حول الجدلية الجغرافية في التاريخ المشرق العربي نموذجا 25/1 حول الجدلية الجغرافية في التاريخ المشرق العربي نموذجا

223

القسم الأول

مـقـدمـة

كان علماء العرب قد تنبهوا منذ وقت مبكر لأهمية العوامل الجغرافية في صناعة التاريخ. فقد أشار ابن المقفع إلى أثر البيئة في تكوين اللغة العربية، وإلى دورها في تطوير طباع وسجايا العرب.[1][1] ووافق الفيلسوف الفارابي هذه الرؤية فأرجع الخلق والشيم الطبيعية إلى أثر البيئة والموقع الجغرافي (والفلكي) وما يتصل بذلك من مميزات في الهواء والحياة وأنواع النبات والحيوان.[2][2] وقد لاحظ المسعودي أهمية العوامل الجغرافية في التاريخ فأشار إلى أن السمات الطبيعية والإمكانيات الفكرية تـتأثر بالأوضاع الجغرافية والظروف المناخية، وأوضح أن مقومات الأمم في التاريخ تتأثر بثلاثة أمور هي شيمهم (طبيعتهم) وخلقهم الطبيعية وألسنتهم، وأعطى البيئة الجغرافية الدور الرئيسي مقارنة بالميزتين الأوليتين.[3][3] وجاءت نظرية العلامة ابن خلدون متفقة مع هذه النظرة، حيث ترى وجود أكثر من عامل لتحديد أساس الأمة بضمنها أثر البيئة الطبيعية، وتتناول أثر هذه العوامل في تحديد نوع المعاش وألوان البشر وسماتهم وعوائدهم وأخلاقهم، وأن ذلك التأثير يمتد إلى الأحوال الدينية.[4][4]

وليس غريبا أن يتوصل المـفكرون العرب القدماء إلى هذا الوعي المبكر لأهمية الجغرافيا في توجيه الصيرورة التاريخـية، فـقد عاش هؤلاء، في منـطقة لعـبت فيـها البيئة والمناخ والموقع دورا حاسما في صناعة تاريخ هذا الجزء من العالم.

فمنذ فجر التاريخ، كان لتلك العوامل الجغرافية أثر رئيسـي في الدور البارز الذي لعبه أبناء هذه المنطقة في المشاركة بفعالية في بناء الحضارات الإنسانية. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أنه بسبب من الجغرافيا، شهد هذا الجزء من العالم بداية السؤال عن كنه الوجود، وفيه تمكن الإنسان من قهر الطبيعة في كثير من حلقاتها، كما شهد قيام أول سلطة مركزية في التاريخ، ويأتي تفرد المنطقة باستقبال رسالات السماء، وبناء الأهرام وحدائق بابل المعلقة، والتقدم في وسائل التحنيط، واكتشاف الحرف، والانفتاح على إبداعات الحضارات وإنجازاتها إشارات واضحة على أهمية المكان.

على أن أهمية الجغرافيا، التي جعلت من هذا الجزء من العـالم مهدا وموطنا أولا للحضارات، كانت ذاتها السبب في تكالب القوى الخارجية عليه، وفي بروز مشاكل اجتماعية وإثنية وسياسية فيه، أدت إلى تعطل دوره الحضاري. فمنذ سقوط بغداد، عاصمة العباسيين، عام 1258م، تعطل الدور الفاعل للأمة العربية، وبقي العرب يغطون في نوم طويل تحت هيمنة التتار وسلطان الاستبداد العثماني. وفي بداية هذا الـقرن، بدأ العرب يتململون، ويقومون بمحاولات جادة من أجل التحرر والإنعتاق. ولكن تلك المحاولات تعثرت ولا تزال. وكان الوطن في كل تلك المحاولات محملا بثقل جغرافيته…

تحاول هذه الدراسة، من خلال رصد سريع وموجز لدور الجغرافيا في توجيه الصيرورة التاريخية العربية، أن تسلط الدور على أثر الجدلية الجغرافية في صناعة التاريخ. إن موضوعها هو محاولة اكتشاف ثنائية التقدم والتراجع… النهضة والتداعي…

وهي لذلك تتـعامل مع الجغرافيا ليس بوصفه العلم الذي يدرس الاختلافات المناخية والتضاريسية فحسب، ولكن بوصفه العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم. وباعتباره أيضا رابطا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وتستأنس في ذلك برأي الدكتور إي. و. جلبرت في أن علم الجغرافيا هو: “فن التـعرف على شخصيات الأقاليم ووصفها وتفسيرها”[5][5]. ولا ترى في التاريخ سجلا لتدوين الحوادث وتقديم شروح وصفية لها فحسب، ولكن باعتباره صيرورة. ولذلك فهي معنية بوعي مشاهد المسرح الذي تحققت وتطـورت فيه الحادثة التاريخية ذاتية، أو وافدة من الخارج. يحدونا في ذلك طموح في أن يسـاهم هذا الرصد في تجذير الوعي بدور الجدلية الجغرافية في تداعي حضارات وقيام أخرى جديدة على ركام الحضـارات البائدة، وبالتالي في صنع وتوجيه حركة التاريخ العربي قديمه وحديـثه.

وقد تم اختيار المشرق العربي نموذجا لهذه الدراسة. وجرى تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم هي: وادي النيل، وما بين النهرين، وجزيرة العرب، يتم تسليط الضوء فيها على أهمية الموقع وجدليته في التاريخين القديم والحديث. ولم يكن اختيار هذا الجزء من الوطن العربي لدراسة ثنائية الموقع اعتباطيا. ففي وادي النيل وما بين النهرين بدأ الإنسان يتلمس خطواته نحو التقدم والنهوض. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهد الإقليمان بداية حركة الانبعاث، ومقاومة الاستعمار والنضال في سبيل الحرية والاستقلال. أما الجزيرة العربية، فمنها انطلقت رسالة الإسـلام العظيمة، وعلى أرضها تم وضع الأسس لبناء الحضارة العربية الإسلامية، ومنها انطلق العرب لنشر عقيدتهم في سائر أرجاء الأرض. وفي العصر الحديث، بعد اكتشاف النفط أصبح لهذه المنطقة أهمية قصوى في الحسابات الإستراتيجية للدول الكبرى. ولذلك يأتي هذا الاختيار ضمن سياق موضوعي وجدل صحيح

التالي

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-06-10

د.يوسف مكي