حول الدولة المدنية والمواطنة

0 480

تشير فكرة الدولة المدنية إلى بناء فوقي، مهمته تدمير أمور الشأن العام، بما يكفل الأمن والتكافل بين مجموعة من البشر، تعيش على أرض مستقلة، بحدود معترف بها، وتحتفظ بحقوق قانونية، ويقبل الجماعة بسلطتها. وقد اقترن مفهوم الدولة بالعصر الحديث، بالفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية،


وبوجود مؤسسات الضغط المدنية.والفكرة هي نتاج تطور تاريخي، ارتبطت مقدماتها بالمرحلة التي هيأت مقدماتها للثورة الصناعية. وهي جزء من سيرورة عصر الأنوار الأوربي, وأساسها التبشير بنشوء دول حديثة، تقوم على قاعدة المساواة ورعاية الحقوق، وتنطلق من قيم وضوابط في الحكم والسادة. وقد تبلورت عبر اسهامات متعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية.

أما المواطنة، فإنها مشتقة، من الوطن، يرتبط في تطبيقاته بالدولة الحديثة، التي نتجت عن عصر الأنوار الأوروبي، والثورة الصناعية، والثورات الاجتماعية، التي شهدتها القارة الأوروبية، منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وتحديدا مع الثورة الفرنسية عام 1789. وإذا فالمعنى، كما هو مستخدم الآن، وافد من خارج الإطار المعرفي العربي.

يشير مفهوم المواطنة، إلى المساواة والندية، وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتتحول إلى عنوان الهوية. وأول من قال بالمواطنة، هو الفيلسوف الإريقي أرسطو، الذي اعتبرها من أساسيات المجتمع المدني. واقتصرت ممارستها على أناس مؤهلين ومكتملين إنسانيا. استثنى أرسطو العبيد والنساء والبرابرة، من ممارسة حقوق المواطنة، باعتبارهم غير مكتملين إنسانيا.

التطورات التاريخية، والثورات الاجتماعية، فرضت الانتقال من المفهوم القديم الذي سادت فيه الامبرابطوريات، والحكم المطلق والذي يعتبر الفتح بالرضا أو بالقوة، من أساسيات نشوء الكيانات الكبرى، إلى مفهوم الدولة المدنية، المبني على العلاقة التعاقدية، وعناصر المواطنة، هي الأرض والسيادة والعقد الاجتماعي. هذه التطورات، لا يوجد ما يماثلها، في البلدان العربية، بسبب مورثات سكنت في اليقين طويلا، ولتعطل النمو في الهياكل الاجتماعية، الذي هو نتيجة طغيان الاستبداد العثماني على الأمة، لقرون عديدة.

مبدأ المواطنة، يعتبر الهوية السياسية والقانونية، قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي. وتستند المواطنة، على مشتركات ثقافية. وبربط الباحثون بين بروز هذا المبدأ وبروز عصر القوميات، ونشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية، لحدود كل دولة، من خلال اعتراف الجيران، وبقية دول العالم بسيادتها، ضمن هذه الحدود. وإلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، ونشوء عصبة الأمم، استمر الاعتراف عمليا بحق الفتح، الذي يتيح للامبراطوريات، التوسع في ممتلكاتها، على حساب الأمم الأخرى.

في ظل دولة المواطنة، يعيش المنتمون للدولة، تحت خيمة الوطن، يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديموغرافي، أو الانتماء الديني، أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزا في الحقوق على الآخرين. والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلا إيجابيا، يضيف قوة إلى المجتمع ولا يأخذ منها.

انطلق المفكرون والفلاسفة، الذين أسهموا في صياغة نظرية الدولة المدنية، من اعتقاد راسخ، بأن الطبيعة تقوم على الفوضى، وطغيان الأقوى، حيث تسود نزعات القوة والسيطرة والغضب، ويغيب التسامح، والتعاون من أجل العيش المشترك.

إن تأسيس الدولة المدنية، هو الذي يتكفل بلجم نزعات القوة والسيطرة، ويصد البشر عن الاعتداء على بعضهم البعض. وشرط تحقق ذلك، هو تدشين مؤسسات سياسية، وقانونية، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية. ويكون من المهام التي تضطلع بها الدولة المدنية، تنظيم الحياة العامة، وحماية الملكية الخاصة، وشؤون التعاقد، وأن يطبق القانون على جميع الناس، بغض النظر عن مواقعهم وانتماءاتهم.

والأهم في الدولة المدنية، هو تمثيلها لإرادة المجتمع، كونها تنبع من إجماع الأمة، ومن إرادتها المشتركة. إن ذلك يعني، أنها دولة قانون، فهي اتحاد أفراد يخضعون لنظام من القوانين، ويعيشون في مجتمع واحد، مع وجود قضاء مستقل، يطبق هذه القوانين، بإرساء مبادئ العدل، حيث لا تنتهك حقوق أي فرد من أفراده، من قبل أي كان. ويتحقق العدل، من خلال وجود سلطة عليا، تحمي حقوق المجتمع، أفرادا وجماعات، وتمنع أي نوع من الانتهاكات والتعديات عليها.

تستند الدولة المدنية، على مجموعة من العلاقات، قوامها التسامح، وقبول الآخر، المساواة بالحقوق والواجبات، وتؤسس هذه القيم لمبدأ الاتفاق، المستند على احترام القانون، وعلى السلام والعيش المشترك، ورفض العنف، وعلى القيم الإنسانية العامة، ورفض النزعات المتطرفة. ولا تستقيم الدولة المدنية، إلا بشيوع مبدأ المواطنة، حيث يعرف الفرد بانتمائه للوطن، وليس بمهنته أة معتقده أو منطقته، أو بماله أو سلطته، وإنما يعرف قانونيا واجتماعيا بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين.

في الدولة المدنية، يؤسس القانون قيمة العدل، والثقافة قيمة السلام الاجتماعي، والمواطنة قيمة المساواة.

لا تعادي الدولة المدنية، العقائد، أو ترفضها، فهي الباعث والمحرض على الصدق والإخلاص، والأخلاق والاستقامة والالتزام، والعمل والانجاز والنجاح في الحياة. إن ما ترفضه، هو استخدام الدين، لتحقيق أهداف سياسية، والاستغراق في تفسيرات تبعده عن عالم القداسة، وتدخل به إلى عالم المصالح الضيقة. ومن ثم فإن ليس أداة للسياسة، وتحقيق المصالح، ولكنه طاقة وجودية، وإيمانية تمنح الأفراد، مبادئ الأخلاق وحب العمل.

وسيظل مفهوما المواطنة والدولة المدنية، مدخلين للوج بقوة في الحداثة، والتماهي مع عصر كوني، سمته احترام الكرامة الإنسانية، حيث يسود العقل والتقانة والمعرفة ودولة القانون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × خمسة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي