معرفي للكون وللمجتمع والإنسان. إنها بمعنى آخر، موقف من الأشياء، ومناهج تمد بقواعد من السلوك. وهي في كل هذا تعبر عن أفكار قيمية تعبوية، هدفها الأساس ليس المعرفة بل العمل.
على أننا لو أمعنا النظر، في العلاقة بين المفهومين، لوجدنا المسافة بينهما ضيقة، رغم الاختلاف في تعريفهما. فعلى الرغم من أن الدور الذي يضطلع به العلم، يفترض فيه أن يكون حياديا، هدفه تقديم المعرفة ضمن مصنفات نظرية، بعد تحقيق واستقصاء، موضوعيين، إلا أن القراءة المتأنية لتاريخ العلوم، ترينا أن الفلاسفة والعلماء منذ أقدم العصور، لم يفصلوا أبدا بين مهمة اكتشاف الكون وتحديد موقف منه. وقد سخروا حاصل اكتشافاتهم وتجاربهم العلمية للمساعدة في إنجاز هذين الهدفين.
دفع إلى هذا الحديث، مناقشة حدثت على هامش أحد المؤتمرات الفكرية التي عقدت مؤخرا، في أحد الدول الخليجية، حول قيمة السؤال. وكانت المقدمة، هي أن الثقافة العربية، تغيب الأسئلة، وأن طرح الأسئلة هو ما يميز ثقافة الدول المتقدمة، عن غيرها من ثقافات بلدان العالم الثالث.
لكن هذا الطرح، يغيب ماهية السؤال. فليس كل سؤال، يقود إلى انتعاش ثقافة التحليل والتفكيك. والمهم هو البيئة التي تطرح فيها الأسئلة. ففي مناخات التخلف والخرافة والدجل، تطرح الأسئلة، من داخل هذه الثقافة، وليس من خارجها. وتسهم الأسئلة في هذه الحالة، في ترسيخ سواري التخلف، ولا تكون عامل وعي ويقظة.
وهذه القراءة، تنقلنا إلى محطة أخرى، في طرح الأسئلة، هي تقنياتها. فالأسئلة التي تتطلب جوابا بنعم أو لا، لا تتطلب قراءة أو تحليلا معمقا. وحتى الأسئلة المتعلقة بالماهية والكيفية، لن تكون بأي حال معزولة، عن بيئة السؤال، التي تكون في الغالب موجهة، أو تقود بطبيعتها إلى جواب محدد، بما ينفي الحياد.
والحديث عن الحياد في طرح الأسئلة يقود إلى موضوع العلاقة بين العلم والأيديولوجيا. إنه يطرح إشكالية حيادية العلم. وهو موضوع سجالي، هل يمكن فعلا الزعم بأن العلم، حالة مجردة، ليس للرؤية والموقف والالتزام، أدوار فيه. لماذا يختار الباحث، موضوعا معينا للبحث، ولا يختار غيره، مع أن مواضيع البحث في جميع مجالات التخصص، كثيرة ومتشعبة؟!
في البحث العلمي، هناك موقف نظري، ومنهج وفرضيات وتحديد للمفاهيم. وفي كل محطة من محطاته، نصطدم بموقف وإجراء، يخدش مفهوم الحياد، أو يقترب من إلغائه.
للباحث في العلوم الإنسانية، أن يسترشد بنظرية ليعالج، حالة من الحالات ذات العلاقة بتخصصه. كأن يناقش أسباب التضخم الاقتصادي في بلد ما، أو عكس ذلك. ولماذا تنتشر الأمية في بلد ما ولا تنتشر في بلد أخر. وفي كل حالات البحث، يسترشد الباحث، بنظرية من النظريات المعروفة في العلوم السياسية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية.
يبدأ الباحث، بطرح المشكلة، والتعليل لاختيارها دون غيرها. وذلك ينطلق من رؤية خاصة، والرؤية تنطلق من موقف والموقف ينطلق من انحياز، وذلك ما يلغي معنى الحياد.
يختار الباحث لمعالجة المسألة، إطارا نظريا، والنظريات كثيرة، ومتضاربة، وتصل حد التناقض فيما بينها. لنأخذ على سبيل المثال، نظريتين، في تفسير أسباب النكوص الاقتصادي في بلد ما من بلدان العالم الثالث. نظرية التمدين، لوالت روستو، والتي تقول بأن الانتعاش الاقتصادي للبلدان المتخلفة، لن يتحقق إلا باندماجها في السوق الرأسمالي. وأن العلاقة بين البلدان الصناعية، والبلدان المتخلفة، هي علاقة تكاملية، يكون دور بلدان العالم الثالث الاستهلاك، وتقديم المواد الخام، بحيث تكون أسواقا مستقبلة، للمنتجات الواردة من الخارج. ويكون دور الدول الصناعية، هو تحويل المواد الخام، والتصنيع. وأن ذلك هو ما يكفل للدول المتخلفة، تغيير واقع الحال، والوصول إلى مرحلة الانطلاق الاقتصادي Take off.
في حين ترى نظرية التبعية، ومن بين أقطابها المفكر العربي، سمير أمين، أن المعضلة، تكمن في خلل العلاقة بين المركز والمحيط. وأن العلاقة بينهما هي علاقة صراعية، وليست تكاملية. لا يمكن تشبيه تلك العلاقة بعلاقة فريق كرة قدم، يحظى فيه كل فريق، بذات الحقوق. إنها علاقة قائمة منذ اللحظة الأولى، على عدم الندية والتكافؤ، بما يوصف بالتطور اللامتكافئ. وأن واقع التخلف في بلدان العالم الثالث، سوف يستمر، إلى أن تتمكن بذاتها، من خلق محركاتها الذاتية، والانطلاق إلى عالم الصناعة ومكننة الزراعة.
ولا يقف واقع التشكيك في حياد البحوث، عن هذا الأمر، بل يصاحبنا ذلك في المنهج. فالباحث، دون غيره، هو الذي يختار منهجه. والمناهج كثيرة ومتعددة. هناك منهج التحليل التاريخي، والتحليل النفسي، والتحليل النوعي، والتحليل السياسي، والتحليل الاقتصادي، كمي أو نوعي. والباحث عادة يبرر أسباب اختياره لمنهج بذاته، دون غيره. لكن من يضمن لنا أن يكون هذا التبرير، بعيد عن الهوى، أو عن الرؤية والموقف الأيديولوجي.
خلاصة القول، هو أن من الصعوبة جدا الفصل بين العلم والأيديولوجيا، وبين اكتشاف الكون واتخاذ موقف منه. ويبقى الحديث بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.
التعليقات مغلقة.