حول التصحر ومشاريع الوحدة
منذ مطالع السبعينيات من القرن الماضي، وإثر تراجع المشروع النهضوي العربي، الذي بدا واضحا، بعد الهزيمة العربية، في نكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967م، بدأت التنظيرات تتلالى، لتفسير أسباب هذا التراجع. وصدرت عشرات الكتب، ومئات المقالات، لقراءة وتحليل أسباب نكوص المشاريع القومية.
صدرت دراسات علمية عميقة، يعتد بها، تناولت بالتفكيك والتحليل انتكاسة مشروع النهصة، ووضعتها في سباق تاريخي وموضوعي صحيحين. وتناولت تلك الدراسات أسباب انتكاسة مشروع العمل القومي، من منظور سياسي واجتماعي واقتصادي وسيسيولوجي. ولا تزال تركة حقبة النهوض، موضوعا لدراسات مستمرة حتى يومنا هذا، طالما استمرت أزمة الدولة العربية.
وبالمقابل، صدرت دراسات، حملت أطروحات أخرى لتعليل تراجع المشروع الوحدوى القومي العربي اتسمت بالتبسيط والسطحية. بين تلك القراءات، من أرجع فشل المشروع الوحدوي العربي، إلى تعدد الانتماءات الدينبة والطائفية والقومية، واعتبر التشكيل الفسيفسائي للبلدان العربية، عائقا دون تحقيق الوحدة العربية. وهناك أيضا، من أرجع غياب التواصل بين البلدان العربية، إلى كثرة الصحاري، والأراضي القاحلة، التي تمنع التواصل الجغرافي العربي. لقد خلق الانقطاع في الجغرافيا، وانتشار الصحاري والبوادي، سدودا قوية تحول دون اندماج البلدان العربية، في دولة واحدة. وقيل في هذا السياق، أسباب أخرى، لا تستحق الوقوف عندها طويلا، كالنفسية البدوية الأنطوائية للعربي، التي ترفض الإندماج، والمورثات الدينية، التي قبل أنها تحض على الكراهية، وترفض ثقافة التسامح.
نقتصر هذا الحديث، على مناقشة أطروحة التصحر، وندع الأطروحات الأخرى، لأحاديث قادمة, اختيار أطروحة التصحر، هذه الأطروحة، للأسف وحدت من يتلقفها ويدافع عنها، وبرز أشخاص، اعتبروا ضمن قائمة المفكرين العرب، كتبوا فيها وداقعوا عنها، رغم أنها أوهن من بيوت العنكبوت.
يتناسى هذا الطرح، قيام امبراطوريات كبرى، منذ القدم وعلى مسار التاريخ، شملت قارات عديدة، وعبرت صحاري وبراري على ظهور الخيول والجمال، ونشأت حضارات كبرى، أيضا في مثل تلك الظروف، من ضمنها الحضارة العربية الإسلامية، التي طرقت أبواب الصين شرقا، وبلغت أسبانيا غربا. وضمت أمما وأعراق ولغات وأديان ومذاهب. ولم تحل هذه الأسباب دون قيام هذه الامبراطوريات التي استمرت قرون عديدة.
وإذا ما ركزنا واقع تاريخ العرب، وبدأنا من نقطة البداية في تشكل حضارتهم، تحضر لنا حروب الردة، التي أخذت مكانها مباشرة، إثر وفاة الرسول الأغظم وامتناع عدد من المناطق عن دفع الزكاة ومبايعة الخليفة الأول، أبو بكر الصديق. حروب الردة هذه، التي قادها خالد بن الوليد، استمرت لأقل من سنتين، وتكللت بالنصر، قبل رحيل الخليفة الأول.
لقد أخذت حروب الردة مكانها، في مناطق متناثرة من جزيرة العرب، في اليمن وعمان ونجد والبحرين، وعبرت بوادي وصحارى، وشهدت وقفات تعبوية، وتحالفات قبلية، ما كان لها أن تتحقق لولا خبرة أبناء الجزيرة ومعرفتهم بعضهم البعض. والنصر الكبير الذي حققه العرب في حروب الردة وبفترة قياسية، هو أكبر تفنيد لزيف أطروحة الصحراء، التي روج لها في العقود الأخيرة.
وإذا ما انتقلنا إلى موضوع التفاعل والتواصل الحضاري بين أفراد الأمة على امتداد جغرافيتها الواسعة والممتدة، نجد أنفسنا أمام أمور مبهرة. ولعل معظمنا قرأ عن السجال الذي دار بين الغزالي، في بلاد فارس، التي كانت جزءا من الامبراطورية العربية، في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة، والرد على هذا الكتاب، من قبل ابن رشد، في أقصى الغرب، من جغرافية الأمة، وكيف انتشر هذا السجال، وعم مختلف أجزاء البلدان العربية والإسلامية. ولا يزال الكتابان، محركان لسجالات وأطروحات وكتب كثيرة، صدرت، ولا تزال تصدر بشأنهما حتى يومنا هذا.
وحين ننتقل من باب الفكر والفلسفة، إلى شؤون الأدب، فمن من العرب لم يطرب للموشحات الأندلية، ولأدب بن هاني وابن زيدون. لقد مثل هذا الأدب الرفيع نبض تاريخنا العريق، ونقلنا بإيقاعاته الأخاذة والجميلة إلى مستوى أرقى، وبقي خالدا حتى هذا اليوم، مصدر بهجة وفرح، ومتعة لآذاننا، تصدح به فيروز، مطربة الأرز، والعرب كل صباح.
وأذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث، باعتبار موضوع تراجع المشروع النهصوي العربي، ينتمي لهذا العصر، فإن الدول الكبرى، ومن ضمنها روسيا والولايات المتحدة والصين، تحوي صحارى كبرى، لا تقل سعة عن صحارى الوطن العربي، لم تمنع وحدتها، ولا تفاعل بشرها مع بعضهم البعض. نذكر في هذا السياق، صحارى نيفادا وأريزونا ويوتا، في الولايات المتحدة الأمريكية، وصحراء التبت في الصيين، والمناطق الجليدية الواسعة في روسيا. ولم تشكل هذه المناطق، مانعا حقيقيا، يحول دون وحدة هذه البلدان الكبرى.
قراءة أسباب انتكاسة مشاريع النهضة، أمر جوهري وملح، لخروج الأمة من النفق الراهن. ولكن ذلك ينبغي أن يتم وفق سياقات تاريخية، لا تغيب حقيقة أن هذه الأمة سبق لها، وأن حققت وحدتها، في ظروف تاريخية مختلفة. كما ينبغي أن تأخذ بالحسبان دائما طبيعة الهجمة الخارجية، على الأمة التي استمرت طويلا، منذ سقوط بغداد، واستمرارا بهيمنة الاستبداد العثماني، الذي جثم على صدر هذه الأمة قرونا طويلة، وتسب في تعطل مسيرتها ونهضتها. وتواصل ذلك بالهجمة الغربية، التي شملت معظم بلدان الوطن العربي، وكان وعد بلفور المشؤوم 1917 هو أحد تجليات تلك الهجمة.
لقد أعاقت هذه الهجمات التطور الطبيعي للبنيان الاجتماعي للأمة، ونتج عنها ضعفا كبيرا في التشكيلات الاجتماعية، وكرست شبكة العلاقات القديمة، ولن يكون بالمقدور الحديث عن مشروع نهضوي حقيقي يأخذ مكانه في الواقع العربي، إلا بتجاوز هذه التشكيلات، وإعادة الاعتبار لمشروع التنمية والحداثة، اللازمين لأي مشروع نهضوي حقيقي.